د. زياد الحكيم - أديبتان طليعيتان في الرواية السورية

ظهرت الرواية العربية اول ما ظهرت استجابة للتحولات الكثيرة التي شهدها الوطن العربي بعد احتكاكه بالغرب ومحاولاته نقل فنه وعلمه الى اللغة العربية. فتعرف القارىء العربي على ما انتجه الغرب من فن روائي عن طريق الترجمة. ولاقت هذه الترجمات رواجا عظيما. فاقبل عليها الكبار والصغار نظرا الى ما تسجله الرواية من افكار ومشاعر شديدة الصلة بالعالم النفسي والاجتماعي للانسان الى ان جاء وقت كان لا بد فيه للكتاب العرب ان يجربوا اقلامهم في هذا الفن الادبي. وبطبيعة الحال كانت المحاولات الروائية الاولى في الوطن العربي تفتقر الى النضج الفني فكان هناك فارق زمني يقترب من نصف قرن بين الرواية التي كتبها سليم البستاني بعنوان (الهيام في جنان الشام) 1870 وبين الرواية الفنية الاولى لمحمد حسين هيكل عام بعنوان (زينب) 1913.

وفي سورية يؤرخ للرواية الفنية السورية برواية (نهم) 1937 لشكيب الجابري. ومن الثلاثينيات الى الخمسينيات خطا الفن القصصي الروائي في سورية خطوات بطيئة جدا من ناحيتي الكيف والكم. وظلت الرواية السورية قليلة التنوع وقليلة الجرأة في تناول موضوعات الحياة العامة او في التجاوب مع التقنيات الحديثة. ولكنها اخذت تحقق تقدما ملحوظا منذ منتصف الستينيات من القرن العشرين.

وفي سورية روائيتان من طليعة النساء السوريات اللاتي استطعن ان يخضن تجربة الكتابة الروائية في وقت مبكر لم يكن امامهن فيه الا نماذج عربية قليلة من هذا الفن الادبي.

الفة ادلبي

تقول الفة ادلبي انها تأثرت اول ما تأثرت بوالدها الذي لم يكن اديبا ولكنه كان ذواقة ادب. وكانت البنت الوحيدة بين خمسة اخوة ذكور. وكانت هي الوحيدة التي تجاوبت مع هواية ابيها في قراءة الادب وتذوقه. لذلك كان ابوها يختار لها كتبا للقراءة ويشجعها على مطالعتها او ابياتا من الشعر يغريها بالهدايا لتحفظها ويعلمها طريقة القائها. من هنا نشأ عندها حب المطالعة. وما ان بلغت الثانية عشرة من عمرها حتى راحت تطالع في الكتب التراثية كالعقد الفريد وكتب الجاحظ.

تأثرت بعد ذلك بخالها كاظم الداغستاني الذي كان اديبا مرموقا في عصره. وفي مكتبة خالها تعرفت على اعلام الادب العربي الحديث من طه حسين الى عباس محمود العقاد ومحمود تيمور ومي زيادة وماري عجمي. من هنا نشأ معها حب الادب. ولكن لم تتح لها الايام مواصلة تعليمها العالي فتزوجت وهي صغيرة السن قبل ان تنال شهادة البكالوريا. ولكن مسؤوليات البيت والاسرة لم تصرفها عن القراءة. ظلت القراءة هي هوايتها المفضلة. وعندما كبر اولادها وكانت في الثلاثينات من عمرها جربت كتابة القصة القصيرة. وكتب لها النجاح. ومنذ ذلك الوقت اقبلت على مطالعة القصة القصيرة، وقرأت كل ما وقعت عليه يدها من قصص قصيرة باللغة العربية او مترجمة. ففي الاربعينيات بدأت حركة ترجمة نشيطة. فوفقت الى مطالعة تشيخوف وغوغول وموباسان. وكان لهؤلاء تأثير واضح على قصصها القصيرة. ولكن حاولت جهدها الا تقلد احدا واستلهمت بيئتها الدمشقية ايمانا منها ان الادب الذي يعبر عن بيئته هو الادب الصادق الذي يدخل الى قلب القارئ. وهذا لا يمنع ان يكون ادبا عالميا في نظرها.

والحقيقة انها وجدت الكثير من التشجيع عندما بدأت الكتابة من الكتاب والنقاد. وعندما بدأت الكتابة في مطلع الاربعينيات كانت الاديبات معدودات على الاصابع. هذا التشجيع جعلها تواصل الكتابة، فكتبت القصة القصيرة والرواية والمقالة وادب الرحلات والزوايا الصحفية والاحاديث الاذاعية. وحاولت الشعر لكنها رغبت عنه لانها باعترافها لم تفلح فيه. وماذا عن دمشق التي نشأت بها؟ قالت الفة ادلبي: "ان الحياة في دمشق القديمة كانت حياة هادئة ودافئة ولاسيما التعاطف والتواصل بين ابناء الحارة الواحدة. الجار في الحارة كأنه من اقرب الافرباء يفرح لفرح جاره ويحزن لحزنه.

كان هناك تعاضد اجتماعي رائع في الحارة الدمشقية القديمة. كانت الحارة بسيطة ووادعة."

كتبت الفة ادلبي عن المرأة ومعاناتها من كبت وظلم. وكتبت في القضية الوطنية وعن الاستعمار الفرنسي وعن الثورة السورية التي تأثرت بها بعمق. ونشرت رواية تدور احداثها اثناء الثورة السورية. وتتحدث عن اسرة سورية نموذجية. وكتبت قصصا عن العادات والاخلاق الشامية. ولاقت هذه القصص ترحيبا كبيرا الى درجة ان النقاد اطلقوا على الفة ادلبي "القاصة الشامية". كتبت اكثر من تسعين قصة قصيرة، نشر منها سبع وخمسون في مجموعات قصصية اربع هي (قصص شامية) و(وداعا يا دمشق) و(يضحك الشيطان) و(عصي الدمع) ونشر الباقي في المجلات والصحف والاذاعة.

كتبت الفة ادلبي روايتين طويلتين هما (دمشق يابسمة الحزن) و(حكاية جدي). والقت عدة محاضرات جمعت في كتابين (نغمات دمشقية) و(المانوليا في دمشق) وهذه الاخيرة تحكي عن سيدة انكليزية اسمها جين رغبي عاشت في دمشق في بيت بنته لنفسها خصيصا، وتزوجت من بدوي، وزرعت في حديقة بيتها شجرة مانوليا ولم تكن الشجرة معروفة في دمشق. وشاءت الصدفة ان تشتري عمة الكاتبة هذا البيت بعد ان توفيت السيدة الانكليزية. وكانت ترسل لها من ازهار المانوليا. وانسجمت شجرة المانوليا في الجو الدمشقي كما انسجمت جين رغبي مع الجو الدمشقي فاطلقت على السيدة الانكليزية اسم مانوليا. ونشرت كتابا بعنوان (وداع الاحبة) تحدثت فيه عن بعض الاصدقاء والادباء الذي رحلوا عن هذا العالم.

تقول الفة ادلبي انه ليس ثمة ادب نسائي وادب رجالي لان الاديب عندما يصل الى نضج معين فان بامكانه ان يتقمص شخصيات ابطاله. وتقول: "خذ دوستويفسكي مثلا. استطاع ان يتقمص شخصية فتاة مراهقة بشكل يدهش العقل. وكذلك المرأة اذا بلغت درجة عالية من النضج تستطيع ان تتقمص شخصية رجل تعبر عن مشاعره وخلجات قلبه تعبيرا صادقا."

قمر كيلاني

بدأت قمر الكتابة منذ سنوات الدراسة الاعدادية والثانوية. وكانت في تلك السنوات كثيرة الاهتمام بكتابة الخواطر والمقالات القصيرة. وكتبت اولى قصصها القصيرة عندما كانت طالبة في الثانوية العامة. هي من اسرة ذات جذور راسخة في تربة دمشق. ولدت في حي العمارة، احد الاحياء العريقة في دمشق. وقد جاءت على وصف هذا الحي في روايتها (عمري). هذه النشأة في دمشق القديمة بحاراتها وازقتها الضيقة المليئة بعطر التاريخ – العمارة والسبع طوالع القريبة من المسجد الاموي حيث تمارس التقاليد الشامية – هي التي تجذرت فيها. وعندما انتقلت اسرتها من الحي القديم،كما انتقلت اسر شامية كثيرة الى احياء حديثة، كانت قمر في العاشرة من عمرها. لكن الذكريات الاولى عاشت في وجدانها وانعكست على كتاباتها وفنها خصوصا انها وثقت هذه الذكريات بمعلومات من اجدادها وكبار السن في الاسرة. فوضعت عملا كبيرا يقع في اكثر من الف صفحة وهو بعنوان (نجمة والبيت الكبير).

ودمشق الحديثة وان كانت تختلف من حيث عماراتها وشوارعها وحدائقها عن دمشق القديمة الا انها لاتزال تحتقظ بروح دمشق القديمة في نظر قمر كيلاني. وتقول قمر: "ان البيت الكبير هو دمشق القديمة او ربما سورية او ربما الوطن العربي الذي حملت همومه منذ الصغر، وعبرت عن هذه الهموم في كتبي ومقالاتي وقصصي."

كانت قمر كيلاني تشعر بالحاجة الى الكتابة للتعبير عن مشاعرها وهمومها وطموحاتها. كتبت مساهمات في النشرات والمجلات التي كانت تنشرها الجامعة. منها خواطر وتعليقات. وكانت هذه تثير اهتماما واسعا في الجامعة. وكتبت اول الامر تحت اسم مستعار هو "رائدة النبع" كنوع من التمويه وليس بدافع الخوف كما قالت لي. ولكن عندما عرف طلاب الجامعة من هي رائدة النبع راحت تكتب تحت اسمها الصريح في السنوات الاخيرة في الجامعة. وبعد تخرجها عملت مدرسة في دور المعلمين، وبدأ نشاطها الكتابي فاهتمت بشكل خاص بالتراث الاسلامي والدراسات الاسلامية. واصدرت كتابا بعنوان (التصوف الاسلامي) 1962. وصدرت اول رواية لها بعنوان (ايام مغربية) 1965. ثم تابعت هذا الدرب الصعب والشائك والطويل بين المقالة والدراسة والنقد والقصة. ولكن بعد اربعين عاما من الكتابة هل قالت قمر للعالم كل ما تريد ان تقوله؟ اجابت: "لا. ساواصل طريق الكتابة للتعبير عن هذه الشحنات التي لاتزال مختزنة في نفسي."

لقد نشأت قمر كيلاني في بلد يمارس مقاومة ويضع قيودا في طريق المرأة الكاتبة وخاصة اذا كانت هذه المرأة شابة وفي وضع اجتماعي معين. فالدافع الى الكتابة هو الكتابة نفسها كما قالت. فالكتابة قدر واذا ولد المرء كاتبا فعليه ان يكتب لان هذا هو قدره. واذا كتب فان عليه ان يكون صادقا، واذا اراد ان يعبر عما حوله عليه ان يكون مفتوح العينين وان يلتقط الكبيرة والصغيرة وكأنه نسر محلق يرى الارض بشمولية كاملة. وتقول قمر: " الكتابة موقف انساني. هي شيء مقدس. ومن لا يقدس الكلمة المكتوبة او المقروءة او المسموعة يفقد نبضا اساسيا ونكهة اساسية للحياة. فالكلمة هي عهد وميثاق وهي تعبير عن انسانية الانسان."

سألت قمر: بمن تأثرت؟

قالت: "لا استطيع ان احدد بمن تأثرت. فأنا نهمة للمطالعة. اعجبت بالادب الروسي الانساني العالمي وبكتابات دوستويفسكي وتشيخوف. وفتنت بالكلاسيك الفرنسي - بلزاك وفلوبير وموباسان. وقرأت الادب الانكليزي واطلعت على الادب الامريكي."

مارست قمر كتابة المقالة الصحفية الاسبوعية منذ الستينيات من القرن العشرين وهذه تثير القضايا الانسانية العامة. وفيها مشاهدات في الوطن الصغير والوطن الكبير او المعاناة الذاتية. وفي قصصها القصيرة تناولت قمر هموم المرأة التي تريد ان تتحرر امام امواج الحضارة الحديثة، المرأة التي تعاني من الاضطهاد والقمع. وتناولت مشاكل الحب والزواج والامومة، وكسر الاغلال التي تقيد المرأة، والحرية التي تنشدها. وهذه هي قضايا القصص في الستينيات بشكل عام.

اما في الرواية فقال النقاد ان قمر حملت الهم العربي. فرواية (ايام مغربية) عن المغرب، ورواية (الاشباح) التي نشرت في ليبيا تتحدث عن القضية الفلسطينية، و(بستان الكرز) عن القضية اللبنانية، ورواية (الهودج) عن الفترة الحائرة بين التقسيم في نهاية الاربعينيات وانشاء اسرائيل. فهي –كما قالت – لا تستطيع ان تخرج من جلدها وان تمحو وجهها العربي الاصيل وان تتخلص من هذه المؤثرات التي صهرت حياتها. وتعتقد قمر كيلاني ان الادب السوري يحتل مكانته الراسخة في الادب العربي. والادب العربي عموما في المشرق والمغرب ادب متجانس وهي لا تجد فروقا كبيرة بين كاتب مغربي وكاتب سوري او لبناني الا ان القالب الذي تصب فيه التجربة قد يكون مختلفا. وهي تعتقد ان الادب العربي مؤهل للعالمية. فالعالمية في نظرها هي النكهة والطعم، والاغراق في المحلية قد يكون حافزا للعالمية.
----------------------------------------------------------------


نشرت هذه المقالة في لندن عام 1995 بعد لقاء جمعني في دمشق بالاديبتين الفة ادلبي 1912-2007
وقمر كيلاني 1932-2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى