أحمد بلحاج آية وارهام - أُمِّيٌّ شاعرٌ فَصِيحٌ..

في الخريطة الشعرية العربية أُمِّيونَ شعراء فصحاء، لم تكن لهم دراية بالقراءة ولا الكتابة، مع أنهم كانوا يعيشون في أزمنةٍ لامجالَ للبروز فيها إلا بالعلم والمعرفة، وعلى الرغم من ذلك قالوا شعرا بَزُّوا به المتعلمين والمتصدِّرين ميدان القول الشعري، لم تشغلهم حِرَفُهم التي يقتاتون منها عن نسجِ برودٍ من الشعر مُذهلة. وهم بذلك صاروا منطقة شعريةً شفَهية مُبَايِنةً للمناطق الشعرية الكتابية، تستدعي التأملَ والدراسةَ في مختلف العهود، كالعباسي والمماوكي والأندلسي.
ومن هؤلاء الأميين الشعراء الفصحاء الخُبْزَأُرْزِي، وهو أبو القاسم نصر بن أحمد، من أهل البصرة.عاش في خلافة المتقي لله أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر ؛الذي بويع بالخلافة لعشرٍ خلون من ربيع الأول سنة 329ه، وخُلِعَ، وسُملت عيناه يوم السبت لثلاثٍ خلون من سفر سنة 333ه. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا وثلاثة وعشرين يوما، وأمُّه أمُّ وَلَدٍ.
وقد كان الخبز أرزي ممن اشتهر شعره في زمن هذا الخليفة،واستفاض في الناس وظهر، مع أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وإنما كان يخبز خبز الأرز بمربد البصرة، ويبيعه ، ويتكسب بذلك معاشه، ومنه التصق به لقبه، وفي أثناء عمله كان ينشد شعرا قريبَ المأخذ، يَعْلَق بالنفس لسهولته، يَقصُره على الغزل والوصف والحِكم والأمثال والأخلاق، والناس يزدحمون عليه لسماعه، ويعجبون من حاله، ثم ذاع خبره خارج بلده، وتُنُوقلَت أشعاره، لما فيها رقة الغزل، ودقة الوصف، وصفاء اللغة . وكان من معاصريه:الوزير الشاعر الخطاط ابن مُقلة ؛ الذي قُطعت يده، وتوفي في السجن سنة 338ه، والشاعر الدلاَّل الوَأْوَاءُ الدمشقيًّ المتوفى سنة 385ه، وأبو الحسن ابن لَنْكَكٍ ، الذي حضر يوما عنده في محله، فبخَّره ببَخورٍ غير طائل، فقال ابن لنكك:
تَبَصَّرْ فِي فُؤَادِي فَضْلَ حِبٍّ يَفوُقُ بِهِ عَلَى كُلِّ الصِّحَابِ
أَتَيْنَاهُ فَبَخَّرَنَا بِشَيْءٍ مِنَ السَّقْفِ الْمُدَخَّنِ بِالْتِهَابِ
فَقُمْتُ مُبَادِراً،وَحَسِبْتُ نَصْراً يُرِيدُ بِذَاكَ طَرْدِي أَوْغِيَابِي
فَقَالَ:مَتَى أَرَاكَ أَبَا حُسَيْنٍ؟ فَقُلْتُ لَهُ:إِذَا اتَّسَخَتْ ثِيَابِي

فهو لم يكن نكرة في زمنه، وإن كان من بيئة شعبية ، وصاحب حرفة وصناعة ،فشعره كان يدور على كل لسان في بلده،يردده الشباب والصبْيَة، في كل مكان،والمغنون يُغَنُّون فيه على جميع آلات الطرب .وقد قدم بغداد ،فاستقبله أدباؤها وشبابها استقبالا حسنا ،لما كان قد سبقه إليهم من أشعاره الخفيفة السهلة العذبة ،والتي لقيت استحسانا من لدن الأدباء والكتاب حتى أن بعض معاصريه ممن كانوا ينتابون دكانه عُني بجمع أشعاره في ديوان،تُوجد نسخة مصورة منه في معهد المخطوطات بالجامعة العربية.
و قد تضاربت الروايات في سبب موته، فبعضها يقول إن صاحب البريد قد غَرَّقَه لأنه هجاه، وبعضها الآخر يقول إنه هرب من البصرة، ولحق بأبي طاهر بن سليمان صاحب البحرين. ونحن نستبعد هاتين الروايتين لكون الشاعر لم يُشَعْ عنه شعر الهجاء،بل الذي أُشيع عنه هو شعر الغزل والحكمة والفضائل.وعلى أيٍّ فإنه توفي سنة 337ه،مخلفا ولدًا اسمه أبو طاهر الخبزأرزي .

يقول في حمد الصمت وذم المنطق:
لِسَانُ الْفَتَى حَتْفٌ لَهُ حِينَ يَجْهَلُ ** وَكُلُّ امْرِئٍ مَا بَيْنَ فَكَّيْهِ مَقْتَلُ
وَكَمْ فَاتِحٍ أَبْوَابَ شَرٍّ لِنَفْسِهِ ** إِذَا لَمْ يَكُنْ قُفْلٌ عَلَى فِيهِ مُقْفَلُ
إِذَا مَا لِسَانُ الْمَرْءِ أَكْثَرَ هَذْرَهُ ** فَذَاكَ لِسَانٌ بِالْبَلاَءِ مُوَكَّلُ
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيداً مُسَلَّماً ** فَدَبِّرْ وَمَيِّزْ مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ

ويقول في البغي والحسد :
كَأَنَّمَا الدَّهْرُ قَدْ أَغْرَى بِنَا حُسُدَا ** وَنِعْمَةُ اللَّهِ مَقْرُونٌ بِهَا الْحَسَدُ

ويقول في الكِبْر والعُجْب والتيه:
وَمَنْ أَمِنَ الْآفاتِ عُجْباً بِرَأْيِهِ ** أَحَاطَتْ بِهِ الْآفَاتُ مِنْ حَيْثُ يَجْهَلُ

ويقول في العتاب:
وَتَعَاتُبُ الْإِخْوَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ** بَعْثٌ عَلَى الْإِجْلاَلِ وَالْإِكْرَامِ
لَوْلاَ اعْتِرَافِي بِاعْتِرَافِكَ فِي الَّذِي ** تَأْتِي وَتَتْرُكُ مَا أَتَاكَ مَلاَمِي

وفي العتاب أيضا يقول:
إِنْ كَانَ لَفْظِي كَرِيهاً فَاصْطَبِرْ،فَعَلَى ** كُرْهِ الْعِلاَجِ يُصِحُّ اللَّهُ أَبْدَانَا
لَوْلاَ الْعَوَارِضُ مَا طَابَ الْعِتَابُ لَنَا ** لَوْلاَ قِصَارَتُنَا لِلثَّوْبِ مَا زَانَا

{قصارة الثوب:غسله وتبييضه}
إِنِّي أُعَاتِبُ إِخْوَانِي وَهُمْ ثِقَتِي ** طَوْراً وَقَدْ تُصْقَلُ الْأَسْيَافُ أَحْيَانَا
هِيَ الذُّنُوبُ إِذَا مَا كُشِّفَتْ دَرَسَتْ ** مِنَ الْقُلُوبِ وَإِلاَّ صِرْنَ أَضْغَانَا


* عن:
أُمِّيٌّ شاعرٌ فَصِيحٌ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى