إبراهيم محمود - مشكلة " كوجيتو " ديكارت المتعدّدة اللغات

لعل المشكلة التي تلبَّست، كما شهَّرت عبارة ديكارت وهي المعروفة بـ" الكوجيتو " كانت موجودة قبله، وهو من صاغها، ليطرحها كي تنتقل ليس إلى الآخرين ممن يتكلمون لغته " اللاتينية- الفرنسية " إنما كل اللغات، وهي : Cogito ergo sum ، لتتنامى بعده، ومن بعدنا، أي " أنا أفكر، إذاً أنا موجود "!
لا بد أن ديكارت تردَّد كثيراً في صوغها ومن ثم طرحها، وبعد ذلك متابعة تداعياتها، حيث يشدد على الذات الفردية، مؤمّماً إياها من أي سلطة وصائية : كنسية" دينية "/ لاهوتية، وغيرها: دنيوية/ ناسوتية، فلا تعود " الأنا الأعلى " محرَّرة باسم الجماعة: الدينية، السياسية، الاجتماعية والتربوية...الخ، إنما محالة على ذاك الذي يتميز بوصفه مفكّراً!
لا بد أن ديكارت فيما جاء به، لم يكن مجرد حالة مخاض فلسفية محض، إنما أكثر من مخاض في " رحمه " الفكري/ الذهني " ونتيجة تفاعلات مركَّبة : تهجينية، عندما نتذكر أنه كان رياضياً وفيزيائياً وعالماً كذلك. ففي " أناه " تبرز بدعة الفلسفة " وضلالتها " و" ضالتها " بالمقابل، كونها التعبير الأوفى عما هو فردي في الإنسان، وإيذاناً لتقصي أو تحرّي ما في الداخل، أبعد من حدود " الاعتراف " الكنسية، فهذا الأخير موقَّع عليه لصالح سلطة روحية من الخارج، بينما في الحالة الديكارتية مفيَّزة أو مجازة بإرادة ذاتية، ومصرَّفة برأسمالها القيمي باسمه. فثمة مساحة جغرافية ذات علامة رياضية مقدَّرة، ومكاشفة جذبية، من خلال ما هو ثِقَلي ومؤثر في الجسد المجتمعي: إنه ثالوث دنيوي معظَّم!
لا بد أن ديكارت من بدء التفكير في " الكوجيتو " كان يعيش صراعاً مع " أنا أعلاه "، وهو يتعقب خطوط التماس والتداخلات بين الاثنتين، ليحسن التعرف على " أناه " باعتباره ديكارت وليس أياً كان.
لا بد أن ديكارت المدشّن للفلسفة الحديثة بمفتاح " كوجيتوي " الذائع الصيت، كان يحمل آثار يده " الفكرية/ الجسدية " كان على وعي محيط بذاته وما حوله ومن حوله، لتكون له إحداثيته الفردية، ويسْر إمكان الوصول إليها والتعرف على مكوناتها.
لا بد أنه في إشارته إلى الموجود والمبتدَأ به، كان مدركاً للكثير من وجوده، ودون هذه العلافة المعرفية، دون وشائج القربى على مستوى الكينونة، ما كان له أن يهتدي في صحراء الوجود، إلى ذاته المميَّزة بـ: أناه الخاصة.
لا بد أن ديكارت، وهنا تبرز مشكلة " كوجيتو:ه، كان قلقاً من هذا الملفوظ، بين ما هو كامن داخله، وما هو مسطور في القرطاس بلغته اللاتينية/ الفرنسية، حيث إن " أنا " تعنيه، كما لو أنه يعلِم بشراً من حوله، أو يكونون مقدَّرين داخله، ضمن هيئة محكمية، أو مساءلة حقوقية/ قانونية، وهو يقاضي قضاته بأن ما ينطلق منه حق مقدس من حقوقه: وهي فردية، وأن هذه الحقوق هي التي شرَّعت كما تشرّع لكل ما هو فردي وما هو اجتماعي في فصل السلطات!
تبدأ مشكلة كوجيتو ديكارت وروعتها، عندما تترجَم وهي تحيل عليه، لكن في لغة واحدة أو أكثر، حيث لكل " أنا " في أي لغة وقْعها الدلالي/ السيميائي، ومنظور خطابي قائم وموجَّه ومتلقَّى بطريقة اعتبارية معينة . نحن إزاء تحولات مقاماتية جهة الذات الناطقة، والذات المتفاعلة، والذات المراقبة ...الخ.
تبدأ مشكلة كوجيتو ديكارت المفخرة العقلية والتاريخية الإنسانية، في كونها علامة مساءلة كبرى لكل من يحوز ذوات الآخرين: أنواتهم، والتأكيد على أن الأنا هي أساس مكين لأي إبداع بشري وتحول بشري، ورقي بشري .
تبدأ مشكلة كوجيتو ديكارت المقلقة والمحفّزة على المزيد من التفكير ومراقبة حالات الذات والوسط والآخرين، من كون " أنا " ذات هيئات وأبعاد رمزية بالمقابل. فكل من يقرأ الكوجيتو، لا يعود ديكارت هو المفكَّر فيه، إنما ناطقه، متهجّيه بقولة " أنا "، وهي الضمير الأعظم والأخطر في التعبير عما هو اجتماعي، وبالتالي، نشهد تنامياً في الرصيد القيمي له، إذ ليس هناك من لا يقول " أنا " ليكون ذاتاً، وذات مكانة اجتماعية، سياسية، وفكرية معينة. فالبدء من الأنا هو الذي يحسّن الشرط البشري، بمقدار ما ينمّي تلك " الملَكة " الاعتبارية ذات البصمة الوجودية الكبرى: الفهم الاجتماعي، بوصفها جماع ما لا يحصى من الأنوات دون أن تنصهر، وتفقد دلالاتها الفردية.
لا بد أن " أنا " ديكارت " غير " أنا " من كان قبله، أو معاصراً له، غير أنا من جاء بعده، غير أنا من سعى إلى ممارسة التفكيك والتشريح لبناء الآثارية النفسية – الاجتماعية، بغية معرفة المزيد من المغيَّبات فيها.
ومن باب التشديد على حقيقة فلسفية/ معرفية، يمكن القول أن ديكارت هذا، وربما عبر قاطرة هذا الـ" كوجيتو " تمكّن من اجتياز/ عبور حدود لغات وثقافات كثيرة، وأهمها على الإطلاق: الفلسفة الألمانية، فهو الفيلسوف ليس الفرنسي فحسب، وإنما الأجنبي الوحيد الأوحد الذي سهَل تواجده وتأثيره في الفلسفة الألمانية ومن خلال الفلاسفة الألمان أنفسهم، ممن يعتدون بأنفسهم إلى أبعد حد: كانط، هيغل، نيتشه، هوسرل، هيدجر...الخ، فـ" هوسرل " ذو النفوذ الفلسفي الكبير بظواهريته " فينومينولوجيته " عالمياً، ربما تنفَّس ديكارتياً كثيراً، في " تأملات ديكارتية – 1932 "، وعبر البوابة الكبرى لهذا الكوجيتو، واستُردَّ ديكارت فرنسياً عبره، وقد عدّل فيه، وطوّر، ليتكلم أكثر من لغة، تعبيراً عن ريادة فلسفية، ومغامرة " الأنا " الفارهة!
مشكلتنا : أننا " لم نعيش أكثر من حالة منع للإفصاح عن هذه الـ" أنا " وشاهدنا الأوحد ما يجري فينا وحولنا. إن إضاءة الـ" أنا " هي أول علامة على حضور الحرية، ومباشرة بناء المجتمع مؤسساتياً.
أن نتحدث عن " أنا " ديكارت سليل القرن السابع عشر المهيب، هو أن نتفحص المستوى الاعتباري لـ" أنا " كل منا، وما إذا كان معرَّفاً بـ" أنا " تعنيه وتسمّيه وتحميه من سطوة " الأنا الأعلى ". هل يحتاج ذلك إلى دليل إثبات لتسمية الجاري؟ أي ما نكون عليه وجوداً!

إإبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى