أسامة العارف - عن محمد علي موسى أستاذاًَ وإنساناً وصديقاً

في سطور ثلاثة، وفي صفحة الوفيات في إحدى الصحف اللبنانية، علمت أن أستاذي محمد علي موسى قد غادر دنيانا.
درست على يديه سنتين فقط، إلا أنهما كانتا كافيتين ليترك لديّ آثاراً لا تمحى.
السنة الأولى كانت في ثانوية الطريق الجديدة، وكنت في أوائل المرحلة الابتدائية من دراستي، وكان هو خريج دار المعلمين على ما أعتقد، وأنها كانت سنته الأولى في التعليم.
لم يكن في تدريبه لنا نحن الأطفال كلاسيكياً في أسلوبه، بالرغم من عدم وجود تجارب سابقة له في حقل التعليم. لكن حنوّه علينا كأب وتقسيمه ساعة الدرس إلى قسمين: القسم الأول مراجعة الكتب الملزمة للطلاب، والقسم الثاني للتباحث والتطارح في مختلف القضايا والمسائل التي تعلق في رؤوسنا الصغيرة، جعلت دروسه بالنســبة لنا متعة لا تفوّت.
كانت الغالبية الساحقة من الطلاب آنئذٍ من أهالي بيروت، في حين أنه قادم من عانوت في إقليم الخروب. لم نشعر بأنه مختلف عنا مع أنه مختلف، فهو آت من مجتمع ريفي ما يزال متأثراً بعادات وتقاليد ذات منحى إيجابي مثل الكرم والمروءة والعطاء والصـــدق، في حين أننا كنا أبناء بيروت متأثـــرين بالـــروح المادية التي طغت على حياة أهلــينا ولم تكن تقاليد المجتمع الريفي تعـني لنا كثيراً.
كان هذا في بداية السنة المدرسية، أما في آخرها فإن الوضع في ما بيننا أضحى مختلفاً إذ استــطاع بطريقة غير مباشرة أن يطبع تلك العــادات الريفية الإيجابية في قلب حياتــنا بأسلوب خاص به لم أستطع تحديده حتى الآن، وجعلنا نحسّ بأننا مختلفون عمّن حولنا بالرغم من رؤوسنا الصغيرة.
السنة الثانية التي درست فيها عليه كانت بعد تخرّجه من معهد المعلمين في الجامعة اللبنانية، وقدّر لي أن أدرس عليه مجدّداً لكن من مواقع مختلفة عن الماضي. فهو لم يعد أستاذ تعليم ابتدائي وأنا لم أعد طفلاً صغيراً من دون تجارب.
تذكّرته طبعاً وهو تذكّرني بدوره برغم أنني لم ألتقِ به يوماً منذ انتهت السنة المدرسية الأولى معه.
ظلّ الرجل على الهيئة نفسها التي عرفته فيها سابقاً، وبقيت على وجهه إمارات الجديــة التي عرفتــها سابقاً عنه.
ولقد انتظرت منه أن يعود ويقسّم ساعة الدرس إلى قسمين، لكنني فوجئت بعدوله عن ذلك وعبّر عن موقفه بأن أمامنا رحلة الحصول على شهادة رسمية وأن الوقت لا يتّسع لذلك.
من الساعة الأولى أدرك أن عليه دوراً كبيراً يجب أن يلعبه معنا، إذ فوجئ بأن الأسلوب الذي انطبعنا به كان أسلوباً يستند إلى الأطناب والمبالغات متأثرين بالمدرسة الرومنطيقية، إذ كان آخر أساتذة اللغة العربية الذي أثّر بنا يهتمّ بالشكل، وكانت جمله براقية تتّسم بطابع رومنطيقي يهتم بالشكل دون أن يصل إلى المضمون الذي يعبّر عنه هذا الشكل «الجبراني» إذا صحّ التعبير، إذ كان أغلبنا متأثرين بأسلوب جبران خليل جبران. وقد تم ذلك من دون أن ينتقد أسلوب أستاذنا الأسبق.
أستاذنا الراحل أنزلنا من عالم الاطناب والمبالغات والأشكال التي تهدف إلى الأشكال فقط إلى أرض الواقع والأسلوب الذي يعبّر عن واقع، والذي يبحث عن شيء له معان يمكن أن تكون ذات تأثير فيه.
وقد توصّل إلى تغييرنا وتغيير أسلوبنا عن طريق المحاورات الثنائية بين فريقين في الصف يحمل كل فريق قضية يريد أن يدافع عنها في وجه الفريق الثاني حامل النظرة الأخرى إلى هذه القضية. كان طرح الموضوعات للحوار المدخل الذي جعلنا بشكل آلي وتلقائي أمام واقعية المسألة المعروضة: أن يتناسب أسلوبنا مع مندرجات هذه القضية التي كنا ندافع عنها أو نعارضها. ولم ننتبه إلى تغيير أسلوبنا كلياً إلا في آخر السنة الدراسية، وأدركنا أن أستاذنا الراحل نصب لنا فخاً وجعلنا نتحوّل إلى ما أرادنا أن نكونه دون أن ننتبه إلى هذا التغيير.
بعد ذلك صرت التقي بأستاذي بشكل متقطّع في منزله الكائن في محلة المزرعة الذي بقي يشغله بالإيجار طيلة بقية حياته، وكنت أستشيره في بعض القضايا التي لا علاقة لها باللغة، وتعرّفت على زوجته المرحومة عايدة عواد فأحسست بأنه بين أيدٍ أمينة.
إلا أن الله لم يقض لهما متابعة الحياة سوياً إذ أصيبت زوجته بمرض عضال ووقف إلى جانبها كما يجب أن يقف الزوج المحبّ.
أذكر أنني شاهدته في إحدى المسرحيات التي عرضت في مسرح المدينة، فسألته لمَ لم يحضر زوجته معه فأشار بأنها جالسة بقربه لكن مظاهر المرض جعلتني لا أعرفها، وقد خجلت خجلاً كبيراً من هذا الموقف المؤسف.
في أحد الأيام اتصل بي وسألني عن مسألة قانونية تتعلق بمسألة «ضم» خدماته منذ أن كان مدرّساً في المرحلة الابتدائية، وكنت يومها ما أزال طالباً في كلية الحقوق، فلم أستطع إجابته على تساؤله إلا أنني رتّبت له لقاء مع قريبي الرئيـــس فـــاروق سلهب الذي كان قاضياً آنئذٍ في مجلس شورى الدولة والذي أوضــح له إمكان ضمّ سني خدماته في المرحــلة الابتدائية إلى المرحلة الثانية من الوظيفة.
والغريب أن الرجلــين ماتــا في اليوم نفسه، لكنني لم أتمــكّن من المشاركة في التعزية بأي منهــما لظــروف صحيّة، الأمر الذي جعلــني أخجــل من هذا التقصير بالرغم مــن معــذرتي الصحـية.
ما أذكره أثناء دراستنا على يديه أنه ألّف كتاباً عن أمين الريحاني في حياته وأدبه، فأدخلنا عالم هذا الأديب الرحالة والسياسي الغامض الذي ما يزال هناك تساؤلات عن طبيعة علاقاته بملوك النفط وأمرائه، إلا أن هناك موضوعاً اهتمّ به اهتماماً كبيراً وكان راغباً في الكتابة عنه إلا أنه لم يقدر له أن يحقّق تلك الرغبة وهي مرحلة تولي أسرة آل عمار الشيعية مقاليد السلطة في شمال لبنان، إذ أنه كان يعتبر أن هذه المرحلة كانت غنية بنتاجها الأدبي والفكري ولم توف حقّها من الدراسة.
قبل شهر واحد من وفاته التقى أستاذنا بشقيقي الدكتور هيثم العارف وتناولا في ما تناولاه المقالات المتفرّقة التي كنت أنشرها في بعض الصحف اللبنانية، فأبلغ أستاذي الراحل شقيقي بأنه كان مطلعاً منذ أن درّسني على جزالة أسلوب وقوّة التعبير عندي في نفس الوقت الذي كان مطلعاً على ضعفي في قواعـــد اللغة العربية وأخــطائي اللغــوية غير المتسامح فيها.
وفي هذا كان أستاذي مصيباً في كل ما قاله.
إثر خروجه إلى سنّ التقاعد بعد أن عمل في إدارة وزارة التربية الوطنية اصطفاه الرئيس سليم الحص مستشاراً له لأنه عرفه حين كان وزيراً للتربـــية بدوره، فكان نعم المستشار الذي لم يرتبـــط اسمه بأية شائبة فكان فعلاً صورة عن الرئيس سليم الحص في أخلاقه ومناقبيــته وبحثه عن الصحيح في عمله ونكــرانه لذاتــه.
رحم الله الفقيد الكبير الذي عنى لي ولكثير من تلاميذه ومريديه أجمل ما في الحياة من معان.



assafir.com

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى