مولود عويمر - ذكريات عن أستاذي العطوف أبو القاسم سعد الله

أعترف منذ البداية أنني لست من الطلبة الذين عاشوا كثيرا مع الدكتور سعد الله فلم أدرس عليه إلا عاما واحدا في السنة الرابعة ليسانس. بينما درس عليه الكثير من أساتذتي وزملائي وأصدقائي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ودرّسوا معه في معهد التاريخ. فلا شك أن شهاداتهم عن شيخ المؤرخين الجزائريين ستكون أغنى وأوسع من شهادتي. غير أنني أطمع أن أكون مثل أبي هريرة (ض) الذي لم يعش طويلا مع الرسول (ص) مقارنة بالصحابة الآخرين إلا أنه كان أكثرهم رواية للحديث النبوي الشريف.
دروس الأستاذ سعد الله

لقد درست على الدكتور أبي القاسم سعد الله وحدة تاريخ الجزائر المعاصر خلال العام الدراسي 1990 1991. وكانت محاضراته دررا نفيسة في التاريخ والتوجيه التربوي وتحظى باهتمام بالغ من الطلبة الذين يملؤون المدرج. وكنت حريصا كالعديد من زملائي على التقرب منه للاستزادة من علمه وإرشاداته النافعة بعد نهاية المحاضرة. فكان دائما يتعامل معنا كالأب العطوف ولا يتردد في الإجابة عن تساؤلاتنا العلمية.

وشجعتنا بساطته في التعامل مع الآخر على أن نستشيره -نحن ثلة من الطلبة- حول رغبتنا في تأسيس نادي المؤرخ في معهدنا لتنظيم الندوات وإصدار مجلة تاريخية. فقدمنا له -أنا و صديقي محمد دراوي- ورقة العمل التي أعددناها للنظر فيها. أعجبه المشروع ولم يضف إليه إلا ملاحظة واحدة، وهي ضرورة إشراك الحد الأقصى من الطلبة في هذا العمل الفكري لتحقيق نجاحه. غير أن الظروف السياسية والاجتماعية السائدة آنذاك في الجزائر بشكل عام وفي داخل الجامعة بشكل خاص كانت عوائق مانعة لتجسيد هذا الإنجاز الثقافي الطموح.

وكان من تقاليد الأستاذ سعد الله أنه يستضيف في كل عام خلال الحصة الأخيرة شخصية تاريخية لتتحدث عن تجربتها النضالية من جهة، وبناء جسر التواصل بين جيل الثورة وجيل الاستقلال. وكان من حسن حظنا استضافة السيد بشير بومعزة الذي صال وجال بأسلوب طريف وجذاب في تاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية. وختم مداخلته بالدعوة إلى ضرورة تشبيب مؤسسات الدولة والاستفادة من الكفاءات الشابة القادرة على أن تبث فيها روح الفعالية والجدية والإتقان. وبعد مرور عشر سنوات على هذا الكلام، عين السيد بومعزة على رأس مجلس الأمة! إن لله في خلقه شؤونا!

مازلت أتذكر يوم الامتحان النهائي (بداية شهر جوان 1991)، فقد طرح علينا الأستاذ سعد الله سؤالا عميقا وهو: “هب أنك الشيخ عبد الحميد بن باديس؟” وشرعت في الإجابة في ورقة المسودة، وبعد فترة قصيرة وقف أمامي وقال لي: لا تكتب بالقلم الأحمر فإنه مضر للعين! كان هذا آخر درس سمعته من أستاذي سعد الله وأنا طالب بجامعة الجزائر التي غادرتهُا في تلك الأيام بعد حصولي على شهادة الليسانس.

ولم أره بعد ذلك اليوم إلا بعد مرور فترة زمنية طويلة، ذلك لأنني سافرت إلى فرنسا لمواصلة دراساتي العليا بينما هو سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم إلى الأردن للتدريس في جامعاتها وانجاز أبحاثه العلمية.

كان الدكتور سعد الله معروفا بالصرامة والجدية. كما كان مثالا راقيا في التواضع والعطف على الطلبة المتميزين والرعاية للمجتهدين. لقد أسر إليّ مرة وأنا في منزله أنه تأسف كثيرا لما علم أن الطالب النجيب الذي كان يرعاه رعاية خاصة خلال العام الدراسي اختار أستاذا آخر ليشرف على مذكرته لنيل شهادة الماجستير! فكان يخشى عليه أن لا يجد التوجيه المناسب لتفجير طاقاته والاستفادة من قدراته فتنكسر تلك الهمة وتتعطل تلك الطاقة.

في الفترة الأخيرة، عبر لي مرارا عن شعوره بشيء من الحسرة والضيق عندما لاحظ تراجع القيم الأخلاقية وانحطاط النظرة إلى العالم الجاد والباحث المجتهد بعد أن كان محلا للتقدير والاحترام. لقد أساء بعض الطلبة فهم تواضعه فتصرفوا معه تصرفا غير لائق وهم لا يشعرون. هذا ما فعله طالب مر علينا ونحن واقفين نتحدث في رواق قسم التاريخ، فسلم علينا بالحضن. فاستنكر الدكتور سعد الله هذا السلوك واعتبره من قلة الأدب، ثم شرح للطالب بصوته الهادئ آداب التعامل بين الطالب والأستاذ.

كما أسرّ لي يوما عن صدمته لما ناشده أحد الأساتذة الإسراع في كتابة التقرير حول ملفه الخاص بالتأهيل الجامعي حتى يلتحق بركب الأساتذة المحاضرين. وتأسف الدكتور سعد الله عن وجود مثل هذه الممارسات التي لا تحترم التقاليد والأعراف العلمية المعروفة.

إهداء الكتب

ومن المهم أن أشير هنا إلى أني مدمن منذ منتصف الثمانينات على مطالعة كتب الدكتور سعد الله، وقرأت جل كتبه ودراساته وبحوثه، واستفدت منها كثيرا في محاضراتي وأبحاثي. وأتذكر أنني سألته مرة عن مسألة وردت في مقاله الصادر في مجلة المنهل السعودية عن الأستاذ أحمد رضا حوحو. فاستغرب ثم قال لي إنه لم ينشر مقالا في هذا الموضوع. ولما أقنعته برأي ناشدني أن أسلم له نسخة منه. فكانت فرحته كبيرة لما قدمتها له، وقد أضاف هذا النص فيما بعد إلى كتابه “مجادلة الآخر”.

ومن مكارم أخلاق الدكتور سعد الله حرصه على إهداء كتبه إلى من يتوسم فيه الجدية وحب المعرفة. فمرة حمل إليّ ساعي البريد ظرفا ثقيلا في أحد أيام نوفمبر 2003 وأنا جالس في بيتي بباريس، ولما فتحته وجدت فيه كتابا مجلدا عنوانه: ” بحوث في التاريخ العربي الإسلامي” أرسله إليّ مؤلفه الدكتور أبو القاسم سعد الله من الجزائر مع التوقيع عليه. فسعدت كثيرا بهذه الهدية وشرعت مباشرة في مطالعته بنهم كبير.

وردا للجميل، أرسلت إليه بدوري مجموعة من المجلات التاريخية والفكرية مرفقة برسالة تتضمن علامات الشكر، وأيضا معلومات عن بعض النشاطات الثقافية التي رصدتها في باريس حول القضايا العربية وتطور البحث التاريخي. وبقينا نتواصل عن طريق البريد الالكتروني خلال عدة سنوات.

ولا يمكن أن أنسى أيضا مكالمته لي مرة على الساعة الحادية عشر ليلا، فقال: أنا أعرف أنك لا تنام مبكرا ولهذا اتصلت بك في هذا الوقت المتأخر لأخبرك أنني تركت لك نسخة من كتابي ” على خطى المسلمين” في مكتبي بالمركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية بالأبيار. وفي صباح الغد أسرعت إلى المركز لأخذ الكتاب. وأعجبني مضمونه، وسعدت بتوقيع الأستاذ المؤلف: ” إلى الأستاذ الدكتور مولود عويمر، باحثا ومجددا. مع التمنيات والتقدير” (18 مارس 2010). كانت هذه الكلمات من أعظم الشهادات التقديرية التي نلتها في حياتي ومساري العلمي.

كذلك حرصت على أن يكتب تصديرا لكتابي الثاني: ” أعلام وقضايا” ، فكتب النص في فترة وجيزة وسلمه لي. ولما صدر هذا الكتاب أهديت له نسخة ففرح بإخراجه الجميل. وقال لي بعد فترة قصيرة أنه استمتع بقراءة فصل ” التاريخ بين أوراق الصحف”.

كما كان يتابع نشاطاتي الثقافية، ويهنئني على إصداراتي الجديدة. ويكفي إثباتا على ذلك هذه الرسالة التي بعثها لي حينما علم بصدور كتابي الأخير ليبارك لي هذا العمل الفكري، فقال: “سعيد أن أرى آخر إنتاج لك وهو “مقاربات في الاستشراق والاستغراب”. ولعلنا نلتقي قريبا لأهنئك بصدوره وأشد على يديك، وأنت أهل لكل تبريك وفضل.” (11 ماي 2013).

وكان يرسل إلي بعض مقالاته من أجل نشرها في جريدة البصائر، وهي تتعلق بتقريظ ديوان الدموع السوداء للشيخ محمد الطاهر التليلي 22 أكتوبر2012)، وتقريظ لكتاب “الثابت والمحذوف في القرآن الكريم” لنفس المؤلف (14 جانفي 2013). وصدرت فعلا المقالات في وقتها المناسب.

التعاون المثمر مع الدكتور سعد الله

لا تختزل العلاقة بيننا في تلك الأمثلة، بل هناك مساحات شاسعة سمحت بالتعاون المثمر بيننا والذي تجلى في صور متعددة. لقد التقيت مع الدكتور سعد الله بعد غياب طويل تجاوز عشرة أعوام، وكان ذلك في 19 أكتوبر 2003 في فندق الأوراسي بالجزائر بمناسبة انعقاد مؤتمر دولي حول المفكر الجزائري مالك بن نبي. وقد سعدتُ برئاسته للجلسة العلمية التي بُرمجت فيها محاضرتي حول: “فكرة الغرب عند مالك بن نبي وعلي شريعتي”. وحرصتُ في بداية مداخلتي على أن أعبّر علانية عن علامات الشكر والعرفان والتقدير للدكتور سعد الله. وبعد نهاية محاضرتي التي وصفها بأنها عميقة، تبادلنا العناوين وتواعدنا على التواصل في المستقبل.

وشاءت الأقدار أن التحق بجامعة الجزائر للتدريس بقسم التاريخ عاما بعد هذا اللقاء، فرحب بي الدكتور سعد الله، واعتبر وجودي دعما كبيرا لهذا القسم. وشرفني بمناقشة طلبته كما شرفني بمناقشة طلبتي. وكم كنت أشعر بالحرج عندما ألتمس منه المشاركة في لجنة مناقشة طلبتي لعلمي بكثرة انشغالاته وتراجع صحته، بل كان يرحب بدعوتي ويعد القيام بذلك العمل واجبا علميا وتربويا.

ودعوته مرة لإلقاء محاضرة في الجامعة حول تجربته مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كطالب ومدرس وصحافي في جريدة البصائر وباحث في تراث هذه الجمعية الإصلاحية؛ فاعتذر وشرح لي قراره القاضي بالعزوف عن النشاطات الثقافية للتفرغ للبحث العلمي.

وفاجأني الأستاذ سعد الله عندما بادرني بهذا السؤال: هل مازلت متمسكا بمشروع المحاضرة؟ فقلت نعم. فقال فلتكن إذن بعد أسبوع. وفعلا قدم محاضرته يوم 3 ماي 2010 في المدرج الكبير بجامعة بوزريعة وحضرها رئيسها آنذاك الدكتور عبد القادر هني الذي قدم ورقة حول أدب الدكتور سعد الله. وكانت هذه المحاضرة هي آخر نشاط لأستاذي في جامعة الجزائر.

وكلما التقينا بادرني بتعليقه على مقالي الأسبوعي في جريدة البصائر. وأتذكر أنه لما قرأ مقالي ” عائد من المغرب” استحضر ما كتبه في نهاية السبعينات في جريدة الشعب عن رحلته إلى المغرب، فقال لي إني أشكرك لأنك دفعتني إلى العودة إلى قراءة رحلتي المغربية.

وشاءت الأقدار أن أنزل صدفة في الفندق الذي نزل فيه. طبعا، لم أزر كل الأماكن التي زارها لأنني قليلا ما أهتم بالمخطوطات. وقد أصاب حين قال لي مرة: الفرق بيننا هو أنني حينما أهرب من التاريخ أتجه إلى الأدب بينما تتجه أنت إلى الفلسفة. ولهذا السبب يهتم التلميذ كثيرا بالإصدارات الجديدة بينما يعشق الأستاذ الكتب القديمة.

وكنت أراسله لاستفسر عن بعض المعلومات التي أجهلها فكان يرد علي بسرعة. وأذكر على سبيل المثال أنني سألته مرة عن تراث الشيخ عبد القادر المجاوي، فأجابني بهذه الرسالة: “أشكركم على حسن الظن بي وسؤالي عن مؤلفات الشيخ المجاوي. الواقع أنني لا أملك منها إلا واحدا أو اثنين، وأظنه في علم الفلك. وهو ضائع في أوراقي لأنه من الحجم الصغير. ومعظم مؤلفاته كذلك. فإذا كنت تؤمن بالحظ وكان لك الصبر الجميل فلعله يعثر علي ولا أقول أعثر عليه. مع شكري على السؤال والتحية.”(08/11/11).
مكالمات ومراسلات

كانت لي مراسلات ومكالمات عديدة مع الدكتور أبي القاسم سعد الله، وهي لا تخلو من الطرافة والدعابة كما ستوضح ذلك لاحقا بعض الرسائل. ولم تنقطع المراسلة بيننا إلا في الأيام الأخيرة التي أصيب فيها بالمرض. وقد بعث إلي آخر رسالته يعتذر فيها عن تأخره في الإجابة عن مراسلتي بسبب مرضه.

لقد كنت أحرص دائما على معايدته مباشرة بعد أداء صلاة العيد. وإذا غفلت وتأخرت بادر بمهاتفتي ليقدم لي التهنئة ويوصيني بإبلاغ التحية للعائلة. وتعبر الرسالة الآتية عن هذا التوجه العاطفي: “كيف حالك ونحن في فاتح مناسك الحج وعيد الأضحى المبارك؟ هل اشتريت كبشك وحددت سكينك؟ إنني أبارك لك العيد المبارك وأتمنى أن تقضيه وسط جو عائلي حميم. كل عام وأنتم بخير، والسلام.” (15/11/10)

كذلك لا يغفل عن أية مناسبة ليشجعني على الكتابة والبحث العلمي. وهكذا سعد كثيرا لما سمع بترقية تلميذه إلى رتبة أستاذ التعليم العالي في نهاية شهر ديسمبر 2010، أو كما قال هو نفسه: “سررت بترقيتك إلى رتبة أستاذ التعليم العالي، فألف مبروك، وأنت أهل لكل ترقية علمية.” (3 جانفي 2011).

وأرسل إليّ في بداية العام الجديد رسالة التهاني مبينا فيها أيضا موقفه من الاحتفال بالسنة الميلادية، فقال: “أهنئك بالعام الجديد وإن كنت من المتمسكين بالعام الهجري فقط، إلى أن يحتفل معنا به أهل السنة الميلادية . وليس هذا عن تعصب ولكن من باب المعاملة بالمثل.” (3 جانفي 2011).

هاتفت الدكتور سعد الله في الشهر الماضي لأسأل عن أخباره وأطمئن على صحته، وشاء الله أن أقول في سياق كلامي أن فلان هو خال فلان كما أن الشيخ الحفناوي هالي هو خال الدكتور سعد الله، فتأثر بهذه المقارنة العفوية، وشكرني على هذا الربط العائلي. فكان آخر ما سمعته من كلامه العذب والنفيس هو الحديث عن هذا العالم المصلح والمفكر المغمور.

اتصلت بالدكتور سعد الله يوم الأربعاء 11 ديسمبر لأخبره بزيارتي له إلا أن الهاتف لا يرد. وبعد ثلاثة أيام، سقط عليّ خبر وفاته كالصاعقة؛ فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه. وأسأله أيضا أن يعفو عن تقصيري في حق أستاذي العطوف.

مولود عويمر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى