محمد عيد إبراهيم - "غــــودو" عنفـــوان فؤاد

من أكثر الدواوين التي تراها غرابةً، فهو يقوم بتطويع اللغة حسبما تروح أو تأتي منه منابع السوريالية، لكأنه مثقل بحنان الحبّ، مع أنه يلقي بعظام اللذة إلى كلاب الأرق ثم ينام على طول اسمك. وقد صدر ديوان (غودو يأكل أصابعه)، للشاعرة الجزائرية عنفوان فؤاد، في 126 صفحة، عن دار (هنّ) في القاهرة، وضمنه قصائد بصرية أو تصويرية أو شكلانية أو كونكريت، كما رسمها بعض السورياليين، وكما رسمها قبلهم بعض شعراء العصر المملوكي والعثماني عند بدايات الحداثة في مصر.

أبرز ما في الديوان هو ما يمكن أن نطلق عليه (المجاز المقلوب)، حيث تقدم عنفوان الصورة معكوسة، تقلب معطياتها رأساً على عقب، أو يساراً إلى يمين، أو من أعلى لأسفل، أو من باطن لظاهرٍ إلخ، تقول (النبيذ يسيل من حافة قدمها)/ (نفتقد ملح شفتك)/ (سحبتَني من وجهي وابتلعني فمكَ)/ (توقظ جثتي على رأس لغم)، وهو مجاز لافت يستثير البال، كأنك تقرأ شعراً للمرة الأولى على هذا النحو، كما أنه ذو طعم فريد، تستحلبه حتى آخر الحلْق، سائغاً سخياً، وبآخره سَحبةٌ كقطعة ثلج مذابة.

ثمة نِسوية ملتهبة في بعض مناحي الديوان، نِسوية لا تبتغي مِنةً من رجل، بل تراه جزءاً من تحقيق كيانها، لكن بعد تحقيق كيانه هو أيضاً، مثلما تخاطب الأم بشأن فكّ رمزية الضفيرة (عبر سيرة القُربى من الرجل) وهي ضفيرة بشريط أحمر تثير حفيظة الريح، بينما الرجل لا يترجّل من حصان الغياب، ولا يحدّد وصولاً من محطات الضياع، وفي النهاية ثمة يد خفية تفكّ الضفيرة، وشريطها الأحمر يقهقه ملء الندم. كذلك قصيدة (في أوقات الفراغ أُزيل الدهن عن القمر) عن لعنة الزمن وهو يدور حول المرأة، أيضاً قصيدة (فراشة الباراسيكولوجي) حيث (يتشوّك) العالم ليحمي الوردة التي ثبتها أحدٌ على شعرها، لكن الوردة لا تتفتح إلا عند قبر الحياة. تقول (عند الصباح، لا أنهض ببساطة، أسيح من على السرير، وعلى أحدهم سحبي مني).

من أهم معطيات ديوان (غودو) السؤال، السؤال الدائم، فمنذ العنوان (غودو يأكل أصابعه) لا نعرف هل يأكل أصابعه ندماً، كالمجاز الشائع، أم يأكل أصابعه استلذاذاً من طعام جديد أو مألوف معروف بمتعته، كما تقول (أهزّ جرس النور/ أضاءت نبتة السؤال حياتي الطويلة/ في زاوية القلب شجرةٌ عارية/ من شقوق الصدى تتفتح زهرة)، كما أن رمزية (غودو) تهبنا الانتظار الذي لا نعرف كيفية الفرار منه، وهل هو أيقونة للزمن، أم للتحقق من كينونة الألم، أم للفَكاك من ميقات الطعنة، وفي النهاية (في رأسي قلب غيري/ في قلبي رأس غيري/ أنا حرف جر/ يجرني مني).

يشيع أيضاً في الديوان ملمح الإيروسية، ولو بصورة شكلانية، تريد أن يزوّدها أحدٌ بالماء، يغمرها بالاتصال، تقول (الحبّ أن أحمل جنين حبك/ أثقله بحناني/ فيثقلني بك)، (ستمتزج فقراتك بعظامي المهشمة)، (ريشة بيضاء تسقط لأعلى)، (ترسم دائرة بحجم جسدها/ بيت الحياة هنا)، وبعد رحيل الرجل، تصبح في منتصف مِيتتها، وهكذا نرى الموت والحبّ صِنوين، كلاهما استغراق صوفيّ في لحم الآخر، كلاهما يؤدي إلى دم الآخر وعظمه، كما في قصيدة (ماذا لو كنتَ اسماً لقبري؟)، فهي تُعيد تركيب أعضاء جسمها محلّ أعضاء جسمه وبالعكس، إلى أن يشتعل الماء بالنار، وتسكر الأرض، تقول (ضلعك على قلبي/ فوقك على فوقي/ تحتي تحت تحتك)، ساعتها تحفر اسمه على قبرها، وتندلق ذاكرتها فيسقط قلبها من فمه، أي تتّحد الذكرى، وهي ضمير الإنسان، بين الأنا والأنت، ويصبح الناطق كالمنطوق إليه، تصرخ (ها أنت يا صغيري الكبير/ تمضي في تصريف الندم/ بينما تتفتح أزرار حضني قبل سؤالك/ يا زائر قبري الوحيد: أحبك!)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى