محمد عمار شعابنية "×" - أزمات في رواية ّالأزمة "لأحمد الجديدي

العنوان هو اليافطة الأساسية والمعرف الوحيد لكل إنتاج مهما كان نوعه ، والرواية إنتاج لا مادي يوفّره خيال الكاتب بصياغات تعبيرية لسرد أحداث وضمان تواصل سياقاتها إلى نهاية النص بتراكيب لغوية تراوح بين القص والوصف والحوار والتحليل في أماكن وأزمنة ملائمة لوقوع الأحداث وترتكز على الأسلوب الحكائي الشفاف والتخيل المضيف . وخلافا للقاص الذي غالبا ما يتمتع بجاهزية انتقاء عنوان كتابه من بين عدة عناوين لقصصه المدرجة فيه فإنّ وللروائي مسؤولية دقيقة وصعبة في آن واحد لاختيار العنوان المناسب لعمله بعد إتمامه وقد تأتي العناوين مقتبسة من أسماء أماكن أو أشخاص لهم حضور مكثف في الأثر المحكي أو تبرز من حالات ومواقف وأحداث لها تأثير بارز في حراكات النص إلا أنه في جميع الأحوال يستهجن العنوان الذي لا يحيل على ميسم من مياسم النص .. وقد يظل البحث عن عنوان للرواية مهمة شاقة تؤرق الكاتب الذي يسعى إلى اجتذاب القارئ بمفتاح يساعده على فتح الكتاب بسرعة وبدون تردد لولوج الأثر المحكي ، ويذكر في هذا السياق أن عددا من الكتاب المشهورين قد قاموا بتغيير عناوين رواياتهم إما لطول عباراتها الأولى كـ "أربع سنوات ونصف من الكفاح ضد أكاذيب الغباء والجبن " الذي استعاض عنه وليام غولدينج سنة 1954 بـ " أمير الذباب " أو "كل شئ بخير إذا انتهى بخير" الذي تخلى عنه تولستوي سنة 1869 ليختار " الحرب والسلم" ،أو لمطابقتها أكثر لمضمون النص المحكي وكـ "دوريت الصغيرة" لتشارلز ديكنز التي سحبها سنة 1857 لتحلّ محلها " ليست غلطة "..كما أنّ ماركيز المتحصل على جائزة نوبل للآداب قد تخلى قبيل نشر روايته عن عنوان " البيت " ليسميها " مائة عام من العزلة ".
وهناك من يتراجع عن العنوان الأول ليُحل محله عنوانا آخر كي لا يتطابق مع عنوان رواية لغيره إذ أن بعض الدول قد وضعت قوانين جزائية تسلّط العقوبة على كل مؤلف ينتحل لإنتاجه عنوان مؤّلف سابق له ، فجاء مثلا الفصل L112 من قانون الملكية الفكرية بفرنسا مؤكدا على أن عنوان الأثر الفكري محميّ كالأثر نفسه ولا يسمح لأحد أخر استعمال العنوان نفسه لعمل مماثل كي لا يتسبب ذلك في التباس غير مرغوب فيه .
فهل وفـّق الروائي الشاب أحمد الجديدي في اختيار اسم مناسب لباكورة أعماله الروائية
عندما اقترح كلمة « الأزمة " عنوانا لها. وما هي الدوافع التي أقنعته بذلك الاختيار؟
من الواضح أن المنخرط في مسار أيّ نشاط فني أو الأدبي يوجِه أفكارَه معطى جدليٌ ذو روافد إيديولوجية ومعرفية وجمالية قد تنهل من براهين فلسفية وعلمية ومنطقيةـ وهو مطالب بأن لا ينحاز لواحد منها على حساب غيره إذا أراد احترام عمله والنظر إليه بعين الإبداع الذي لا يهادن الظواهر التي تعيق إشراقه وتوهجه ليطلع عليه قراء لا تربط بينهم مشارب فكرية أو عقائدية واحدة لأنّ الأدب يتوق إلى التوجه الإنساني بعيدا الشوفنية الضيقة ، والرواية رافد واسع من روافده، غير أن ذلك لا يتحقق دائما لدى جميع المنتمين إلى هذا المجال حتى عندما يتجنبون الوقوع في المحذور ويحاولون أن تكون أعمالهم شفافة وجذابة ومحتفى بها من طرف المتلقي لأن دافع الكتابة لا يكون دائما متلبسا ببراءة السعي إلى ابتكار إنتاج تأليفي ما إذ لا بدّ من أن يهدف إلى تبليغ رسالة تحريضية أو تنويرية أو إثارية.. وقد نعذر أحمد الجديدي على انتصار موقفه انتصارا نسبيا وحذٍرا لقناعته الإيديولوجية باعتباره ناشطا مدنيا وحركيا سياسيا في الأوساط الجامعية من المؤثرين الأساسيين بتنظيراته وخطبه على مريديه من الطلبة وهو إلى جانب ذلك في طفرة واندفاع شبابه الذي يطمع ـ وهو في السابعة والعشرين سنة من عمره ـ إلى التجاوز السريع والتغيير العاجل ، لذلك فإن مفتاح باب الولوج إلى روايته أسمه " الأزمة " وقد كُتب على صفحة الغلاف باللون الأحمر وبحجم صغير كان يمكن أن يتضخم مرّتيْن، بل تراءى اسم المؤلف أطول وأوضح منه باللون الأسود الغامق وكان يمكن أن يحمل الكتاب عنوان " الأزمات " لأن فصول الرواية أو فقراتها الملاحقة تلاحقا لا يحافظ على وحدة الزمان والمكان وترابط الأحداث توحي للقارئ بأن المتحركين في النص يعيشون أزمات لا حدّ لها.
يبدأ الفصل الأول من الرواية بهذه الجملة الطويلة " الساعة تشير الآن إلى العدم، تشير إلى تشعّب الأمور أكثر إلى الضبابية وغموض الأفق ... " ، وهي الجملة الفخ التي وضعها الروائي ليوقع بها كل قارئ يفتح كتابه للانغماس في مطالعة القصة بحثا عن خبر سرعان ما ينخرط المؤلف في سرده ..فميلاد ـ الراوي الأول ـ شاب يلقى عليه القبض بغتة يوم الأربعاء 15 جوان 1997( لا أعلم لماذا اختار عنه الكاتب حزيران وهو اسم الشهر السادس في المشرق العربي لا في تونس ) ويتم اقتياده بالعنف إلى وزارة الداخلية أين يقع إيداعه في مكتب أو غرفة يكتشف أنها للاستنطاق والتعذيب في آن واحد بعدما توجه إليه تهما كثيرة من بينها :
ـ شتم زوجة رئيس الدولة.
ـ العداء الشديد للنظام .
ـ الإدعاء بسرقة أموال صندوق التكافل الاجتماعي .
ـ التستر عن مشرع بعث قناة تلفزيونية معارضة في بلد أوروبي .
من خلال وُصف ما حدث أثناء وقوع منير بين براثن المحققين الذين يسمى مدير الأمن فيهم "جهنم" وقائدهم " أبا عذاب " وطبيبهم الذي يتدخل لإسعاف كل متهم يتعرض إلى عنف مبرّح يتسبب في أضرار خطيرة " شعور"، اكتشفتُ أن أحمد الجديدي بارع في عرض الأحداث وتقديم تفاصيل دقيقة حول مختلف أطوار التعذيب وتعامل مقترفيه مع الواقعين بين أيديهم وقد يعود ذلك إلى مرور هذا الكاتب الذي لم يقدّم بعد إعداد رسالته الجامعية للحصول على الماجستير بتجربة مماثلة لِما كابده بطله ولو أنها لم تكن بالخطورة المروية ولكنها تبقى شاهدا على ضعف الضحية أمام الجلاد في لحظات لا سلاح له فيها إلا متى صمدت قدرته على تحمل الألم والثبات على المبدأ إن استطاع إلى ذلك سبيلا .
والمؤلم جدا هو معاناة المتهم من ضراوة التعذيب الذي لا ينتهي إلا عندما تُثبت براءته فيُطلق سراحه دون اعتذار له كأن شيئا لم يكن ويطلب منه ألا يهتم بغير دراسته الجامعية لا غير ، وفي ذلك تهديد بأنه قد يُحرم منها إن تعلقت به تهم لاحقة .
قد يكون ما حدث ناتجا عن وشاية قذرة من عمدة القرية الذي يعتبرها سببا من أسباب ضمان قوت يومه . وميلاد يعرف ذلك إلا أنه لا يرغب في الانتقام لعلمه بأن النتائج ستكون وخيمة عليه وهو الذي لم يعد يفكّر في غير أمّه التي تجهل عنه كل شئ في ذلك الوقت .. يقول في الصفحة 34"إنه تحوّل إلى عدّاد يحتسب كميّة الأفكار التي تجتاحه في الثانية...لكن أهمها كانت أمّي ..كنت أتخيّل لو أني في منزلنا المتواضع هناك في قريتنا المنسية بجانب " حبيبة" لكنت مستلقيا أضع رأسي فوق فخذيها وأطلب منها أن تمرر أصابعها علي شعري ...."
فاسم حبيبة مشتق من الحب الذي يملآ قبل الابن وهو ميلاد المشتق اسمه من الولادة ،كيف لا وهو الذي ولد من جديد بعدما سلّط عليه من تعذيب مارسه المحققون الشرطيون وكاد أن يؤدي بحياته لولا إنقاذه بالتعجيل بإسعافه في المستشفى بإلحاح من طبيب المباحث.
يغادر ميلاد معتقله القصير والضيق يصمت عن الكلام المباح والغير مباح ليتدخل المؤلف لا راويا وإنما مستعرض وقائع من صفحات التاريخ ليجد نفسه في معتقل ذي زمن أطول وفضاء أوسع هو الوطن الكبير الذي يذكّره بوقائع ومآسي وأحداث ومكائد أحكمت وُثُقها حوله منذ قرن ونصف من الزمن يتآمر من قوى غربية أمعنت في تدميره وتشتيت قواه وسلب ثرواته وإحباط عزيمته وإضعاف إرادته ليمارس حياته شكلا بلا مضمون ويقف حكامه ضد أرادة شعوبه لأجل الخلاص من الهيمنة والخنوع .
يستشهد الكاتب في سياق مؤّلـَّفِه بأحداث كثيرة قصصها منتشرة في كتب التاريخ ويُسهب في استعراض أهمها حسب وجهة نظره وهي التي لو وظّفت في الرواية بتخيّل سردي وبتقنيات قصصية لمثلت إضافات هامة للمتن.. وهنا أشير إلى أن عشرات الروايات من أقطار المغرب العربي بالخصوص قد نهلت من سيَر تاريخية واستثمرتها وفق ضروريات وجماليات وتقنيات السرد الروائي التاريخي فقدمت إضافات ترغيبية ساعدت القراء على مطالعتها ليقارنوا ربما بين صورة الشخصية أو الشخوص المتحدث عنها في القص من ناحية وفي التسجيل التاريخي من ناحية أخرى . وأذكر من بيتها في هذا السياق :
1ـ من المغرب :
ـ بعيدا عن الضوضاء قريبا من السكات لمحمد برادة
ـ تغريبة العبد المشهور بولد الحمرية لعبد الرحيم لحبيبي
2 ـ من الجزائر:
ـ الرايس لهاجر قويدي
ـ كتاب الأمير لواسيني الأعرج
من تونس :
ـ برق الليل للبشير خريف
ـ أسرار صاحب الستر لإبراهيم درغوثي .
والمكتبة العربية وغيرها تعجّ بمئات بل آلاف الروايات التاريخية التي لها قرّاؤها المولعين بها ولو لم يكن ذلك متفقا عليه لاختفت ولما تواصل تأليفها من طرف كتّاب اختصوا في إنشائها بآليات إبداعية ملائمة ، بل هناك دور نشر في بعض الدول الأوروبية وأمريكا والصين تتعامل بِنَهَمٍ مع مؤلفي هذا النوع القصصي الذي يتطوّر من كتابة إلى أخرى لضمان الاستمرارية والانتشار الواسع .
لذلك يمكن القول إنّ الروائي لا يسرد التاريخ فحسب لأن ذلك من مهمة المؤرخ،ولا يؤرّخ أيضا ولكنه يعيد قراءة التاريخ ليستشف الواقع من خلاله بقراءة تركيبية تخييلية وتفاعلية لتطويع أحداثه لمقتضيات واشتراطات السرد وأساليبه وفنياته..
ولذلك أيضا فإن (العمل الروائي عموما نص أدبي فني بالدرجة الأولى وقد يحوي إحالات توثيقية ولكنه لا يتحول إلى نص تاريخي .. بشير الوسلاتي : مجلة الحياة الثقافية التونسية عدد169 ، ص 145)
وعندما ينهي المؤلف جولته الطويلة في مطاوي التاريخ وحياة بعض القبائل والشعوب والأجناس البشرية التي لم يدنّس غبار الحضارة أنماط عيشها، بل فيها من استنبط نمطا لحياة فصيلته كالأماوزنيات اللائي اعتزلن العيش المختلط مع الرجال ليمارسن حريتهن ولا يقتربن منهم إلا يوما واحدا في السنة ليحبلن منهم لغاية تواصل النسل والحياة.. فماذا كان أحمد الجديدي يريد بهذا مثلا ؟
أعتقد أنه كان يستفز بما ذكر النساء العربيات ليبتكرن طُرق عيش تنهي تبعيتهن للرجال ولا أرى أنه كان يحرّض على القطيعة بين الجنسين لأنه على يقين من أنّ كلا الطرفين محتاج إلى الآخر في معيشة متكاملة .. ولو لا ذلك لما توسّل في سياق القص اللاحق إلى استحضار المرأة السورية التي غادرت بلدها إلى تونس فرارا من ويلات الحرب الطاحنة التي ذهب ضحيتها زوجها الجامعي وعدد من أفراد أسرتها ولم تبق لها إلاّ أختها التي سبقتها بحثا عن مستقرّ لها في مدينة القيروان .
يسحب الكاتب الكلمة نهائيا من الراوي ميلاد الذي لم يعد مطالبا بمواصلة القص بعد استعراضه ما حلّ به أثناء الاستنطاق من طرف الشرطة وما لحقه من تعذيب بأحد أقباء وزارة الداخلية، ويصمت الكاتب المتحدث وهو ليس روائيا في عمله عن أحاديثه المعروضة ممّا أُثقِل به كاهل التأريخ العربي المعاصر من ارتكاسات مزّقت أوصاله وأضعفت شوكته وأثقلت كواهل شعوبه ، ويبرز راوِ موَازٍ يدعى منير وهو رفيق ميلاد في الدراسة الجامعية ( لم يذكر الكاتب ذلك إنما هو استنتاج مني ) والسكن بأحد الاستيديوهات السكنية التي يكتريها الطلبة عادة لتكاليف كرائها البخسة، ليكمل بقية الكلام بمسروداته وحوارياته واستطراداته فيقودنا قبل التواصل معه إلى أن نطرح السؤال التالي :
ـ إلى أحد حدّ يـُسمح الكاتب بأن يغيّر راوي روايته، ومن يكون الراوي الأساسي إذا حدث ذلك ؟
× يتبنى المؤلف الراوي ويوظفه لقول ما يرغب هو في قوله وينتظر منه أن يؤدي المهمة وفق استراتيجيه روائية مسطرة من طرفه مسبقا إذ لا وجود لنص بدون راو وبدون سامع وبدون قارئ كما يقول بارت ، لذلك فإن المهمة الأساسية للراوي تتمثل في سعيه إلى النهوض بالوظيفة السردية لغاية التأثير على المتلقي بما يحفل به النص من أحداث ومواقف وانفعالات. إلا أنّ دور الراوي الأساسي أو الممهد للقص قد يكون محدودا أو مرتبطا بظروف وحالات معينة ومحددة لا يمكن تجاوزها ، الشيء الذي يجبر الكاتب على إعفائه من مواصلة القص وإحلال راوٍ آخر مكانه ..
هذا ما حصل في " الأزمة " التي أدّى فيها الراوي الأول ميلاد رسالته وفق مسارها المسطر له من طرف الكاتب المتمثل في قصة إيقافه من طرف الشرطة وتعذيبه على خلفية تهم كيدية وجّهت إليه كما تجاوز وقائعها بتعليقات عن تداعيات الأوضاع السياسية الرديئة إلى حدود الصفحة 85 ، وبرز بعد ذلك متحدث قد لا تنطبق عليه صفة الراوي لأنه ظل في أغلب كلامه عارض أحداث وقعت في تاريخ غير بعيد محدد من طرفه بـالمائة وخمسين سنة الأخيرة النى تحركت بتداعياتها السيئة فوق أرضنا العربية .. وبذلك يجوز القول إن الكاتب قد نصّب نفسه متكلما في كأنه لم يجد في راويته من له القدرة على سرد جميع المعلومات التي يحيط بها هو ، وقد أمتد العرض من الصفحة 86 إلى الصفحة 122 .. بينما برز في الشوط الثالث من القص شخص الراوي الموازي أو الاحتياطي وهو منير رفيق ميلاد ليصبح متكلما فيتحول الأخير إلى محكيّ عنه عند ما تبرز امرأة سورية فجر أحد الأيام في طريق الرجلين مرتدية جلبابا أسود وخمارا على رأسها وتعلمهم بعد التحية بلهجة شرقية أنها لم تذق طعاما ولم تنم منذ يومين لأنها حلت بتونس هروبا من أتون الحرب في بلادها ، فيتكرمان عليها بدعوتها لمرافقتهما إلى بيتهما أين تقضي معهما أياما قبل استئناف رحلتها إلى القيروان بحثا عن أختها التي سبقتها إلى هنا ك .. والمرأة السورية أسمها "حلا" ،وقد اختار المؤلف هذا الاسم لأنه اسم رقيق وسهل اللفظ ومعناه صار حلوا طيّب المذاق وهو لا يتعارض مع شروط التسمية في الذين الإسلامي .. ولكن حلا السورية امرأة مسيحية فقدت زوجها الجامعي وأفراد أسرها الذين سحقتهم المعارك الشرسة فالتجأت إلى الفرار تاركة ذكريات السعة وحياة العزّ التي عاشتها عندما كانت طبيبة بالمستشفى الوطني بالرقة واختارت تونس البلد الذي يتكلم لغتها العربية وديانته الإسلام مفضلة اللجوء إليه على الهروب إلى بلد مسيحي أوربي له عاداته وتقاليده وممارسته الخاصة بأهله والغريبة على غيرهم من العرب خصوصا مسيحيين كانوا ـو مسلمين لما يجمع بينهم من روابط التعايش والانتماء ...
أثناء إقامتها مع الشابين سخرت حلا نفسها لتنظيف وترتيب محتويات السكن واكتشف منير الذي كان يغادر البيت لقضاء بعض الشؤون المنزلية أن ميلاد الذي لم يتخطّ العتبة منذ حلولها قد ارتبط معها بعلاقة عاطفية علق عليها ذلك الراوي الموازي بالقول " أنا لا أستغرب تقاربهما أعتقد أن الإثنين هاربان من شئ ما وجداه في بعضهما البعض .. ص144 " .. تلك حقيقة لا يعارضها علم النفس الذي يعتبرها نوعا من التنفيس Abreaction لاسترجاع تجربة ما وتفريغها من تجاوزاتها العاطفية .
فما هو الدافع الإجرائي الذي جعل الكاتب يعوّض ميلاد الراوي الأساسي بمنير الراوي الثانوي أو الاحتياطي أو الموازي لإكمال توجيه مسار القصة إلى نهايته ؟
من الواضح في النص أن ميلاد قد أصبح بعد إطلاق سراحه منطويا على نفسه قليل الحركة ومدمن على معاقرة الخمر وكثرة التدخين وعاطفيا بعد ظهورحلا، لذلك أوكل الكاتب رواية بقية الأحداث إلى منير الذي عرضها بأمانة فأحاط القارئ علما برحيل المرأة السورية إلى القيروان بحثا عن أختها ، إلا أن أخبارها قد انقطعت ولم تصل منها إلى ميلاد أو إليه أية مكالمة تنبؤهما عن وضعها الجديد وتطمئنهما بما إذا كانت التقت شقيقتها ..فقد" رحلت حلا لتعانق قدراها وبقي ميلاد ليعانق زجاجة البيرة ويطارد الأحلام والذكريات ص 201 " وبالتالي فهو (ميلاد)عاجز عن أن يكون راويا حتى النهاية لأن من مواصفات الراوي أن يتقيّد باشتراطات الزمان والمكان وأن لا يكون عاطفيا أو عصبيا أو منطويا على نفسه ليؤدي بأمانة المَهمة الموكلة إليه من قبل الروائي الذي هو المؤسس الأول للكون السردي .. ولعلّ ذلك ما جعل الراوي منير يصرّح في الصفحة قبل الأخيرة بأن " كل الخيارات والفصول المنشودة التي سافر عبرها ميلاد محطات تجارب ربما أكسبته التجربة وربما قتلت فيه بصيص الأمل وروح المقاومة ولم يبق له مفر بعد هذا سوى الهروب من واقعه" .
هكذا تنتهي رواية الأزمة دون أن يهتدي شخوصها إلى حلول أو نهايات تخرجهم من أزماتهم التي تظل قائمة فيختفي الجميع في نهاية النص وكأنهم لم ينسجوا أحداث رواية أو لم يلتقوا فيها لحظة من الزمن .
وفي « الأزمة " يظل وجود المرأة باهتا ولا دور له إلا في ما ظهرت به حلا السورية وهي تكابد للتشبث بالحياة.ولم نستمع إلى صوت امرأة أخرى ولم يظهر منها ملمح للقارئ في سياق الوصف والتصوير رغم الإشارتين العابرتين التيْن صدرتا عن ميلاد في الفصل الأول من الرواية ،وقد برزت أولاهما في الصفحة 14 وهي "كان هناك مجموعة من الرجال حليقي الرِؤوس من بينهم امرأة وكان جميعهم كلبؤات تترصد غزالا صغيرا ابتعد عن ناظر أمه .. اقتربوا مني باستثناء المرأة ..."
لم يقدم الكاتب صورة لهذه المرأة ولا تعريفا يكشف عن دورها ومهمتها بين أولائك الرجال فبقيت ملامحها ضبابية ودورها غامضا كأنها غير موجودة في ذلك المكان.
أما الإشارة الثانية فقد اتجهت إلى أم الراوي الأوّل التي تذكرها أثناء وبعد تعذيبه بقوله " لم أكن أفكر سوى بأمي التي عانت الكثير من أجلي. تعلق حلمها بي عند الصغر . ابنها الذي نجح الباكالوريا ودخل الجامعة سيعود محملا بشهادة جامعية تفتخر بها وسط نساء القرية ... ص ص 31 و32 ...". بينما تذكر " خلا" ،أختها التي لا تظهر إلى نهاية القصة ، فتقول " أختي اسمها " رانا " بيي (أي أبي) وأمي ماتوا بالقصف ع حينا اللي بنسكون فيه انا واختي هربنا مخيم " انجوبينار" عالحدود السورية التركية في محافظة " كليس" بس لما صارت عجا وكتروا اللاجئين بسوريا اختي ايجات ع تونس قبلي بشي شهرين وهي هلا بمحافظة القيروان ".
ما يحسب للكاتب هو تسجيل كلام حلا بلهجتها السورية لإضفاء مصداقية أكثر على قصتها التي ركزت على جزئيات دقيقة من الأحداث التي عاشتها في بلدها وعلى مواقعها وتفاصيلها إلى جانب إسقاط النبرة الكلامية على حجم المأساة التي تعاني منها المسكينة التي ضاع منها كل شيء ولم يبق لها اللهجة لتبلغ بها أحاسيسها وهمومها.
ولعل الكاتب قد تعمّد إلى أن يكون للنساء حضور مكثف وفاعل في مدار الرواية ليقنعنا بأن المرأة العربية لا ناقة لها ولا بعير في ما جدّ ويجدّ في الوطن العربي من أزمات أدت إلى انهيار دوره الحضاري وتعطيل سيره لمواكبة المستجدات الإنمائية في العالم ..
ينتهي ميلاد من حامل قضية أو متهم بها في الفصل الأول من الرواية وهو المشار إليه في التحقيق بالماركسي التروتسكي إلى شخص شبه ميّت غير مكترث بها يقع حوله في الفصل الأخير، وقد نسي أمه المستقرة في حياته ولم يعد له ذكر لها وتوجه تفكيره إلى حلا المرأة العابرة ، كما أدمن التدخين ومعاقرة الجعة بشراهة فمات فيه بصيص الأمل وروح المقاومة ولم يبق له مفرّ بعد ذلك سوى في الهروب من واقعه .
أما منير الذي تأكد أن تكليفه من طرف المؤلف برواية ما تبقى من وقائع ولم نعرف عنه إيّ انتماء عقائدي ولا أي إدمان أو ميل سوى أنه رقيق ميلاد وهو الذي استنتج مما حدث رأيا يقول " لا حل للتقدم بهذه المجتمعات سوي في مراجعة التاريخ ودراسته جيّدا من زاوية موضوعية خالصة ...ص200" .


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
"×" محمد عمار شعابنية : شاعر من تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى