محمد مصطفى - في التصوير الإسلامي.. ليلى والمجنون

- 2 -

جاء قيس محققاً ما تمناه والداه، لا يعرف قلبه سوى أخلص الحب. . . يعشق الجميل ويحب الجمال. . . فكان وهو في مهده يتطلع إلى الفتيات الجميلات المليحات، ويرنو إليهن في شغف ونهم، كأن في منظرهن ما يجلب السرور إلى قلبه، أو ما هو غذاء لنفسه الصغيرة، يصيح في طلبهن إذا ابتعدن عنه، ويبكي في توجع وتوسل ليقترب منهن إذا لم يستطع رؤيتهن. ثم صار يجالسهن ويحادثهن ويستنشدهن الشعر، حتى حفظ منه الكثير، فاكتسب حديثه طلاوة ولباقة، وأسلوبه أناقة وطرافة، وأخذ على صغر سنه يقرض شعر الغزل وينشده، ويغازل به الفتيات ويشبّب بهن، وكأنه جاء من عالم آخر لا يعرفه بنو عامر، ولا عهد لهم به، فالحب والغزل في رأيهم (إنما يكون في اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رءوسها).

ولما كبر الصبي وفات سن الطفولة، أرسله أبوه إلى المدرسة مع أقرانه الصغار من الفتيات والفتيان. وبين الفتيات كانت فتاة تسمى (ليلى)، كان أبوها شيخاً لبطن أخرى من بطون بني عامر، ووقعت ليلى موقعاً حسناً من قلب قيس فمال إليها وأحبها وقال في وصفها:

بيضاءُ خالصةُ البياض كأنها ... قمرٌ توسطُ جُنحَ ليلٍ مُبرَدِ

موسومةٌ بالحسن ذاتُ حواسدٍ ... إنَّ الجمالَ مَظِنةٌ للحسَّدِ

وتُرى مدامعُها ترقرُقَ مُقْلَة ... سوداء ترغبُ عن سواد الإثمِدِ

خوْدٌ إذا كثُرَ الكلام تعوذت ... بحِمى الحياء وإن تَكلَّم تقصد

ووقع لقيس في قلب ليلى مثل ما وقع لها في قلبه، فكانا يجتمعان كل يوم في المدرسة ليدرس كل منهما ما يتجلى في نظرات صاحبه وقسماته من الحب والهيام. وحاولا أن يخفيا حبهما عن أصحابهما. . . ولكن عبثاً. . . فإن الحب يشبه الطيب أو المسك إذا وجد بيت لا يمكن إخفاء رائحته. ففي ذات يوم أرادت ليلى أن تعلم ما لها في قلب قيس، فأعرضت عنه، وأقبلت بحديثها على غيره، فلما رأى ذلك جزع جزعاً شديداً حتى خافت عليه فقالت له:

كلانا مظهر للناس بغضاً ... وكل عند صاحبه مكين

تبلغنا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثمّ هوى دفين

فلما سمع قولها سرى عنه وعلم ما له في قلبها، وانصرف عنها وهو من أشدّ الناس سروراً وأقّرهم عيناً، وقال:

أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ولا أهلُ

ولا أحدٌ أفضي إليه وصبتي ... ولا صاحب إلا المطيّة والرحل

محا حبها حب الأُلى كن قبلها ... وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل

ولما سمع جلساؤهما ذلك فطنوا إلى أمرهما، وشاعت قصة غرامهما بين الناس حتى بلغت مسامع والد ليلى، فأبعدها عن المدرسة وحجبها عن قيس، ومنعه من رؤيتها والتحدث إليها، وتوعده بالشر إذا اقترب منها، فقل قيس في ذلك:

ألا حجبت ليلى وآلي أميرُها ... عليَّ يميناً جاهداً لا أزورُها

وأوعدني فيها رجالٌ أبوهم ... أبى وأبوها خُشّنتْ لي صدورها

على غير جُرم غير أني أحبُّها ... وأن فؤادي رهنها وأسيرها

وفي (شكل 1) منظر داخلي للمدرسة يبين قبة يجلس تحتها المعلم بلحيته البيضاء الطويلة، وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي يده عصا لتأديب (أشقياء) التلاميذ، وأمامه تلميذ يتلو عليه ما حفظه من الدروس. ونرى قيساً جالساً إلى اليمين في معزل عن زملائه، يسند رأسه على ذراعه غارقاً في تأملاته كأنه يفكر في حبيبته ليلى التي تجلس إلى اليسار بجانب صديقة لها تواسيها وتعطف عليها. ويقرأ أو يكتب بعض التلاميذ الآخرين في كتبهم ويتجادل آخرون. وإلى اليسار يتقاذف (شقيان) بأدواتهما المدرسية، غير عابئين باحتمال إصابة (زير الماء) الموضوع في الركن الأيسر على كرسي حامل له، وما قد تجلبه هذه الإصابة على جسديهما من آثار عصا المعلم. ولم ينس المصور أن يخفف من حدّة (عصا) المعلم ببيت شعر كتبه على مدخل القبة يناشده فيه ألا يعلم الفتاة الشقراء ذات الوجه الجميل سوى كل شيء حسن هي جديرة به. وهذه الصورة في مخطوط من المنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوى كتبه الخطاط سلطان محمد نور، ومؤرخ سنة 931 هجرية (1525 م)، وقد اختلف مؤرخو الفن الإسلامي في نسبة الصور التوضيحية التي به، ولكنا نرجح ما يقوله الأستاذ كينل في نسبتها إلى المصور شيخ زاده تلميذ المصور الكبير بهزاد الذي هاجر معه إلى مدينة تبريز. وهذا المخطوط محفوظ في متحف المتروبوليتان للفنون الجميلة بنيويورك

- 3 -

بعد أن حجبت ليلى في منزل أبيها، حزن قيس وضاقت الدنيا في عينيه، ولما لم يجد في المدرسة ما يرفّه عن نفسه الحزينة ويسري عنه، هجرها وهام على وجهه يبحث عن حبيبته في منزل والديها. ولما أعياه ذلك عمد إلى الحيلة فتزيا بزي درويش عجوز أعمى قد أناخ عليه الدهر بكلاكله، وسار يتلمس طريقه بعكاز في يده حتى وصل إلى بيت ليلى، فألقى بنفسه على عتبته متصنعاً الإعياء. وخرج أهل الدار لمساعدة هذا الدرويش البائس الذي أنهكه السير الطويل وشقة الطريق، وكانت بينهم ليلى فعرفته وأمسكت يده وشدت عليها لتعلمه أنها ما زالت على عهده بها، ولكي تجدد ما قطعته على نفسها من ميثاق الإخلاص له في الحب. ولاحظ والدها ذلك وتعرّف على قيس، فنهر ابنته وطرد قيساً، فزاد ذلك من شدة حزنه ويأسه. وعاتبه أصحابه ورموه بالجنون لما رأوه في مسلكه من شذوذ، فقال لهم:

وإني لمجنونٌ بليلى مُوكَّلُ ... ولستُ عَزوفاً عن هواها ولا جَلْدَا

إذا ذُكرْت ليلى بكيتُ صبابة ... لتَذكارها حتى يبل البكا الخدَّا

وسماه أصحابه (المجنون) وصار يعرف بين قومه بهذا الاسم.

واشتد به الحزن واليأس فاعترض على قضاء الله بقوله:

خليلي لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى ولا ما قضي ليا

قضاها لغيري وابتلاني بحبّها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا

فسلب عقله، وهجر أهله وذويه، وانفرد في جنبات الحيّ عارياً، لا يلبس ثوباً إلا خرقه، يخطط بإصبعه في التراب، ويجمع العظام حوله، ولا يجيب أحداً سأله عن شيء إلا إذا ذكروا له ليلى، فيرجع إليه عقله ويخاطبونه فيجيبهم جواباً صحيحاً. ولما يئس من لقاء ليلى بارح الحيّ ولجأ إلى البرية وهو يقول:

فمن أجلها ضاقت عليّ برحبها ... بلادي إذا لم أرض ممن أجاوره

ومن أجلها أحببت من لا يحبني ... وباغضت من قد كنت حيناً أعاشره

وكان المجنون وليلى وهما صبيان يذهبان إلى جبل قريب يقال له (التوباد) فذهب إلى هنالك وجلس على ربوة منه فأتته ذكريات الصبا فقال:

هذه الربوة كانت ملعبا ... لشبابينا وكانت مرتعا

كم بنينا من حصاها أرُبعا ... وانثنينا فمحونا الأربعا

وخططنا في نقا الرمل فلم ... تحفظ الريح ولا الرمل وعى

لم تزل ليلى بعيني طفلة ... لم تزد عن أمس إلا إصبعا

(شوقي)

وخرج الملوح بن مزاحم ومعه بعض أولاده وذويه يبحث عن ابنه قيس، فوجده هائماً على وجهه في جبل التوباد، وكان في حالة يرثى لها، عارياً، نحيل الجسم، طويل الأظافر، يخط بإصبعه في الرمل وهو تائه الفكر، وقد طال شعر جسده وتوحش وألفته الظباء والوحوش فكانت تجالسه وتلازمه، فلما اقترب ذووه منه لم يعرفهم ونفر منهم، فناداه أبوه: قيس، أنا أبوك الملوح وهذا أخوك، فطب نفساً وابشر فقد وعدني أبو ليلى أن يزوجكها. فأقبل إليهم وأنس بهم، فقال له أبوه: يا قيس، أما تتقي الله وتراقبه؟ كم تطيع هواك وتعصيني، فقد كنت أرجى ولدي، أفضلك علتهم وأوثرك، فأخلفت ظني ولم تحقق أملي، فليت شعري ما هي أراها ممن يوصف بالجمال والحسن، وقد بلغني أنها فوهاء قصيرة جاحظة العينين شهلة سمجة، فعدّ عن ذكرها ولك في قومك من هو خير لك منها. فلما سمع ثلبه فيها أنشأ يقول:

يقول لي الواشون ليلى قصيرة ... فليت ذراعاً عرض ليلى وطولها

وأن بعينيها لعمرك شهلة ... فقلت كرام الطير شهل عيونها

وجاحظة فوهاء لا بأس أنها ... مني كبدي بل كل نفسي وسولها

فدق صلاب الصخر رأسك سرمدا ... فإني إلى حين الممات خليلها فاضطر أبوه أن يعده بالسعي لدى والد ليلى كي يزوجه إياها، واستطاعوا بذلك أن يأخذوه معهم ويردوه إلى الحيّ وأهل بيته.

ولما رأته أمه بكت لحالته البائسة التعسة، وحاولت جهدها أن تروّح عن نفسه، فألبسته ملابس جميلة، وأصلحت من شكله وهندامه، وجعلت تواسيه وتشمله بعطفها ورعايتها عساها تجلب إلى قلبه العزاء والسلوة.

وفي (شكل 2) ينام المجنون إلى جانب مجرى ماء، ويسهر على حراسته الوحوش من كل جانب، فيربض الأسد والفهد إلى اليمين، والثعلب والظباء والوعول إلى اليسار. وجاء ذووه وضربوا خيامهم بالقرب منه، وقد خرج الرجال وانتشروا في المكان، بينما نرى والده بلحيته البيضاء قادماً نحوه. وقد أجاد المصور تصوير الحياة المنزلية لنساء البدو في بيوتهن، فرسم إحداهن وهي تحلب بقرة، وأخرى تغزل على مغزل أحضرته معها وهي تستعين في عملها بيديها وقدميها، واثنتين جالستين في مدخل إحدى الخيام وقد احتدم بينهما الجدل. وهذه الصورة من تصوير المصور الإيراني قاسم علي أحد تلامذة المصور الشهير بهزاد، وهي في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوي كتب في سنة 900 هجرية (1494 م) باسم أحد أمراء السلطان حسين ميرزا. وهذا المخطوط محفوظ في المتحف البريطاني.

(يتبع)

الدكتور محمد مصطفى
مساعد فني دار الآثار العربية


مجلة الرسالة - العدد 515
بتاريخ: 17 - 05 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى