أمل الكردفاني- الثقافة أم التخصص؟

تجادلت مع والدي حول نقطة معينة فهو كان يرى أن الثقافة لا قيمة لها والقيمة الحقيقية تكمن في التخصص.
رأيي جاء مختلفا وهو أن التخصص مهم لكن لابد ان تجتمع معه الثقافة.
الثقافة تثري التخصص اكثر وربما تساعد على نشوء علوم أخرى. فالطب الشرعي مثلا هو نتاج اندماج الطب بكافة فروعه بالقانون كثقافة اضافية. وعلم لسانيات الانترنت semantic web ناتج عن تخصص اللسانيات بالتكنولوجيا. صناعة آلة او برنامج تعتمد على تخصص مضاف اليه ثقافة بعلوم وفنون اخرى...الخ.
وهكذا فالتخصص الدقيق لا يمكن الانكفاء عليه انكفاءا مطلقا والى افضى كما قال بعض الماركسيين لتعطيل ملكة التنويع الابداعي والى تعطيل العقل عن استيعاب وفهم كل ما عدا العلم المتخصص فيه. لقد راهن آدم اسميث على فكرة تقسيم العمل ، واعتبرها ميزة لتحقيق الاتقان والسرعة، ولكن رد الماركسيون على ذلك بأن العامل يتخصص في جزئية صغيرة لسنوات طويلة ولا يكتسب اي مهارات أخرى تعينه في حال فقده لعمله. وهذا نقد حقيقي ، يمكننا ان نلاحظ مثلا ان اغلب العسكريين حين يتركوا العسكرية لأي سبب يعانون من ايجاد اعمال أو مهن جديدة لأنهم لم يتمرسوا الا على عمليات القتال والسلاح.
التكامل بدلا عن الثقافة:
ينادي البعض بالتكامل بين العلوم بدلا عن الثقافة ، وهذا ما يحدث بالفعل في القطاعات الاقتصادية والعلمية ؛ ففي ناسا مثلا يتكامل اختصاصيون في مختلف العلوم لاطلاق صاروخ او مسبار ، بعضهم جيولوجي وتكنولوجي وفيزيائي ...الخ. فهل التكامل يمكن أن يكون بديلا عن الثقافة. أعتقد أن التكامل وسيلة فعالة ولكن ليس دائما حينما يتعلق الأمر بالقدرة على بناء شبكة علاقات بين التخصصات المختلفة. بناء الشبكة يحتاج الى ثقافة كمنطلق مبدئي ، بحيث تستطيع ان تطلق تساؤلات متنوعة ومن ثم فهم الحقول المعرفية المحتاج اليها. فلنتخيل مثلا أن مؤسسة تريد صناعة مسبار فضائي. هذه المؤسسة عليها اولا ان تعرف الحقول المعرفية التي يجب الاستعانة بخبراء فيها. فلنلاحظ ان الفيزيائي القح لن يستطيع التعرف على العلوم الأخرى التي يحتاجها المشروع لأنه خارج نطاق الثقافة ومعتكف داخل تخصصه الفيزيائي ونفس الحال بالنسبة للعلماء الآخرين. إن تحقيق قيمة اضافية لأي منتج product يحتاج الى ثقافة وليس الى تخصص فقط. ثقافة تمنح المنتج قيمة أعلى مما لو تم الاكتفاء بصورته الأولية الباهتة. إن قوقل مثلا لا يستعين بمبرمجين فقط ، بل بمئات من أصحاب التخصصات الأخرى وكل اضافة تتم إنما تنشأ عن خيال مثقف ، خيال قادر على ربط كل العلوم الانسانية والطبيعية ببعضها البعض عبر شبكة من العلاقات والتشابكات كمرحلة أولية هامة. كل تحديث هو اضافة ثقافية في المقام الأول... كل أداة جديدة نتجت عن عقل مثقف وليس متخصص. التخصص يأتي بعد ذلك لتأكيد الفرض الثقافي صحة او بطلانا ، ممكنا أو غير ممكن التحقيق. وهكذا.
هناك مهن واعمال تحتاج لثقافة عالية جدا كالصحافة والمحاماة والقضاء والبحث العلمي في سائر العلوم الانسانية. فبانعدام الثقافة سيقع المتخصص في فخ التكرار او الشروحات العامة او على الأقل سيتطور ببطء شديد وغالبا ما لن يتمكن من خلق علم جديد ناتج عن ديالكتيك بين التخصص والمعارف الأخرى خارج هذا التخصص.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى