زكي نجيب محمود - فلسفة سبينوزا.. -2-

شرحنا في المقال السابق فلسفة سبينوزا الميتافيزيقية التي تتلخص في أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلا بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبدا، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. وذكرنا أن ذلك القانون الأعلى وهذه الطبيعة شيء واحد لا يقبل التجزئة.

ونزيد في هذا المقال أن نتناول بالشرح الموجز فلسفته الأخلاقية والسياسية إتماما للبحث:

الذكاء والأخلاق

للأخلاق فلسفة متضاربة متناقضة، فهذا الفيلسوف يدعو إلى نظام أخلاقي معين، وذاك يروج لنقيضه، وثالث يقف بين بين، يأخذ من هذا وذاك بمقدار. فهذه المسيحية تبشر بفضائل الاستكانة والتواضع، وتدعو الناس إلى العطف والرحمة والإيثار، وتعلم الناس أنهم جميعا سواسية لا يمتاز رجل على رجل، ترد الشر بالخير، وتميل في السياسة إلى الديمقراطية المطلقة من كل القيود، وهي تعتبر المحبة أساس الفضيلة. . وذانكم مكيافلي ونيتشه يدعوان الناس إلى التخلق بأخلاق الرجولة القوية الصحيحة، وينكران المساواة بين الناس، فمنهم الضعيف ومنهم القوي، وفيهم العبقري الفيلسوف وفيهم الغبي الأبله، ويحفزان الناس إلى نبذ السلم والمغامرة في معمعان العراك والقتال ليحرز النصر من هو جدير بالنصر، وليتربع على الحكم من يستحق الحكم والسلطان، والفضيلة عندهما هي القوة، ويميلان في السياسة إلى الاستبداد والأرستقراطية الوراثية، فمكيافلي يصرح في كتابه (الأمير) بكل جرأة: (أن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لابد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين) كما يحبذ نيتشه سياسة بسمارك التي تنتصر بالحديد والدم.

وبين هذين النقيضين يقوم نظام أخلاقي وسط بين حب المسيح وقوة نيتشه، دعا إليه أرسطو، ومؤداه المزج بين أخلاق الضعف وأخلاق القوة، ويريد أن يلقى بزمام الأمر إلى العقل المثقف الحكيم، فهو وحده الذي يصح أن يؤتمن على اختيار الأخلاق الملائمة للمواقف المختلفة، فهو يعرف متى يلبس لبوس الحنان والعطف، ومتى يتنمر ليفترس، ومعنى ذلك أن الفضيلة عند أرسطو هي الذكاء، ويميل في السياسة إلى مزيج من الأرستقراطية والديمقراطية

ثم جاء سبينوزا فأخذ ينسج من هذه الصور وحدة خلقية متناسقة. وهو في هذا يسير سيرا منطقيا دقيقا حتى ينتهي إلى نتائجه التي يقدمها، فهو يبدأ بتقريره أن السعادة هي الغرض المقصود من الأخلاق الفاضلة. ولكن ما هي هذه السعادة التي نتجه نحوها ونقصد إليها؟ هي عنده في بساطة لا لبس فيها ولا غموض، وجود السرور وارتفاع الألم. ولكنا نعود فنقول: وما السرور والألم؟ أهما حالتان معينتان؟ أم هما نسبيان يختلفان باختلاف الأشخاص؟ هنا يجيب سيبنوزا بأنهما ليسا حالتين، أي ليس ثمة حالة مستقرة يقف عندها المرء قائلا: هنا السعادة، وهناك الألم. إنما السعادة شعور بانتقال النفس إلى درجة أدنى إلى الكمال، والألم شعور بانتقالها إلى مرتبة أبعد عنه. ولما كان الكمال عنده هو القوة، لا قوة نيتشه الغاشمة العمياء التي تقوم على الغريزة الوحشية، ولكنها القوة العقلية المتزنة. فكلما درجت صاعدا في سبيل هذه القوة العقلية كنت أقرب إلى الكمال، وكنت بالتالي سعيدا مطمئن النفس. ومعنى هذا أن العواطف والمشاعر هي مسالك أو طرق تسير فيها النفس، مقبلة نحو القوة تارة، مدبرة عنها طورا. (لاحظ العلاقة بين كلمتي ووكذلك بين كلمتي ولتدرك العلاقة القوية في اللفظ بين ألفاظ الحركة وألفاظ العواطف والمشاعر. ومثل هذه العلاقة موجودة أيضا في اللغة الفرنسية) فالفضيلة والقوة عند سبينوزا شيء واحد، أي أن الفضيلة هي زيادة فاعلية النفس التي تعمل على حفظ البقاء. وكلما اتسعت مقدرة الإنسان على حفظ وجوده ازداد ما يتحلى به من فضيلة. وبعبارة أوضح يعتقد سبينوزا أن أساس الفضيلة هي الأنانية المعتدلة التي تعينك على الاحتفاظ بوجودك، وهو لا يرى في حب الشخص لنفسه ضررا يلحق بالأخرين، واذن فلا خير في أن تضحي بنفسك من أجل غيرك إلا إذا كان في ذلك قوة لك، وهكذا يجب أن يحب كل إنسان نفسه، وان يلتمس كل وسيلة ممكنة تأخذ بيده إلى مرتبة أدنى إلى الكمال

فأنت ترى من ذلك أن سبينوزا لا يبني الأخلاق على الإيثار والخير الطبيعي، ولا على الأنانية البشعة والشر الطبيعي، ولكن على أنانية معقولة لا يجد منها مفرا لحفظ البقاء وعنده أن هذه الأنانية المعتدلة التي يمليها منطق الحياة نفسها لا يمكن أن تباعد بين مصالح الأفراد، أو تبذر بذور البغضاء في النفوس، لذلك تراه لا يتمالك نفسه حيرة في هذا التحاسد والتنابذ والكراهية، وهو يائس من أن يبرأ المجتمع من علله وأمراضه قبل أن يهذب الناس من هذه العواطف ويصلحوها، وهو ينصح لنا أن نبادل أعدائنا حبا بكره، ذلك لأن الكراهية تنمو وتتغذى إذا وجدت لها صدى من كراهية مثلها في نفوس الآخرين. وهو بمحاربة هذا التباغض، ينشد فينا النخوة الحق والرجولة الصحيحة، فأنت حين تشعر بالكراهية نحو غيرك، فإنما يكون ذلك اعترافا صريحا منك بانحطاطك دونه وخوفك منه، لأنك لا تكره عدوا تثق بأنك تستطيع أن تتغلب عليه في سهولة وتدحره في غير عناء.

وإذا كانت عواطفنا الغريزية كما نرى حائرة السبيل يعوزها الدليل الأمين، فلا يجوز إذن أن نلقي بزمامنا اليها، إنما يجب أن يكون الفكر وحده رائدنا، ولكن سبينوزا لا يريد أن نكبح الغرائز جملة واحدة، لا بل نستغلها ونتخذ منها دافعا يسوقنا تحت سيطرة العقل وإشرافه، فتكون هي بمثابة قوة البخار الذي يدفع القطار، ويكون العقل بمثابة السائق الذي يتحكم في سيره ووقوفه، وحجته في عجز الغرائز وحدها عن القيادة، انها متضادة الأغراض متضاربة المقاصد، فإذا ما تركناها على سجيتها، انطلقت كل واحدة تسعى في إشباع رغبتها، دون أن تراعي صالح الكل، وإذن فلابد من رقابة رشيدة تعمل أولا وقبل كل شيء لما فيه خير الشخص كمجموعة متحدة، بأن نكبح بعض الغرائز حينا، ونطلق بعضها الآخر حينا، حسب ما يتطلبه الموقف، ومعنى ذلك كله أن الفضيلة مرهونة بالمعرفة أو الذكاء

والذكاء وحده هو الوسيلة التي نستطيع بها أن نحرر أنفسنا من سيطرة الغرائز التي تفرض عليها سلوكا معينا، وتعمل جهدها لقسرنا عليه، فنحن عبيد لها بقدر انسياقنا لما تمليه علينا، أي أن سلبية العاطفة عبودية للآنسان، وحريته في فاعلية العقل. فالحرية الشخصية متوقفة على المعرفة، وفي ذلك يقول ديوي أستاذ الفلسفة في جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة: (إن الطبيب أو المهندس يكون حرا في فكره وعمله بمقدار ما تتسع معرفته في المهنة التي يباشرها، وقد تكون هذه المعرفة مفتاح الحريات جميعا)

بناء على ذلك يكون السوبرمان (الإنسان الأعلى) الذي ينشده سبينوزا هو الذي يستطيع أن يحرر نفسه من سلطان الغرائز، وليس هو الذي يتخلص من القيود الاجتماعية العادلة كما صوره نبتشه. يقول سبينوزا: (ان من يعملون الخير بناء على إرادة العقل، ويلتمسون النفع الذي يدل عليه المنطق الصحيح، هؤلاء في الواقع ينشدون مع خير أنفسهم صالحا للإنسانية عامة) فلأن تكون عظيما لا يعني أن تضع نفسك فوق مستوى البشر لتنشب أظفارك في أعناقهم كما يريد نيتشه، ولكن العظمة هي أن تترفع عن سخف الرغبات الغريزية، التي لا يشرف عليها عقل متزن حكيم، ليست العظمة في أن تحكم الآخرين، وإنما هي في أن تحكم نفسك

هذه الحرية التي تستطيع أن تنعم بها من السيطرة على نفسك هي أشرف مما يسمونه حرية الإرادة، لأن الإرادة مجبرة مسيرة، أو قل ليس ثمة إرادة ما، لأن الإرادة والفكر وجهان لحقيقة واحدة. وهنا يلاحظ سبينوزا أن ليس في جبر الإرادة نقيصة يؤسف عليها، بل هو يهذب الأخلاق ويسمو بها إلى مستوى رفيع، فهو يعلمنا ألا نحتقر انسانا، كائنا ما كان موضعه من المجتمع، لأنه غير مسئول عن ذلك الموضع، إنما كتبت له الإرادة العليا أن يكون حيث هو. والجبر كذلك يوحي إلينا الرضى عما قد يبديه الدهر من قسوة وغلظة، لأننا نعلم أنه إن ظلم وجار في ناحية معينة، فلابد أن يكون ذلك لصالح الكل، ما دامت الأفراد جزءا من جسم الوجود المتحد

الرسالة السياسية

كان صوت سبينوزا واحدا من تلك الأصوات التي انطلقت تصيح بحرية الإنسان. ففي نفس الوقت الذي كان فيه (هوبز) يدافع عن الملكية في إنجلترا، ويقاوم بنظريته قوة الشعب الإنجليزي التي أخذت تناهض استبداد الملك، كتب سبينوزا فلسفته السياسية، وهي تعبر تعبيرا صادقا عن الديمقراطية التي بدأ يختلج حلمها الجميل في نفوس الناس عندئذ، والتي أخذت تنمو وتنمو حتى بلغت ذروتها عند روسو، ثم تدفقت ثورة عنيفة في فرنسا يقدم سبينوزا بادئ الأمر هذه البديهية التي لا تحتمل الشك، وهي إن الإنسان في أول نشأته كان يعيش منفردا غير مجتمع، فلا يرتبط مع غيره بقانون ولا نظام، لا يفهم معنى الحق ألا ما يستطيع أن يستولي عليه بالقوة، وإذن لم يكن ذلك الإنسان الأول يدرك معنى الخير والشر، لأنهما عبارتان اصطلح عليهما بعد تكوين المجتمع، إذ أطلقتا على بعض الأعمال التي تواضع عليها الأفراد، أما قبل ذلك فكان الفرد يتصرف حسب ما تملي عليه شهوته، وبالطبع لم يكن مسئولا عن تصرفاته إلا أمام نفسه، ومعنى هذا أن الجريمة لم يكن لها وجود في الحياة الطبيعية الأولى، لأنها لا تدرك إلا في حالة المدنية، حيث يتفق الجميع على تحديد الخير والشر، ويصبح كل إنسان مسئولا عن ذلك أمام هيئة معترف بها هي الدولة

وأنت تستطيع أن تتمثل الحياة الطبيعية الأولى التي لم تكن تفرق بين الخير والشر، أو بعبارة أخرى بين ما يجوز عمله وما لا يجوز، في علاقة الدول بعضها مع بعض، إذ لا يربطها نظام خلقي معترف به في قوة النظام الذي يربط الأفراد، ولا تشرف عليها سلطة عامة نافذة الإرادة كما هي الحال بين الأفراد، لذلك كان الحق في العلاقات الدولية هو القوة (يلاحظ أن اسم الدولة العظمى بالإنجليزية هو وفي هذا إشارة صريحة تؤيد هذا المعنى) إذ لا تفهم الدول على وجه الدقة معنى الخير والشر كما يفهمها الأفراد

كان الناس إذن يعيشون بادئ الأمر كما تعيش الدول الآن، ليس لأحدهم عند الآخر حقوق، ولكن لم يلبث الإنسان أن شعر بحاجته إلى التعاون لدرء ما يتعرض له من الخطر، فاتفق الأفراد فيما بينهم على أن يتآزروا إذا دهمهم داهم من سوء، ومعنى ذلك أن الإنسان ليس مدنياً بالطبع، ولكنه اجتمع لدفع أخطار الحياة. وحسبك دليلا أن تلقى نظرة عجلى على الغرائز الإنسانية، لترى كيف أن الغرائز الاجتماعية أضعف جدا من الغرائز الفردية، فالإنسان يسعى لخيره أولا ثم يسعى لخير الدولة، بل هي الأنانية أيضا التي تدفعه للسعي وراء خير الدولة، لأنها دولته هو، ويريد أن يسعد بسعادتها.

اضطر الإنسان إذن إلى الاجتماع بعد تلك الحياة الفردية، فتواضع الجميع على حدود خاصة لا يجوز لواحد أن يشذ عنها، بحيث يصبح لكل إنسان الحق في أن يتصرف كيف شاء، دون أن يخرج على تلك الحدود المرسومة، أي أن له أن يستمتع بكل ما له من قوة شخصية دون أن يغير على حرية الآخرين، وبعبارة أخرى اتفق الأفراد على أن ينزل كل منهم عن بعض حقوقه الطبيعية لهذه الجماعة المنظمة، في مقابل أن يأمن ويطمئن على حقوقه الباقية، أي أن قانون الجماعة يجب ألا تزيد وظيفته على الأشراف العام، بحيث يسعى كل فرد حرا، في غير تضارب ولا تنافر بين الأفراد، أي أن القانون الكامل يجب أن يكون للأفراد بمثابة العقل للعواطف: يحسن تصريفها بحيث يزيد نشاطها من قوة الكل، دون أن تتعرض واحدة منها لنشاط الأخرى

(فالغرض الأسمى من الدولة إذن، لا أن تحكم الناس، ولا أن تحد من مجهودهم، بل يجب أن تؤمن الإنسان من كل المخاوف، حتى يعيش ويعمل في طمأنينة تامة. . . الغرض من الدولة أن تدع الناس يعيش بعضهم بجانب بعض، كل يستغل قوته العقلية في صالح المجموعة، حتى لا تتبدد قواهم في التنابذ والتنافر، إذن فالغرض الأسمى من الدولة هو الحرية)

وظيفة الدولة العليا أن تكفل للأفراد حريتهم، ومعنى ذلك أن الديمقراطية هي المثل الأعلى لنظام الحكم، ثم يستدرك سبينوزا بقوله أن ضرر الديمقراطية الوحيد هو ميلها إلى وضع غير الأكفاء في مناصب الحكم، ولذلك ينصح علاجا لذلك أن يتسلم إدارة الدولة جماعة من ذوي العقول الجبارة، كي يسيروا بها بعيدا عن مواطن الزلل. . . .

وفاضت روح سبينوزا وهو يكتب للناس رسالة الحرية

مجلة الرسالة - العدد 15
بتاريخ: 15 - 08 - 1933

تعليقات

للأستاذ زكي نجيب محمود -
فلسفة سبنسر

- 2 -

تطور الحياة

يبدأ سبنسر كتابه عن تطور الحياة بتعريف الحياة نفسها بأنها التوفيق بين الكائن الحي وبيئته، ويتوقف كمالها على كمال هذا التوفيق. فهذا حيوان يكتسي بالفراء ليتقي لذعة البرد، وذلك قد أعد لاختزان الطعام لما عساه أن يصادفه من قحط وإجداب، وثالث يستطيع أن يتلون بلون الأرض التي يدب فوقها حتى لا يبصره العدو فيفتك به، إلى آخر هذه الوسائل التي زودت بها الطبيعة الأحياء، أو بعبارة أصح، التي قسرها الأحياء قسرا على أن تزودهم بها للذود عن حياتهم، مما يعلم القراء جميعا. وبديهي أن هذه الملاءمة لم تبلغ ولن تبلغ درجة الكمال ما دام الحيوان مخلوقا ناقصا يعتريه الضعف والموت، ولكن مهما يكن من أمر فهو دائب لا يني عن السعي الحثيث في زيادة هذه الملاءمة شيئا فشيئا، بان يكمل هذا النقص تارة وذاك طورا، وينقح من أعضائه حتى تتمكن من مجاوبة الطبيعة ومقاومتها، ومعنى ذلك أن الكائن الحي يشعر بالحاجة أولا ثم ينطلق في سعيه جيلا بعد جيل يستمد من الطبيعة عضواً يسد له ما أحس من نقص، فهو مثلا يشعر بحاجته إلى النظر لكي يتبين ما يحيط به في دقة ووضوح فيكون لنفسه على مر الدهر عضوا للإبصار وهكذا قل في سائر الأعضاء،

وليست الحياة إلا هذا التوفيق الذي لا تنقطع أسبابه، ولا تقتصر هذه المحاولة على أفراد الحيوان، بل تعدوها إلى الأنواع، إذ يسعى كل نوع باعتباره كل الملاءمة بينه وبين البيئة. ويرى سبنسر توافقا عجيبا بين تكاثر الحيوان وما يحيط به من الظروف الطبيعية، فهو يرى أن الأصل في التناسل هو تخلص الكائن الحي من زيادة في حجمه لا تتناسب مع جهازه الهضمي، أي أن كتلة الكائن الحي إذا اطردت في النمو، تصل إلى حد لا تستطيع معه المعدة أن تسد حاجتها في الغذاء، وعندئذ يضطر الحيوان إلى ان يقف نموه عند حد معين، وكل زيادة تجيء بعد ذلك يتخلص منها بان يخرجها نسلا. وتطبيق ذلك، أن الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، يأخذ جسمه في النمو إلى حد محدود ثم يقف نموه إذا ما جاءت مرحلة التناسل، ولذا نرى أن عدد النسل يتناسب تناسبا عكسيا مع درجة النمو، فكلما كبر حجم الحيوان كان نسله أقل عددان فبينما تنسل الذبابة مثلا عشرات الذباب لا يلد الفيل إلا واحدا. كذلك يتناسب عدد النسل مع مقدرة الحيوان على مقابلة الاخطار. فان كان ضعيفا عاجزا عن صد ما يتهدده من الكوارث لجأ إلى كثرة النسل ليعوض فناء أفراده الناشئ من ضعف المقاومة وإلا تلاشى النوع. والعكس صحيح، أي إذا كان النوع قادرا على الاحتفاظ ببقائه، وجبت قلة النسل، والا رجحت كثرة العدد على كمية الطعام. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أنه كلما ارتقى النوع في سلم الحياة، كان أقدر على الأحتفاظ بوجوده، وكان بالتالي قليل النسل. وهذه القاعدة صحيحة إلى حد كبير حتى في الأفراد، أي إذا ارتقى الفرد في عقليته وذكائه كان أقل نسلا. ومما هو جدير بالذكر أنه كلما ازدادت عند الفرد كمية الاستهلاك العقلي أي التفكير - قل عدد النسل أو انعدم. ولعل أبلغ آية لذلك عقم الفلاسفة. وقد يشير هذا الدليل إلى إن الإنسانية تسير في تطورها نحو مرحلة تزيد فيها القوة العقلية ويقل عدد النسل.

وعلى الرغم من ان الطبيعة ساهرة على هذا التوفيق بين نسبة التناسل وحاجة النوع. فقد يظهر إنها أخطأت الحساب ومالت نحو الإكثار من السكان، بغض النظر عن كمية الغذاء، وحق لملتوس أن يجهر بدعوته إلى ضبط النسل لما لاحظه من زيادة السكان على مواد الغذاء.

تطور المجتمع

ليست دراسة الاجتماع باليسيرة الممهدة، بل يعترض سبيلها من العقبات والصعاب ما لا يستطيع التغلب عليها إلا الأفذاذ الفحول، فقد حدث مرة ان ارتحل رجل فرنسي إلى إنجلترا يقضي بأرضها بعض الوقت ترويحا للنفس وحبا للاستطلاع فلم يكد ينقضي علت إقامته بها أسابيع ثلاثة حتى اعتزم ان يصدر كتابا عن انجلترا، اذ خيل اليه انه قد درس شعبها فأتقن الدراسة، فلما انقضت شهور ثلاثة، هم بوضع كتابه، ولكنه أدرك أنه لم يتقن الدراسة بعد بحيث يستطيع أن يخرج الكتاب الذي يريد، وآثر الروية والاناة، فلما انقضت سنوات ثلاث، اتسع شعوره بالعجز والقصور، وأيقن أنه لا يعلم من موضوعه شيئا. . . وهذا صحيح، فقد يخيل للإنسان للوهلة الأولى ان دراسة المجتمع سهلة ميسورة، ولكنه كلما ازداد علما بدقائقه، ازداد يقينا بجهله وعجزه.

فما بالك بالجهود التي بذلها سبنسر، وهو لا يريد أن يدرس شعبا بعينه فحسب، بل يقصد إلى دراسة المجتمع الإنساني باسره وكيف تطور كيانه م حالة إلى حالة؟ فهو يرى أن المجتمع كائن عضوي له أعضاء للتغذية وله دورة دموية، وفيه تعاون بين الاعضاء، وله فوق ذلك تناسل وإفراز، شأنه في كل ألوان الحياة شأن الأفراد سواء بسواء. . . فهو ينمو، وكلما ازداد نموه اشتد تعقداً، وكلما تعقد ازدادت أجزاؤه استقلالا. وحياة المجتمع باعتباره كلا طويلة جداً بالنسبة إلى حياة أجزائه التي يتألف منها. والمجتمع كالفرد يتعاوره التكوين والانحلال وهما وجها التطور: فنمو الوحدة السياسية من الاسرة إلى الدولة ثم إلى عصبة الامم، ونمو الوحدة الاقتصادية من الصناعة المنزلية الصغيرة إلى نظام الشركات ثم إلى الاحتكار، ونمو وحدة السكان من القرية إلى المدينة. . . كل هذه ظواهر للتجمع والتكوين، ولكنك من جهة أخرى ترى تقسيم العمل وتعدد المهن والصناعات، وتنوع الانتاج بين الريف والمدن، وبين أمة وأمة. . . وهي دلائل تشير إلى التنوع والتنافر. . وتستطيع كذلك أن تلمس التطور بشطريه - تآلف الأجزاء في وحدة، ثم تنافرها داخل تلك الوحدة - في كل جانب من جوانب المجتمع: في الدين والحكومة والعلم والفن وغيرها.

فقد كان الدين أول الأمر عبادة طائفة من الآلهة والأرواح، فأخذت هذه تتجمع وتأتلف حتى تركزت في إله واحد. . ثم عاد التوحيد فتفرع إلى جملة من الأديان وطائفة من العقائد، ولم يتحور الدين في شكله فقط، بل تبدل موقعه من النفوس كذلك. فقد كان الجمهور الذي تدور حوله رحى الحياة بأسرها، ذلك لأنه ألقى في روع الإنسان الأول ان هذه الحياة الدنيا غرور ولهو، ويجب أن يربأ بنفسه أن تنغمس في حمأتها أو تتلوث بأدرانها ولتكن الآخرة وحدها محطا لآماله ومعقداً لأمانيه فهي خير من الأولى وأبقى، ولكن ما لبثت وجهة النظر أن تطورت، وتوجه الإنسان بشطر من عنايته نحو هذه الحياة التي يعيش فيها. وأخذت تلك العناية تزداد شيئا فشيئا كلما اتسع نطاق العمل الصناعي.

أما نظام المجتمع فلعل أبلغ ما طرأ عليه من تغيير، هو الانتقال التدريجي من النظام الحربي الذي ساد أوربا إبان العصور الوسطى إلى النظام الاقتصادي الصناعي، ويتقد سبنسر أن تقسيم الحكومات إلى ملكية وأرستقراطية وديموقراطية وما إلى ذلك، ان هو الا عرض تافه لا يمس الجوهر والصميم، وأما الحد الفاصل الذي يميز دولة من دولة، فهو أساس بنائها الاجتماعي. هل يقوم علت النزعة الحربية أم يصطبغ بصبغة الصناعة، وبعبارة أخرى تنقسم نظم الاجتماع نوعين: جماعة تعيش من أجل النزال والقتال، كما كانت الحال في نظام الاقطاع، وجماعة لا تجد في الحياة هدفا تتجه صوبه وتحيا به ومن أجله سوى العمل، فتلك تحارب من أجل الحياة، وهذه تعمل من أجل الحياة.

وللدولة الحربية صفات تلازمها، منها ان السلطة تتركز في قبضة الحكومة وحدها، ويغلب أن تكون حكومة ملكية لا تدخر وسعا للتفريق بين الشعب الواحد إلى طبقات بعضها فوق بعض، فتكون الحرب والفروسية صناعة الأشراف، وللسوقة الصناعة وفلاحة الأرض. . . كذلك تعظم في الدولة الحربية سيطرة الرجل في الأسرة، ذلك لأن الرجال هم عماد الحروب، وأين منزلة الرجل في حومة الوغى من منزلة المرأة قابعة في عقر دارها؟! ويمقت سبنسر هذا الضرب من الاجتماع الذي تدور حياته حول قطب الحرب، لأن مصلحة الفرد تذوب وتتلاشى في صالح المجموع، ولأن الدولة لا تقوم الا على القتل والسرقة، ونحن إن كنا نصم الإنسان الأول بالوحشية لأنه كان يلتهم لحوم البشر، فما أجدرنا أن نزدري هذه الدول الني تأكل شعوبا بأسرها في وجبة واحدة! ويعتقد سبنسر ان رقي الإنسانية مرهون بإلغاء الحروب، وهو لا يرى سبيلا لتحقيق هذا المثل الأعلى سوى أن تقطع الأمم شوطا بعيدا في الصناعة لأنها تعمل على المساواة والسلام، وهي تقسم السلطة بين أعضاء المجتمع جميعا ولا تركزها في أيدي الحكومة وحدها، وفضلاً عن ذلك فهي تشحذ العقول وتدفعها إلى الابتكار، وهو المعول الهدام الذي يكفل لنا تحطيم التقاليد الوراثية التي تقوي من شوكة الحكومة. . . وستصبح الوطنية في ظل الصناعة حبا للوطن لا كراهية الأوطان الأخرى، ثم إذا اطرد نموها، فستؤدي حتما إلى ازالة الحواجز الجمركية التي تفصل الدول بعضها عن بعض، وعندئذ تورق دوحة السلام وتمتد فروعها حتى يتفيأ ظلها أبناء الإنسانية جميعا. . . وإذا ما خفقت راية السلام وأمحت الحروب، زالت دولة الرجل، ولا يعود له في أسرته سلطة الحجاج التي ينعم بها، ويرتفع قدر المرأة حتى تقف معه كتفا إلى كتف، لتشابه ما يؤديان من عمل، وعندئذ فقط يتحقق تحرير المرأة الذي تنشده.

ولما كانت الصناعة تستقي ماء حياتها من العلوم، فلا ريب في أن تقدمها وانتشارها ينتجان تربية التفكير العلمي وصحة الاستنتاج للأسباب والمسببات، ولن يلجأ الإنسان بعدئذ إلى قوى الطبيعة الخارقة والأبالسة والشياطين يعلل بها أحداث الحياة. . . وفوق هذا كله سينقلب التاريخ رأسا على عقب، فستزدهر صحائفه بذكر الرجال العاملين بدلا من الملوك المحاربين، وسيفسح في مجاله للمخترعات والأفكار. . . سيزداد الشعب سلطانا وقوة، وتتقلص سطوة الحكومة وتنكمش، وسيبطل ذلك الوهم العتيق البالي الذي يفرض على الفرد أن يحيا من أجل دولته، وأن يضحي بنفسه في سبيلها، وسيعلم الناس حقا ان الدولة إنما وجدت وأنشئت لصالح الفرد، وان كان هذا هكذا فلا يجوز أن تضحي الحياة من أجل العمل، بل يجب أن يكون العمل أداة تستغلها الحياة في تحقيق السعادة والهناء.

تطور الأخلاق

على أي أساس نشيد مبادئ الأخلاق؟ وبأي مقياس نزن الخير والشر؟ أما سبنسر وأتباعه فلا يترددون لحظة في إخضاع الأخلاق، كأي شيء آخر، إلى قوانين التطور وانتخاب الطبيعة، وبعبارة أخرى يريدون أن نلقي بزمام الإنسان فقي يد الطبيعة نفسها تختار من أخلاقه ما تشاء. وقد ناهضهم طائفة كبيرة من العلماء والكتاب، يربأون بأخلاقنا التي تواضع المجتمع عليها أجيالا متعاقبة، أن توضع بين مطرقة الطبيعة وسندان التطور، يفعلان بها كيف شاء لهما الهوى وفي ذلك يقول هكسلي: إن علم الحياة لا يصلح دليلا خلقيا بأية حال من الاحوال، اذ كيف نترك مصيرنا في كف الطبيعة العمياء، وهي كما قال عنها تنسون الشاعر الإنجليزي (ملطخة بالدماء ناباً ومخلباً)!! نعم، كيف نذر الطبيعة تصب في قوالبها ما يطيب لها من أخلاق وهي كثيراً ما تمجد الوحشة والمكر والخداع وتمقت الرحمة والعدل والحب؟!

ولكن تحدث بهذا المنطق لغير سبنسر! لابد أن تخضع مبادئ الأخلاق للانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، وليبق من أخلاقنا ما يصمد لهذه التجربة القاسية، وليفن منها ما تذروه هذه الريح العاصفة. . . الأخلاق - كأي شيء آخر - تعود على الإنسان بالخير أو بالشر بمقدار ما تساوق أغراض الحياة (والخلق السامي هو ذلك الذي يسير مع الحياة ويشاطرها فيما ترمي إليه) فلنقبل من الأخلاق ما يلائم الحياة، ولنرفض منها ما يعترض سبيلها ومجراها، أو بعبارة أخرى يجب أن تكون الأخلاق بحيث تعاون الفرد على البقاء في مضطرب الأهواء المختلفة المتنازعة التي تصدر من أعضاء المجتمع. ولما كانت هذه الملاءمة بين الفرد والمجتمع تختلف باختلاف الزمان والمكان، كانت بالتالي فكرة الخير تختلف عند الشعوب أوسع اختلاف. ويرى سبنسر أن الطبيعة قد زودتنا بمقياس دقيق نميز به الطيب من الخبيث، وهو مقياس السرور والألم، فإذا صادف سلوكنا من أنفسنا ارتياحا ورضى، كان ذلك دليلا على ملاءمته للحياة الكاملة، لان ذلك الاطمئنان الباطني علامة على أن الطبيعة قد اختارت ذلك السلوك ليكون سبيلا إلى حفظ الحياة. فأنت تستطيع إذن أن تفرق بين الخير والشر، بما يبعثه العمل المعين من سرور أو الم لأنهما دليل ساقته الطبيعة نفسها للتفريق بين هذا وذاك.

نعلم مما تقدم أن الأخلاق يختلف لونها باختلاف البيئة الطبيعية أو الاجتماعية، لأن الأولى صدى الثانية وانعكاسها، ولما كان نظام المجتمع في العصور الوسطى أخذ يتطور في كثير من أسسه وقواعده، كان حتما أن ينشأ عن هذا التحوير انقلاب في فكرة الأخلاق. فقد كانت أكاليل المجد والفخار لا تعرف موضعا غير هامة الفرسان المقاتلين، فأما هؤلاء الذين يقضون نهارهم في الزراعة والصناعة فعبيد أرقاء حقب عليهم الذلة والهوان، ولكن وجهة النظر أخذت تتطور منذ حلت الصناعة ورسخت قدمها، لانها تعتمد كما قدمنا على القوة العقلية، فأضحى العمل أشرف ما يمارسه الإنسان. لأنه عماد المجتمع وسنده. . . ولما كان هذا العمل لا ينمو ولا يستقيم إلا تحت ظل العدالة، وهذه بدورها لا تورق أو تزدهر إلا في جو من الحرية؛ كانت هذه الحرية أول واجب في عنق الدولة، وقد عرف سبنسر العدالة بان: (كل إنسان حر في أن يفعل ما يشاء، على شريطة ألا يتعارض ذلك مع حرية إنسان آخر له ماله من حقوق). ولا يستقيم هذا النص مع نزعة الحرب، لانها تعبد سلطان القوة وتفرض الطاعة العمياء، ولكنه شرط أساسي لنجاح الصناعة لأنها تعتمد على السلام والحرية في الراي والابتكار.

تلك هي حقوق الإنسان الأساسية عند سبنسر. حق الحياة وحق الحرية، فأما شكل الحكومة فلا يقيم له وزنا، فلتكن ملكية مطلقة أو دستورية أو ما شئت من نظم، فما لنا ولها ما دمنا نتمتع بالحرية والحياة؟ وفي هذا يسخر سبنسر من النساء اللائي يلححن في طلب الحقوق السياسية، لأنها في رأيه وهم باطل لا يسمن ولا يغني من جوع، فضلاً عن أنه يتوجس من المرأة خيفة ان هي وثبت إلى مقاعد النيابة والحكم، اذ يخشى ان تدفعها غريزة الإيثار إلى تقوية الضعيف الذي يجب أن يرك للطبيعة تسحقه، فلا تذر من الاحياء غير الاقوياء، نعم يجب أن تتحكم الأنانية وان تظل أساسا لأعمالنا بحيث لا تلين لعاطفة الإيثار، فهي أسبق منه إلى الوجود، وهي أصلح للحياة والبقاء. . . . وهل الإيثار إلا أثرة في لبه وصميمه! أليست الأبوة حباً صريحاً للنفس؟ والوطنية ما هي؟ ألا تراها أثرة مجسمة؟ فأنت لا تنتصر لهذه البقعة من الأرض إلا لأنك تعيش بين أرجائها!

وخلاصة الرأي عند سبنسر أن المثل الأعلى للأخلاق هو مزيج متزن بين الاثرة والإيثار_الإيثار الذي يشبع الأنانية ويغذوها.

زكي نجيب محمود
مجلة الرسالة - العدد 32
بتاريخ: 12 - 02 - 1934
 
أعلى