د. زياد الحكيم – جيمس جويس

قد توحي اعمال جويس بان ايرلندا لم تكن غنية ثقافيا عندما غادرها الكاتب عام 1904. ونفهم من روايته (صورة الفنان في شبابه) ان ايرلندا في نظر الكاتب لم تكن المكان المناسب لفنان يتمع بشخصية مستقلة. ولكن الواقع ان دبلن في ذلك الوقت كانت تفور بالانشطة الادبية وتزامنت الفترة التي انتح فيها جويس روائعه مع النهضة الادبية الايرلندية، وهي حقبة بارزة من حقب الادب الانكليزي.

واذا كان جويس قد اقام خارج ايرلندا سنوات طويلة فان ذلك لا يعني انه انعزل عن هذه النهضة. والحقيقة ان كثيرا من الكتاب الايرلنديين في ذلك الوقت اقاموا في انكلترا سنوات طويلة واقام بعضهم فيها معظم سنوات حياته مثل جورج برنارد شو وجورج اوكيسي. ولكن يبدو ان اقامة جويس في فرنسا وليس في انكلترا عمقت شعور القارىء باغتراب جويس عن وطنه ولكن المفارقة تظل في انه واصل حياته وجدانيا في دبلن ولم يضعف حبه لها ولا افتتانه بالحياة فيها.

ولم يكن جويس يهتم بذلك الجانب من النهضة الادبية الايرلندية الذي كان يهدف الى احياء اللغة الايرلندية والتعريف بالكتاب الايرلنديين الاوائل عن طريق الترجمة. وان ما يهمنا هنا هو النهضة الادبية الانغلو-ايرلندية التي بدأت في العقد الاخير من القرن التاسع عشر عندما قدمت مسارح لندن عروضا لمسرحيات اوسكار وايلد وجورج برنارد شو.

وكان وليام بتلر ييتس اكبر شعراء النهضة الايرلندية. وقد تعاون مع ليدي غريغوري وادوارد مارتن في تأسيس المسرح الادبي الايرلندي الذي قدم عروضا لمسرحياته ومسرحيات غريغوري وعدد آخر من الكتاب الايرلنديين.

وكانت الحركة الادبية في ايرلندة تعمل على توسيع نطاق الموضوعات التي يتناولها الادب مما شكل تحديا لمفاهيم العصر الفيكتوري وتقاليده، وخروجا على الأطر الادبية وخاصة في فن الرواية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر حيث كان الروائيون يقدمون مادتهم الروائية عن طريق السرد والوصف والحوار. ولا شك ان اعمالا مثل (سكان دبلن) و(صورة الفنان في شبابه) و(يوليسيز) وكلها تتحدث عن دبلن تعطي لجويس مكانة عالية في النهضة الادبية الايرلندية. ولاشك ان اكتشاف الوعي الانساني في هذه الاعمال دقيقة بدقيقة باسلوب يستخدم عشرات من الادوات الجديدة يعطي جويس مكان الصدارة في حركة الحداثة في الادب الانكليزي.

كانت مدينة دبلن مصدر جميع الموضوعات والافكار التي تناولها جويس في رواياته وكتاباته. وقال مرة انه لو دمرت دبلن فان من الممكن اعادة بنائها الى حالتها الاولى بالاعتماد على وصفه لها في كتبه. وكان من دأب جويس ان يتسكع في شوارع المدينة وازقتها في ايام طفولته وشبابه مما اتاح له ان يتعرف على انحاء المدنية القريبة والبعيدة.

وعلاقة جويس بدبلن وهي علاقة تتسم بازدواجية الحب والكره تشكل الاساس في ادبه وفنه. صحيح انه هجر المدينة عام 1904 الا ان اعماله تكشف عن مدى اعجابه بكبريائها وعظمتها، وهذه الخصائص جعلت المدينة موضوعا مناسبا لملحمة (يوليسيز).

كانت دبلن في القرن الثامن عشر حاضرة الحكومة والطبقة الارستقراطية. ولكن اوضاع المدينة تدهورت في القرن التاسع عشر فاحاطت بها الاحياء السكنية الفقيرة كما تحيط بمدن اوربة الغربية، وازدهرت فيها تجارة الرقيق الابيض في منتصف القرن التاسع عشر نتيجة وجود القوات البريطانية فيها. في وسط المدينة كنت تجد ابنية فخمة لجامعة ترينتي والبرلمان والجمارك والقلعة القديمة والمحاكم والكنائس والمتاحف والقصور وعلى مسافة قصيرة من هذا كله كنت تجد احياء سكنية وصفت بانها اسوأ احياء للفقراء في اروبة.

يعد جويس كاتبا صعبا لانه كان رائدا في فنه القصصي اعطى الرواية اتجاها جديدا. وكانت الطريقة التقليدية في القرن التاسع عشر للعرض الروائي هي ربط السرد المباشر بالوصف والحوار، وكان جويس واحدا من الروائيين الذين خرجوا على هذا الاسلوب.

وبامكاننا ان نتبين تطور جويس الروائي بالانتقال من مجموعة (سكان دبلن) 1914 الى رواية (صورة الفنان في شبابه)1916. ففي (سكان دبلن) يستخدم جويس اسلوبا في العرض ينسجم مع التقليد الادبي القائم: فسرد الاحداث لا يشوبه الغموض والحوار لا يسبب اية مشكلات في التعرف على المتكلم في اية نقطة فيه.

اما في (صورة الفنان في شبابه) فاننا نجد ان جويس يستغني عن اية عبارات توضيحية في الحوار مثل "قال المستر باور او قال لزوجته او قال لنفسه". ولا نجد في الرواية صوتا متميزا للمؤلف يضع القارئ في الصورة او يتحدث اليه من فوق رؤوس الشخصيات.

وهذا يعني ان على القارئ ان يظل يقظا على الدوام وان يستعمل ذكاءه لانه لا يستطيع ان يطمح في ان يزوده جويس بمعلومات عن المشاهد والشخصيات وافكارها ومواقفها او ان يتلقى منه درسا في كيفية تحديد مواقفه من الشخصيات. وبكلمات اخرى فانت عندما تقرأ كتابا لجويس فانك لا تقضي وقتا مع مؤلف عالم بكل شيء وقادر على الحكم على كل شيء ولكنك تقضي وقتا مع بطل ترى ما يراه وتسمع ما يسمعه وتفهم مواقفه وتتابع افكاره حتى عندما يعود بتفكيره الى الماضي او يهيم في المستقبل او يعيش في الاحلام.

في اول رواية (صورة الفنان في شبابه) يدخل القارئ في عالم طفولة الصبي ويقرأ عن الانطباعات التي يشكلها هذا العالم في ذهنه. وفي نهاية الكتاب يجد القارئ نفسه في عالم شاب على مقاعد الدراسة في الجامعة يدرس الفلسفة والادب. وبين المرحلتين يدخلنا جويس الى عالم الفتوة والمراهقة بشكل نفهم فيه التطور التدريجي لحياة الشاب الى ان يصل الى مرحلة الرشد.

وهذه الرواية ليست تقريرا ساذجا لتمرد شاب مثالي لان جويس يصور بطله ستيفين ديدالوس بطريقة يبين فيها عيوبه بشكل واضح. وتكمن السخرية وروح الدعابة في تصوير بطل متمرد يفوز بتعاطف القارئ بسبب ظروفه الصعبة ويضحك القارئ في الوقت نفسه من مغالاته في مقاومته لهذه الظروف.

وفي عام 1922 اصدر جويس ملحمته الشهيرة (يوليسيز) وهي تصف يوما واحدا في دبلن هو يوم 16 -6- 1904. وتوازي الاحداث والشخصيات فيها الاحداث والشخصيات في (اوديسة) هومر. وكتب كل حدث بأسلوب يناسب موضوعه. كما ان كل حدث يمثل عضوا من اعضاء الجسم البشري وعلما وفنا ورمزا ولونا. وكتبت كتب كثيرة لتفسير رواية (يوليسيز) افضلها كتاب لستيوارت غلبرت وهو بطول الرواية نفسها.

وكانت مواقف النقاد من الكتاب عند صدوره متفاوتة. وصفه بعضهم بانه اعظم عمل روائي في القرن العشرين، ووصفه البعض الاخر بانه "اقذر كتاب شهد طريقه الى المطبعة." وتعرض الكتاب للحرق والمصادرة. ففي نيويورك احرقت مؤسسة البريد خمسمئة نسخة من الطبعة الثانية وصادرت دائرة الجمارك البريطانية خمسمئة نسخة من الطبعة الثالثة.

واذا كانت رواية (يوليسيز) تصور النهار والعقل الواعي فان رواية (يقظة فينيغان) 1939 التي شغلت جويس سبعة عشر عاما تصور الليل والعقل الباطن. وهي المحاولة الاولى في وصف دقيق لعالم النوم. والرواية مكتوبة بلغة الاحلام وبعشرات اللغات منها لغة الاسكيمو. ولا يجد القارئ فيها جملة واحدة تأخذ بيده الى تفسير الرواية. ويقول النقاد ان موضوع الرواية – كما هو الحال في ملحمة (يوليسيز) – هو تاريخ العالم وما تخلله من صعود للحضارات وسقوط لها.

كان جويس ا كبر اخوته العشرة. التحق في سن السادسة بمدرسة كلونغوز وهي مدرسة داخلية يسوعية وصفت بانها اشهر مدرسة في ايرلندا. وامضى فيها ثلاث سنوات. ولكن اباه لم يكن الرجل الذي يستطيع ان يظل ميسور الحال مدة طويلة. فقد كان رجلا لاهيا مهملا مما ادى الى تدهور اوضاع الاسرة المالية. واعتاد اطفال الاسرة على اوضاع معيشية مزرية وعلى الانتقال من بيت الى بيت دون دفع الاجور وتسديد الديون. ولم يعد جويس الى كلونغوز بعد العطلة الصيفية عام 1891 ولم يلتحق باية مدرسة بعد ذلك لمدة سنتين حاول خلالهما ان يتعلم في البيت تحت اشراف امه.

وفي عام 1893 قبل جويس واخوه ستانيسلوس في مدرسة يسوعية اخرى في دبلن هي مدرسة بلفدير. وامضى في هذه المدرسة اربعة اعوام تفوق خلالها في كتابة المقالات. ومن هذه المقالات مقالة بعنوان "بطلي المفضل" وكانت عن يوليسيز. والتحق بجامعة دبلن اليسوعية بين 1898 و1902 ودرس ارسطو وتوماس اكواينوس واللغات اللاتينية والايطالية والفرنسية وحتى النرويجية وذلك من اجل ان يقرأ اعمال هنريك ابسن. وفي ابريل 1901 نشر مقالة بعنوان "الدراما الجديدة لابسن" وهي نقد لمسرحية ابسن (متى نصحو نحن الموتى) التي قرأها جويس فور صدورها. وفي عام 1901 عندما افتتح المسرح القومي الايرلندي هاجمه جويس لانه يشكل قيدا للفنان – كما قال - الذي يجب ان يتجاوز الحدود الوطنية. وغادر جويس دبلن الى باريس بعد تخرجه في الجامعة. وكتب فيما بعد في (صورة الفنان في شبابه) يقول: "لن اخدم ما لم اعد اومن به سواء كان ذلك بلدي او كنيستي." وواصل جهوده في تعلم فن الكتابة، فكتب الشعر وجرب تقنيات جديدة في كتابة مقالات نثرية قصيرة. واستطاع ان يطور اسلوبا يعتمد الايجاز يسجل فيه افكارا ومشاعر دقيقة.

وقضى كاتبنا معظم سنوات الحرب العالمية الاولى في زيوريخ. وهناك واجه صعوبات مالية ضخمة. وبدأت مواهبه الادبية تحظى بالاهتمام. وفي عام 1920 انتقل الى باريس حيث امضى السنوات التسع عشرة التالية.

عانى جويس طيلة حياته من ضعف بصره. واجريت لعينيه في السنوات الاخيرة من حياته عشر عمليات جراحية. وكانت الكتابة تزيد من متاعب عينيه. ولكنه كان يكتب على صفحات كبيرة من الورق وبخط كبير، وكان يعتمد على مساعدة اصدقائه في اعادة نسخ ما يكتبه وفك رموز كتابته.

انتهت بوفاة جيمس جويس حقبة ادبية. كتبت عنه مجلة تايم تقول: "ان اعمال جويس الكثيرة تقدم لنا اشمل واعمق صورة للفوضى الفكرية والاخلاقية - الفوضى التي نراها ونسمعها اليوم في انهيار جدران المدن الاوربية." وتوفي جيمس جويس في خضم هذا الانهيار وربما بسببه.


[email protected]
لندن - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى