بوزيد الغلى - الولادة من جديد في مجموعة «هذا» لبزة الباطني

نشرت القاصّة والفنانة التشكيلية الكويتية بزة الباطني مجموعتها القصصية «هذا» عام 2011، وقد خلت المجموعة من صدى ارتدادات الربيع العربي، وكأن الكاتبة تكلّم قرائها رمزا عن الأهم من الحراك؛ وهو ما يموج في دواخل النفوس من مشاعر تتراوح بين تأنيب الضمير والاحباط وخبايا علاقة الابداع والشهرة بالعوالم العاطفية (قصة «هذا»)، ذلك أن الاصلاح ينبغي أن يبدأ من النظر الى النفس؛ الى الداخل.
ليس من السهل الامساك بالخيوط التي نسجت منها القاصّة سدى مجموعتها التي حملت عناوين تتدرج من مركبات وجمل نحوية مثل: «دون نظر»، «لتقول شيئا»، «كأنها من خيالي»، «ما يثير الاهتمام»، «ربما لا تتذكر» «الفرق الوحيد»، كي تصل الى عنوان مشكّل من كلمة واحدة حمّالة أوجه (هذا). وما دامت الكلمة كما قال علي أسعد وطفة هي «الوسيط من أجل التوغل داخل النفس الانسانية من جهة، وهي أداة المحلل النفساني من جهة ثانية»، فلا مناص من استثمار منهج التحليل النفسي في سبر الدلالات الثاوية في قصة «هذا» التي لن يزول غموضها بمجرد قراءة النص من مفتتحه الى سرّته التي تلتقي عندها كثيرة من دلالات اسم الاشارة «هذا»، باعتباره بداية جملة محذوفة عمدا في العنوان1، مبسوطة تفصيلا في سياق مخصوص يتحدث فيه مبدع مشهور مع امرأة مغمورة، سيكتشف أنها شاعرة معجبة بما ينتجه. انها من جهة، قارئ ضمني، لكنها من جهة أخرى موضوع رغبة وفق تحديد مدرسة التحليل النفسي للرغبة التي لا تكشف عن ذاتها بسهولة، بل «تتجه دائماُ الى أشياء أخرى غير موضوعها الأساسي. (.)، ويمكن القول انه ما بيـن الموضـوع الحقيقي وبين الدال توجد مسافة فاصلة أو اختلاف يأخذ مكانه فـي داخل اللاشعور»2.
لا تتكشف طبيعة الرغبة التي تحكمت في العلاقة التي أنشأها الخطاب والأحداث بين الشاعرة والمثقف أو الشاعر الكبير الا بعد ايغالٍ في التشويق مارسته الكاتبة التي استخدمت طاقة رمزية وايحائية هائلة، حين جعلت سبب اللقاء بين شخصيتي قصتها المثيرة «هذا» مرتبطا بحادث صادم (مأساوي كما البطل الاشكالي)، اذ يظهر الأديب الكبير في مسرح الأحداث لحظة استرخاء الشاعرة واستمتاعها برذاذ ماء بركة الماء بكل ما تحمله من دلالة من زاوية التحليل النفسي، حيث سيُجفلها الصوت الذي أحدثه، فتسقط مذعورة في الماء، ليبدأ التوتر السردي بشكل تصاعدي ليصل الى الذروة التي يتلوها التلاشي chute الذي يبدأ من لحظة تعرف الشاعرة على شخصية الأديب الألمعي وخجلها من تصرفها في مواجهة ما سببه لها من متاعب بدأت بالبلل الذي أصاب كل ملابسها.
ندرك بشيء من التأمل والتأويل أن الانقاذ من البركة والخروج منها يرمز الى الولادة من جديد على الطريقة التي توحي بها قصة انتشال موسى من اليمّ من قبل أمه، أو تستخلص من دراسة رانك O.Rank لأسطورة ولادة «سرجون الأول» (ملك أكاد)، اذ استخلص أن الانغماس في الماء والانقاذ منه يرمزان الى الولادة بطريقة ما تشبه ما يحدث في الأحلام»3.
ان الولادة التي يرمز اليها الانتشال من البركة هي في المقام الأول ميلاد الثقة قي النفس بالنسبة للشاعرة التي طالما تحسست أزمة منتصف العمر بما تنطوي عليه من اصرار على العطاء ومعاندة مجتمع يرى الابداع والفرح والتعبير عن المشاعر بعفوية وحرية ضربا من التصابي. ذلك أن المجتمع مثل سلطة عليا كابحة للرغبات في الصبا والكبر، فالصبا كما قالت: «كان ثوبا سَخِر منه الناس ومنها حين ارتدته وهي طفلة صغيرة، فقد كان فضفاضا وطويلا جدا، ثم حين ارتدته بعد أن كبرت قليلا أخافهم جمالها ونهروها عنه، ولما ارتدته حين صارت أكبر اتهموها بالتصابي».
والولادة من جديد هي في المقام الثاني انبعاث للابداع وانبثاق للالهام بمساعدة منقذٍ ملهِم، «فارس من فرسان الكلام والغرام»، لم يخطر ببالها أنها ستلاقيه يوما، وهي «مكومة ببلاهة داخل بركة ماء».
وكما تحررت الشاعرة من هواجسها، فقرأت على الأديب الكبير بعض ابداعاتها قاطعة وتينَ التردد بصارم الاقدام والثقة في النفس التي انتعشت بفعل مديحه، كما تهتز الأرض وتنبت اذا ارتوت ماء؛ تحرر الكاتب الكبير أيضا من فوبيا الابداع، و«رهاب الكتابة» بفضل التداعي الحرّ والبوح في تلك الجلسة التي أذهب جفافَها بللُ الأنوثة المبدعة التي ألهمته القول ان: «الرجل لا يتوانى عن اذلال نفسه لالهة الشعر والالهام لترأف به وتغدق عليه عطاياها، أما المرأة فهي الالهام ذاته».
لقد قال ابن عربي ان «كل ما لا يؤنث لا يعول عليه»، لكن الثقة في النفس التي أيقظتها الأنثى المبدعة في نفس الشاعر والكاتب الكبير، لم تخمد لظى الرهاب. رهاب الاشاعات التي تطارده، وتجعله دائم التردد في الكتابة، ورهاب الكتابة ذاتها، خاصة جنس الرواية التي يخشى كتابتها مخافة أن يباغته الموت قبل اكمالها، لذلك يؤثر كتابة القصة القصيرة، لأنها « اكتشاف ومتعة جديدة (.) ومتجددة بتجدد موضوعها.
لعل مصدر الرهاب، ليس هو الموت الفيزيائي المتمثل في انطفاء شعلة الحياة في الجسد، بل الموت الرمزي الكامن في أن انتاج رواية واحدة يعني بلوغ الكمال،وليس بعد الكمال الا الموت على اعتبار أن كثيرا من كبار الكتاب، كما قال وينسترك، أحد دارسي الأدب الأميركيين:» يكون لديهم أحيانا مجرد فكرة واحدة، وحين يعبرون عن تلك الفكرة ينتهون ككتاب».
ألهب رذاذ ماء النافورة وسطوع النجوم المتلألئة على صفحة الماء خيال الروائي، فطفق يتحدث بشيء من الشاعرية الرهيفة عن لواعجه التي قد لا تفارق أديبا مبدعا، وهي:
الاحساس بالعزلة والغربة، «فالمبدع يُخلق من غربة، وينمو في الوحدة»، ورغم انتمائه القوي لوطنه وافتخاره به، فانه يشعر بأن «جذوره معلقة ولم تغرس بعد».
الفقر العاطفي والافتقار الى التقدير الحقيقي الذي يعدّ بمثابة الأوكسجين في حياة المبدع، فقد خاطبها قائلا: «ما غمرني الناس به من عواطف في حياتي لم تكن أقل من الحب الحقيقي، لكنني كنت بحاجة الى نفحة الرفقة والمحبة الذكية، الحكيمة الحانية، السلسة، المرحة التي تنفخ أشرعتي وتدفعني الى الأمام خلال رحلة الحياة ككاتب وكإنسان.
قالت: لكنك وصلت.
قال: وصلت... دون هـذا!».
باختصار، ان أهم ما يحلم به المبدع ليس في نهاية المطاف أكثر من اشعارٍ بالأهمية وتعبير عن الاهتمام.
هوامش
1 - يرى الناقد عبدالرحيم جيران في كتابه «النص الأدبي، لعبة المرايا، ص111» أن التعبيرات المفردة - والتي يمكن عدها نصوصا (كلمة قطة مثلا) تطرح ضرورة وضعها في سياق من التعبير بين طرفين؛ أي في سياق خطاب ما».
2 - علي أسعد وطفة، اللغة واللاشعور عند جاك لاكان.
3 - كامل محمد عويضة، التحليل النفسي، دار الكتب العلمية، ج4/ص207.


* د. بوزيد الغلى
كاتب وأكاديمي مغربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى