صلاح عبد الصبور - في دنيا الله..

ما أكثر الذين يحبون نجيب محفوظ‏,‏ ويكلفون بأدبه‏,‏ والكثرة الكاثرة منهم تحب نجيب محفوظ الروائي‏,‏ ولعلها فوجئت به كاتب أقصوصة‏,‏ حين عاد إلي هذا اللون التعبيري, بعد انقطاع عنه طويل, منذ ظهرت مجموعته الأولي همس الجنون, وقد تلقت الحياة الأدبية عندئذ هذا النتاج الجديد للكاتب المرموق متحفزة, وحين نشرت القصة الأولي كانت مدار النقاش بين أصحابي وبيني, وأظنها كانت مدار النقاش في كل بيئة أدبية ذلك اليوم, ثم توالت أقاصيص نجيب محفوظ, وبدا له أن يجمعها في كتاب, فكان هذا الكتاب الجديد, وهو الكتاب السادس عشر, للكاتب الذي جاوز الخمسين بأشهر, وهو دليل حياة خصبة منتجة, تنشر الخير في أرجاء حياتنا الأدبية, بشتي ألوانه ومختلف نفحاته.
والحياة الأدبية مازالت تتوقف عن إصدار كلمتها في القصة القصيرة عند نجيب محفوظ, ولعل مرجع هذا التوقف هو أن الكلمة الأخيرة لم تقل بعد في تحديد معني القصة القصيرة, فمما لا شك فيه أنها تختلف اختلافا بينا, بين موباسان وتشيكوف, وهما أعظم أعلامها, وبين بعض الكتاب المحدثين مثل همنجواي ووليم مارديان ووليم فوكنر وسومرست موم وسارتر وغيرهم.
فالبعض يري أن الأقصوصة فن قصير النفس, يجب ألا تمتد إلي عشرات الصفحات, وإلا أصبحت رواية قصيرة. ولعل هؤلاء لا يدركون أن كثيرا من قصص تشيكوف قد امتدت لتشمل عشرات الصفحات, مثل قصة عنبر رقم6 وقصة الجرادة وغيرهما, كما أن بعض قصص موباسان القصيرة أيضا قد تطول, ولكن ليس إلي هذا الحد.
هذا بينما نجد أقاصيص همنجواي لا تكاد تتعدي صفحات إحداها أصابع اليد الواحدة, ونجد المجموعة الأولي لوليم سارويان ( الشبان الشجعان علي الأرجوحة الطائرة) وهي من ألمع مجموعاته, وقد احتوت في صفحاتها المائتين خمسا وعشرين قصة, ونجد كاتبا أمريكيا محترما مثل ( جون أوهارا) يكتب الأقصوصة في صفحة ونصف صفحة, وتزدحم الصحف الآن بالأقاصيص التي تقرؤها في خمس دقائق, والتي كثيرا ما تحمل أبوابها هذا الشعار كنوع من التحلية والترغيب. والذين يصرون علي أن القصة القصيرة يجب أن تكون قصيرة النفس لا يفجؤهم قط أن تحتج عليهم بأقاصيص تشيكوف وموباسان الطويلة, ولا بمثيلاتها مثل ( المعطف) لجوجول أو ( الموتي) لجيمس جويس, فيزعمون لك أن هذه الأعمال الأدبية ليست أقاصيص, بل هي روايات قصيرة, أو هي بمنزلة بين المنزلتين, وهم لا يجرؤون علي تسميتها ( رواية) فحسب, بعد أن حددت روايات القرن التاسع عشر مدلول الرواية, حين كتب تولستوي ( الحرب والسلام) واسعة كالسهوب الروسية مليئة بالأشخاص والأحداث عميقة بالتاريخ, وكتب دستويفسكي ( كارامازوف) و(الأبله) وكتب ديكنز وبلزاك مطولاتهما, وأتبعهما ( بروست) في القرن العشرين بمطولته العظيمة وجيمس جويس بمطولته المحيرة.
مسألة الحجم إذن لا تلقي تحديدا للقصة القصيرة, فلنبحث عن تحديد آخر. بعض النقاد يقولون إن القصة القصيرة هي التي تلقي اهتمامها أساسا إلي شخصية واحدة أو حدث واحد, فهي تتناول قطاعا عرضيا من الحياة, لا قطاعا طوليا, كما تصنع الرواية, وإذا كانت الرواية أقرب التحديدات إلي الصحة, وإن لم يكن صحيحا صحة مطلقة. فإن مطولة دستويفسكي ( الأبله) لا تتناول أساسا إلا شخصية واحدة هي شخصية الأمير ميشكين, ولا تعرض للآخرين إلا من خلاله. إذن لا بد من الشرط الثاني وهو تحقق القطاع العرضي, والتقاط الموقف المكثف الغني, الخصب بالدلالات. وثمة فارق آخر بين الرواية والقصة القصيرة ينبع تلقائيا من هذا التحديد, وهو فارق ( الإيقاع), والإيقاع قد نستطيع أن نسن له القوانين في الموسيقي والشعر والرسم, ولكن من العسير أن نسن له قانونا في النثر, بل هو عندئذ يدرك بالإحساس والذوق. وإيقاع القصة القصيرة أسرع من إيقاع الرواية, فالموقف الروائي له إيقاعه الهادئ المتمهل, بينما يتميز الموقف( الأقصوصي) بالسرعة, ونثر اللمسة الدالة والكلمة الموحية. ولعل هذا التخير في اللفظ, والانتباه للأداء, حتي يتحقق الإيقاع السريع, هو ما جعل كثيرين من النقاد يعقدون المقارنات بين القصة القصيرة والقصيدة الشعرية, فكلاهما يقوم اللفظ فيه بدوره الكامل, وتصبح كل كلمة زائدة عبئا علي الفن ثقيلا. ونحن كقراء قد صنعنا أذواقنا في تلقي القصة القصيرة ومهمتها من خلال الكتاب, ولعل أول صانع لذوقنا في تلقي القصة القصيرة كان هو الكاتب الرائد محمود تيمور, ومحمود تيمور تلميذ مخلص لموباسان, والتلميذ يتلقي عن أستاذه محاسنه ومعايبه, وقد تلقي تيمور عن موباسان أن ينهي القصة بمفاجأة تكون هي بمثابة ( لحظة التنوير) التي تحدث عنها النقاد الكلاسيكيون وزاد فيها وأعاد مدرسو الأدب بالمراسلة. ومعظمنا لا شك يذكر قصة ( القلادة) لموباسان, وكيف انتهت بهذه المفاجأة ( يالله يا عزيزتي.. لقد كانت القلادة من المعدن, وقد أنفقت سنوات من حياتك في سبيل لا شيء). وتلك النهاية هي الأسلوب المحبب لموباسان ولتلامذته في الشرق والغرب من محمود تيمور إلي سومرست موم, وحين قرأ بعض كتابنا الأدب الفرنسي المتمارض فتنوا به, وولدت قصص محمود كامل المحامي, ولكنها لم تكد تستقر, لأن أثر تشيكوف العظيم اكتسح كل ما عداه.
بدأ أثر تشيكوف العظيم في يوسف إدريس, وليوسف إدريس ولع بتطويع اللغة وقهرها, وله أسلوبه الخاص الذي يحاول فيه أن يصبغ بالعامية لغة القصة, ولكن يوسف إدريس فنان قادر, وليس كل مقلديه في مثل قدرته, ولذلك فقد شاعت الركاكة اللغوية إلي حد منفر بين كتاب القصة القصيرة, وكادت هذه الركاكة أن تصبح أسلوبا معترفا به.
ولعل أسلوب نجيب محفوظ الفصيح فض عن ذلك الاختلاط في مفهوم القصة القصيرة, الذي أوضحته من قبل كانا هما أهم سببين لتوقف الحياة الأدبية عن إصدار كلمتها في أقاصيص نجيب محفوظ.
إن تطور نجيب محفوظ من متابعة الأحداث إلي متابعة الأشخاص هو سبب عودته إلي القصة القصيرة, وفي حديث أخير لنجيب محفوظ مع غالي شكري, نشر في مجلة ( حوار) قال نجيب محفوظ إنه لم يعد يشغل بظواهر الوجود بقدر ما هو مشغول بالوجود ذاته. وقد كان نجيب محفوظ في رواياته: ( القاهرة الجديدة, خان الخليلي, زقاق المدق, الثلاثية, السراب, بداية ونهاية) بعيدا بعدا بينا عن مشكلة الوجود المجرد, كان الذي يعنيه في هذه الروايات هو ( الوجود في زمن) وكان عندئذ يتتبع أشخاصه العديدين, والثلاثية بالمناسبة ليس فيها بطل, وكذلك زقاق المدق وخان الخليلي وبداية ونهاية إلي حد بعيد. وتتبع الوجود في زمن يعني دراسة أحوال الشخصيات وتطوراتها ومصائرها, ولكنه لا يعني دراسة سبب وجودها المجرد أو سبب موتها المجرد. وقد قال لي نجيب محفوظ ذات مرة منذ سنوات, وبعد الثلاثية بالتحديد, إنه لم يعد يعرف كيف سيكتب, بعد أن تغيرت صورة الحياة الاجتماعية, فلقد تحدث نجيب عن الطبقة الوسطي القاهرية ما وسعه الحديث, ومجدها وبكاها حين ارتفعت وانخفضت, ودرس ارتباطاتها السياسية وبناءها النفسي وسلوكها الأخلاقي, ووصف طموحها العظيم وفضائلها العظيمة وخستها العظيمة أيضا, والآن, حين لم يعد للطبقة الوسطي هذا الأثر الضخم في المجتمع, أحس نجيب بالحيرة.
وإننا نري.. نضج نجيب حين وجد نفسه مشغولا بالتفكير في الوجود ذاته, وهو قمة نضج كل فنان عظيم, حين يجد نفسه يفكر في الجوهر وراء الظواهر والعلة وراء المعلولات, وإحساسه أنه قد انتهي من استقطار الطبقة الوسطي وتسجيل أبعادها, هذان العاملان هما اللذان دفعاه للعودة إلي القصة القصيرة. وهنا يضطر نجيب محفوظ إلي استخدام أدوات لم يستخدمها من قبل في رواياته, يضطر إلي استخدام الرمز والتجريد, واللامعقول في بعض الأحيان. ومن هنا كانت المشكلة التي شغلت نجيب محفوظ في معظم قصصه القصيرة التي نشرت في هذه المجموعة, هي مشكلة ( الموت), وتبعتها مشكلة أخري هي مشكلة) الإيمان. ومن البديهي عندئذ أن نجيب محفوظ قد عاد إلي القصة القصيرة بعد أن استوي له أسلوب في السرد والحوار الأدبي, وفي تناول الشخصيات, ومن هنا فإن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ لا أستاذ لها إلا نجيب نفسه.

الموت..
يخطئ الذين يظنون أن التفكير في الموت لون من الميتافيزيقا, فإن الموت هو أكثر الأشياء ( واقعية) في حياة الإنسان, وتوأم الموت هو المفاجأة. وفي رواية بداية ونهاية ترتفع الستار عن موت الأب, وتسدل علي موت الفتاة, والموت في الثلاثية زائر دؤوب.
ولكن كل هذا الموت عند نجيب كان موتا مسج بحياد, يستجيب له الكاتب كجزء من الأحداث أو خيط من النسيج الروائي, ولكن ماذا يكون موقف الكاتب منه لو استله من نسيجه الروائي, ونظر إليه كموت مستقل, موت في ذاته.
في مجموعة ( دنيا الله) أربع عشرة قصة, منها سبع قصص تتحدث عن الموت, قصة( جوار الله) تتحدث عن سيدة عجوز,
تموت ويقتسم ورثتها ميراثها ويتنازعونه قبل أن تسلم الروح, وقصة ( الجامع في الدرب) تتحدث عن نجاة البغايا حين احتمين بالجامع, وموت شيخ الجامع, وقصة ( توعد) تتحدث عن نجاة الأخ المريض وموت الأخ الصحيح البدن, وقصة ( قاتل) تتحدث عن جريمة قتل يدفع إليها متشرد مأجور, فيقتل رجلا يعرفه ولم تسبق له معاملته, بكل قوة وجارحة, وقصة ( ضد مجهول) وسنعود إليها بعد قليل, تتحدث عن موتي كثيرين يموتون دون أن يدري أحد من قاتلهم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى