خالد محمد عبده - فى ذكرى ميلاد مولانا جلال الدين الرومي

أسير هذه الأيام فى بستان أحد تلامذة مولانا، وهو محمد إقبال الصوفى الثائر. لماذا إقبال صار تلميذًا للرومي، رغم ما يفصله عنه زمانًا ومكانًا، ورغم قربنا منه فى حساب الأزمان. - لأنه ثار على القديم بكل صوره ولم يرض أن يكون تابعًا لأحد، سواء فى الدين أو الفقه أو الاجتماع أو الأدب أو الاقتصاد أو الفلسفة أو فى أى شيء يشترك فيه مع معاصريه، وسار فى بستان الأولياء محطمًا أبراج عُبّاد الصور، حتى أنه مع كثرة تلاواته لآيات الشعر والنثر الصوفى الذى لا يبلى رفض بعض من تصدّروا فى سمائه كحافظ الشيرازى والشيخ الأكبر ابن عربي، فى حين أنه قبِل بالرومى والبسطامى والحلاج وجعلهم شيوخًا ونجومًا لا تغيب أنوارهم عن سمائه. وسار فى بستان الأولياء محطمًا أبراج عُبّاد الصور، حتى أنه مع كثرة تلاواته لآيات الشعر والنثر الصوفى الذى لا يبلى رفض بعض من تصدّروا فى سمائه كحافظ الشيرازى والشيخ الأكبر ابن عربي، فى حين أنه قبِل بالرومى والبسطامى والحلاج وجعلهم شيوخًا ونجومًا لا تغيب أنوارهم عن سمائه.

- كان إقبال تلميذًا للرومى النور الدائم ليس لأنه قال: صيّر الرومى طينى بشرًا ومن غبارى شاد كونًا آخر، ولا لأنه ردد كثيرًا من كلماته فى أشعاره التى كتبها بالأوردية والفارسية أو فى كتاباته التى سردها بالإنجليزية، ولكن لأنه تمثّل الرومى بصدق، ورغم قداسة المثنوى المعنوي، إلا أنه وضعه تحت قدميه واستطاع الطيران عملاً بوصية حضرة مولانا... ولأنه عشق مولانا الرومى فجعله جبريل الصديق الذى صاحبه فى معراجه الأخير إلى السماء، وتعلّم الدرس بصدق من مولانا، فاخترق هو سماءه الخاصة ليكون نبيًا جديدًا وتُفتح الباكستان من بعده، لتشهد عالمًا لم تكن شهدت نوره من قبل، ويصير ذكر إقبال فيها على مرّ الأجيال.
- عالم مولانا جلال الدين الرومى لا يصنع الأشباح أو يرضى بالذل والخنوع وعقلية التقليد والأتباع، عالم مولانا لا يعرف سوى الإبداع.

(1)
وصفوه ولم يره أحد!
إن معناه يجمح منّا كالغزال. [من أشعار محمد إقبال عن مولانا جلال الدين].
كنتُ كتبتُ أن حضرته فكرة غامضة يصعبُ فهمها على كثيرين، ولكن من أراد أن يفهمه وأخلص لذلك؛ فهو فكرة سهلة إن أراد الحياة سيحياها!
إن الخليع يظنّ مولانا جلال الدين الرومى وليًّا من الأولياء، كذلك يراه الولى خليعًا! أمّا هو، فينظر إلى كليهما ويبتسم!
إن الصراطى المؤمن بالصورة المرسومة قبلا والزاهد الضيق الأفق، كلاهما يُكفّر مولانا ويُسرف فى تكفيره وتخطئته حتى وإن دلّ المؤمنين على ربهم. أما الكافر، فيراه مسلمًا قوى الإيمان!
إن الذى حصده مولانا ليس من رفوف الكتب والمخطوطات المطويّات، بل نتاج بستان قد أحرقه العشق وأخرج لنا الثمار زكية الرائحة التى لا تبلى مهما طال عليها الأمد!
أستحضر بعض الصور التى تتداعى إلى الذهن من خلال تذكار مولانا وتاريخ حياته.

وُلد مولانا فى (بلخ) من أعمال أفغانستان الحالية، حين تبحث مثلاً عن تاريخ (بلخ) لتتعرف على المدينة التى شهدت ثقافة عالمية من قبل، وتكتب فى محرك البحث (فضائل بلخ= عنوان كتاب لأحد المؤلفين المسلمين) لا تجد نتيجة عربية واحدة عن هذا الكتاب تهديك إليه - عفوًا ستجد أحد المسلمين (وراثة) يُعلّق أن الكتاب قد نُشر عند (الروافض) ! لعلهم رفضوا الجهل الذى قبع فيه المُعلّق ورضى بها فنشروا الكتاب بدلاً منه، رُغم أنه باللسان العربى ومن نشر الكتاب فارسى اللسان..
أستحضر هذه الصورة لأنها المنتشرة، والتى تجسد نظرة (المسلم المعاصر) إلى كل إنتاج يجهله.
أستحضر هذه الصورة، لأنها هى التى حوّلت (أفغانستان) بلد الفخر الرازى (مفسّر القرآن) وإبراهيم بن أدهم ونجم الدّين كبرى إلى بلدٍ شوّهت صورة الإنسان قبل (الأديان)؛ أستحضر هذه الصورة، لأن بلدًا كبلخ كانت البوذية فيه تحيا إلى جوار الإسلام ويستفيد أتباع كل دين من الآخر دون قصف أو هدم إلاّ لكل خُلقٍ ردى من أجل التحلى بكل خُلقٍ سَنى يُحقق سعادة الإنسان.

(2)
وُلد حضرة مولانا جلال الدين من رحم بلد وحضارة قديمة وناشئة، ورث علم القدماء ومعرفة الصالحين، ذرية بعضها من بعض؛ فالذى لُقب والده بشمس العلماء فى عصره صار ربيعًا للعالم أجمع، والذى تلقّى المعارف عبر طريق نظامى من بلخ إلى خراسان إلى حلب إلى قرمان إلى قونيه بعد أن سار على الصراط حمله فوق كتفه وألقى به واستبدل الراحة والضمان بقلب مفتوح متقد كالتّنور يغلى من نار العشق وما خمد حتى بعد الانتقال... يجدد اشتعاله كل فرد آمن برسالة الإنسان وأعلى من شأنه.
وُلد حضرة مولانا ولادتٌ عدّة ونحن الموتى، نتحدث عن رقّة دينه وخلل عقيدته.

(3)
وُلد مولانا ولادة المسيح بعد موتته الأولى؛ فعلى الصراط قرأ مولانا من حديث الإنسان الكامل (موتوا قبل أن تموتوا) ومات مولانا طينًا بفضل من لولاه ما خلق ربّه الأفلاك، وكما همس الرب فى أذن أم موسى وأوحى إليها أن ألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزني، أعلن مولانا الحرب على الحزن والخوف وأفتى بقطع رأس الهمّ وجمع ما تبقى من صورته، ليضعها بين يدى شمس تبريزى طينًا صلصالاً يتشكل من جديد.. والذى كان بالأمس عمدة للإفتاء والتدريس تحوّلت وجهته إلى الحانة يشرب من يد الله عشقًا أبديًا لو نفد خمر العالمين لن ينفد خمر مولانا.

(4)
تخبرنا الروايات أن اللقاء الذى جعل آثار مولانا (المثنوى والديوان وغيرهما) هى الأكثر انتشارًا بعد القرآن معبّرة عن عارف مسلم متفرّد... أن مولانا لقى شبيهه وخارط روحه وصانعه (شمس تبريزي) فجأة مرة أمام منزله، وهو يقرأ فيما ورثه من مخطوطات ثمينة عن والده (سلطان العلماء) وتلميذ والده (محقق ترمذي)، فأمسك بالمخطوطات وألقاها فى الماء، ولما استشعر حزنًا من مولانا... وضع يده فى الماء وأعطاه إياه مجددًا دون أن يمسها سوء! وكان هذا سببًا لاندهاش مولانا وإعجابه به!
وتلك الروايات العجائبية ربما يفرح بها المساكين والسذّج لكن من تربّى والده على أن الخارق هو الطبيعة بحد ذاتها بكلها وما فيها من آيات ظاهرة لا نظن أن هذا أدهشه؛ لذلك نستبعد أن تكون هذه الرواية بداية اللقاء كما استبعد ذلك غير واحد وعلى رأسهم السيدة العلاّمة (آنا مارى شيمل).

هناك رواية أخرى تفتح الباب على ما لا ينتهى لمولانا، وهى أن الدرويش الجوال (شمس تبريزي) لقى الشيخ الجليل حضرة مولانا، وهو خارج مع تلاميذه بعد أحد الدروس التى ألقاها عليهم فى علوم الشريعة، فسأله الدرويش الملامتى شمس عن أيهما أفضل (بايزيد البسطامي- العارف الصوفى المسلم) أم (مُحمّد صاحب الشريعة ورسول الإسلام)، فكان الجواب أن محمدًا هو الأفضل والأكمل... فتبعه استنكار من شمس: فكيف يقول البسطامى (سبحاني)، ويجعل نفسه خاليًا من الحدوث ومحمد صلى الله عليه يخبر عنه ربّه بـ(سبحان ) و(عبده)؟ فكان جواب مولانا أن محمدًا شرب وما سكر. أما البسطامي، فبجرعة واحدة سكر وما أفاق...
وبدأت الصحبة
والحقُّ أن شمس كان يعلم الجواب، لكنه يستخبر عن علامة (كما فعل سلمان مع النبي، وكما فعل عبد الله بن سلام لمن يؤمن بالسنّة ويبحث عن دليل ويودّ الاتباع) ليُصاحب الدليل!
قال شمس ذات مرّة متحدثًا عن مولانا:
كان فى شيءٌ لم يبصره شيخي
وعلى الحقيقة لم يراه أحدٌ قط
لكن سيدى مولانا جلال الدين قد رآه!
كذلك كان من حديث شمس مع ربه مما سُجّل فى مقالاته الأولى:
أليس ثمّة مخلوق واحد من مصطفيك الأخيار يتحمّل صحبتي؟!
فوجد نفسه فى آخر شطر من حياته يسير نحو (الروم)، وكان أن وجد مرآة تنعكس فيها صورته وجد الشيخ والصديق والعاشق والمعشوق... وبرحيله أُعلن ميلاد مولانا الجديد.

(5)
من الحكايات الطريفة عن مولانا جلال الدين الرومى وغيره من أعلام المتصوّفة
أن السيد نجم الدّين داية مفسّر القرآن وصاحب التأويلات النجمية ومرصاد العباد - الذى تمّ تشويه كتاباته فى اللغة العربية! والسطو عليها من قبل الدارسين المبدعين! ونادرًا ما لقيت اهتمامًا ودراسة - باستثناء ما قدّمه الشيخ الأزهرى سيد عبد التواب فى دراسته عن التفسير الصوفى - زار نجم الدين قونية ومولانا الرومى يملؤها بحضوره الإلهي... فأُسند للنجم الرازى الإشراف على أمور زاوية قيصرية... وطُلب منه أن يؤم المصلين وكان خلفه فى الصلاة مولانا جلال الدين الرومى وصدر الدين القونوى فتلا النجم سورة الكافرون (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) وكررها كما هى فى السورة، وعقب الصلاة التفت مولانا الرومى إلى القونوى هامسًا فى أذنه: فى المرة الأولى حين تلا النجم (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) قصدني! وفى المرة الثانية قصدك!

(6)
كان كثيرون من مريدى مولانا جلال الدين الرومى أصحاب حرف وصناعات (نجّار- خيّاط - إسكافى - بقّال - زجّاج - بنّاء)، لأنه لم يكن يحبّ الكسالى والمتواكلين! من أمثال ما بُلينا بهم هذه الأيام، يخلعون ثوب المهن ويرتدون الجلباب الأبيض فحسب، باعتبار الدعوة إلى الأديان أمست صناعة رابحة! وقد أحسن الأستاذ مصطفى النيفر الحديث عن جانب (معايش الصوفية) وحرفهم بشكل عام.
ومما أذكره من كلام سيدى على الخوّاص مما يتسق مع الوعى الصوفى الجميل، أنه كان حين يفتح دكّانه لم يكن يتبرّك بإذاعة القرآن كما يفعل أصحاب المقاهى الآن، بل كان وهو يفتح الدكّان يقول: نويت نفع عباد الله! وقد حمل هذا السيد حملة كبيرة على المجاذيب من الصوفية والبطّالين تابعه فيها الشعرانى من أجل أن يمحو عن التصوف ما علق به من غبار المنتسبين زورًا إليه.
وأختم بما يُستفاد من نصوص البسطامى بايزيد رضى الله عنه:
ينبغى أن نلتمس من الحياة المنافع التى تكون فيها منافع العباد جميعهم!




بوابة الحضارات | فى ذكرى ميلاد مولانا جلال الدين الرومي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى