يحيى حقي - الأغنية: جديرة بالدراسة الأدبية

من أماني أن لا يغفل النقد الأدبي عندنا أو يتعالى عن هذا النوع من فنون القول الذي نجعله يقف – رغم خيلائه لاعتزازه بحب الجماهير – وقفة التابع المقصي في طرف الحاشية المحيطة بعرش يقتعده الأدب الرسمي إن غفرت لي أن أصف الأدب بهذا الوصف الميري العجيب، وأعني الأغنية المنظومة – من الإنصاف أن نقر أن كتابة الأغنية بالعامية لا ينفي عنها صفة الشعر. بل أعتقد أن قدرا كبيرا من طاقة هذا الجيل على قول الشعر قد انصب في قالب الأغنية – ولم لا يقال إن الأغنية عندنا الآن – دون شعر الأدب الرسمي – هي الامتداد الطبيعي لحركة التجديد في الشعر.
فالأغنية باعتبارها إذن شعرا ونصا أدبيا جديرة بالاهتمام والدراسة والتحليل للإلمام بأبعاد التعبير الشعري والأخيلة الشعرية عندنا في الوقت الحاضر. وقد وجدت الأغنية في إغفال النقد لها ونجاتها من مشاكسته جوا هادئا مستورا إن عبثت فيه ما شاء لها العبث فإنها مع ذلك استطاعت أن تعمل على تطوير البحور والأوزان والقوافي إلى نمط حديث يوافق ذوق أهل الجيل. على حين أن الشعر الحديث في الأدب الرسمي لا يزال يكافح بكل سلاح دون أن يفلح للفوز بالاعتراف له بحقه في هذا التصرف – والأغنية جديرة بالدراسة الأدبية لأنها أيضا بجريها على الألسن ونفوذها إلى ضمير الشعب تكشف عن نوع مجاوبته لهذا التعبير الشعري وتلك المخيلة الشعرية فتعرف هذا الرباط الذي لا يصلح إلا هو للبناء عليه لأنه هو الذي يربط بين الفنان والشعب وبفضله يتم تأثر كل طرف بالآخر ويدخل في هذا البحث محاولة الكشف عن المعاني التي تروق للشعب. ولماذا بالتالي تنجح أغنية وتسقط أخرى وهل يتضاءل نجاحها أم لا يزال على عنفوانه؟ نعم. ينبغي هنا أن نتحفظ في الحكم ونقول لعل اللحن لا الكلام هو العامل الأول في دوران الأغنية وإنك لو لحنت (ريان يا فجل) بنغم جميل لتغني به الشعب وسكر عليه.. قد يقال هذا .. وقد يقال أيضا إن عمل اللحن هو عمل االمفتاح الذي يفتح به الباب بين اللفظ والمعنى ولا يميت الكلمة. لأنه يحدد طريقة نطقها. بل أن اللحن بعد تكرره والتعدد عليه يتضاءل أثره. ويتقدم اللفظ والمعنى إلى الأمام إلى منطقة الوعي ولعلك تلاحظ أن أكثر عبارات الأغنية دورانا على الألسن هو غالبا أفصحها في التعبير الشعري – ومع انتصاري للفصحى فإني أكرر دائما القول بأن الكتابة بالعامية تحتاج أيضا إلى بصر وذوق لا يقلان نفاذا وحساسية عن بصر من يكتب بالفصحى وذوقه إذا أراد الكاتب بالعامية أن يستقيم له أسلوب فني محدد المعاني والألفاظ رشيق الدلالة، بعيد عن الفجاجة والابتذال. وقد تكون الكتابة بالعامية أشق من الكتابة بالفصحى. لذلك أعتقد أن بناء الأسلوب الفني للعامية لم يتكفل به الأدباء والقصاصون الذين يستعينون بها أحيانا بقدر ما تكفل به شعراء الأغنية. هذا هو فضل بيرم التونسي ومن بعده حسين طنطاوي، وأبو السعود الإبياري، وأخيرا فتحي قورة. والغريب أن بعض شعراء الأغنية لهم أيضا شعر بالفصحى، كالأستاذ صالح جودت مثلا – فيعني النقد بشعره من جانب ويهمل الجانب الآخر، نعم – من الظلم ألا يدرس مرسى جميل عزيز كشاعر مرهف الحس بارع الإشارات حلو العبارة يعني أشد العناية بوحدة الأغنية وضرورة احتوائها على معنى جديد، إنه يعبر عن الحب أدق تعبير، وعن الجنس بأجمل الكتابات، انظر إلى الفتاة عنده إنها تبث دائما همها إلى أمها فأحس من هذه المناجاة بطبيعة الشعب وأشجانه إن مرسي جميل عزيز شديد الالتصاق بالشعب وفي شعره ملامح فولكلورية كثيرة.
ومن الظلم أن لا يدرس حسين السيد كشاعر صاحب مدرسة له شخصيته المستقلة ومزاجه الذاتي ولعله هو الوحيد بين شعراء الأغاني في ضربه المثل على قدرته على التطور والانتقال من مرحلة إلى أخرى بحيث تستطيع أن تلحق كل أغنية بمرحلتها، وإن جهلت تاريخها، فهو بعد محاولاته الأولى التي كان لا يزال يبحث فيها عن شئ عن الحبيب المجهول انتقل إلى مرحلة تخصيص يحض فيها على الاستمتاع بالحياة والتبصير بالجمال، ثم انتقل إلى مرحلة أخرى يهيم فيها يوصف نوازع النفوس والوقوف عند مفارقاتها.
ومن الظلم أن لا يدرس عبد الفتاح مصطفى كشاعر صافي الروح صادق التعبير عن الطبيعة المصرية، مع ملاحظة تطوره إلى النزعة الصوفية.
وأعتقد كذلك أن الباحث الذي يهمه اليوم أو غدا دراسة قاموس اللغة العامية المتداولة في الوقت الحاضر ومزاج الناطقين بها ودعابتهم لن يجد كل هذه القصص مجموعا، كما يجده في صورة أغنية حية بارعة في نظم فتحي قورة لا أعرف أحدا يدانيه في خفة دمه ولا في القدرة على نصب شباك القوافي العسيرة والخلاص منها خلاص الشعرة من العجين، إنه بهلوان الأغنية.
نريد نقدا يكشف لنا عن أسلوب الشناوي، والحبروك وكثير غيرهم، من أساتذة الأغنية ممن لا يتسع المجال لذكر أسمائهم كلهم، نريد وقفة متأملة لصلاح جاهين، لإنتاجه النابع من أدق أحاسيس الشعب الحديثة والموغلة في القدم، لشخصه الذي تزعق كل ذرة فيه، إنه فنان أصيل في جسمه ، يخيل إلىّ أنه مرسوم على هيئة شدق لنافخ في مزمار بلدي.
ولعل الذي صرف النقد الأدبي عن الاهتمام بالأغنية هو أنها إلى جانب كتابتها بالعامية أسيرة لألحان ضحلة رتيبة غارقة في السجع مجنونة بالتكرار عمياء عن وجود شئ فظيع جدا اسمه الملل والزهق وطلوع الروح إن تغميسة واحدة منها تغني عن الطبق كله وليس من العدل أخذ كلام الأغنية بجريرة غيره، ثم لأن أغلب محصول الأغاني عندنا غث تافه فاختلط الطيب بالردئ، أكثر الكلام وحتى الألفاظ تكاد تكون محفوظة عن ظهر قلب وتكرر دائما في صحبة خانقة مثل قافية حبي وقلبي وجنبي – الناس والكأس- الأحبة والمحبة – وهكذا – وبارك الله في قافية سهلة قوامها لي وعلى وعيني – وأن الأغنية كثيرا ما تكتب بناء على طلب منتج فيلم لتدس في إحدى مشاهده وتصف أو لا تصف مواقفه – فالشاعر هنا أجير لا أصيل . هذه الأغاني هي غريزة شعر المناسبات الذي تخلصنا منه والحمد لله – أغنية للأم وراءها توا أغنية للأب. وأخرى للأخ والأخت والجار والجارة فلم يبق إلا بواب العمارة – نريد من شعراء الأغنية إنتاجا مستقلا غير مرتبط بالتلحين .. نتاج لهم فيه حرية أوسع – ولكن الأغنية الحديثة رغم هذه العيوب الجسيمة كلها إذا قيست إلى أغاني مطلع القرن تعتبر مثلا جميلا في التقدم البليغ في الصدق والذوق والبلاغة والحياء. يكفي أنها خلصتنا من أغاني مثل: ارخي الستارة اللي في ريحنا – وتعالى يا شاطر نروح القناطر.
هذا ولم تشق الأغنية الحديثة مجرى بكري جديدا حتى يقال إنها جابت الديب من ديله – فهي أصبحت بفضل تعود بعض الصحف على ترجمة الأغاني الإفرنجية لا تستطيع أن تعيش في معزل عنها أوان لا تتأثر بها ولا أقول الاقتباس منها – كما أنها انتفعت وربما أكثر من غيرها ينابيع فياضة بعضها غائص في الثرى هو التراث الشعبي من المواويل الخضرة والحمرة فإنها تضرب لها أمثلة ينبغي أن تحتذيها وإن كان من العسير بلوغ مستواها – وإلى جانب هذه المواويل عدد كبير من الأغاني الشعبية التي لا تموت – ومن منابعها أيضا تراث قديم ساهم فيه الشيخ على الليثي وإسماعيل صبري والشيخ السيد أبو النصر ومصطفى نجيب – فهم الذين ألفوا أغاني (عبده الحامولي) ثم ساهم في هذا التراث من بعدهم أمير الشعراء أحمد شوقي – أننا ننسى فضله وفضل إسماعيل صبري من قبله في نظم الأغاني العامية رغبة منهما في رفع مستواها، ثم جاء الأستاذ (أحمد رامي) - وتولى حمل الأمانة وتطوير التراث إلى ذوق العصر الحديث – إنه وهو الشاعر المطبوع لم يستنكف أن يهب نفسه للأغنية بالعامية – إنه صاحب أكبر فضل في نهضة الأغنية وربطها بالشعر – وهو أول من عبر بصدق عن مزاج محدد منفرد بملامحه – كل أغنية تكشف عن جانب ولكنها كلها أجزاء صورة واحدة – إنه ينقل عن الحياة الواقعية لا تهاويل الكذب والخيال.. هو أول من صاغ الأغنية في قالب الحكاية وأتى بالمعاني الدقيقة الفائقة الجمال فلم يستعص فهمها ولا حبها على الشعب الذي يخوفوننا من سطحيته وأميته .. نشر رامي هذه المعاني فتناهبها من بعده كل من سار على دربه، ولكن ليس بينهم واحد حدد مثله المزاج الذي يعبر عنه – وأخيرا أريد أن أسألك سؤالا بعد أن تقرأ الأغاني الآتية:
الحب أصله منين م اللحظ أو م القلب
هما السبب لاتنين ده شاف والآخر حب
القلب قال للعين أنت سبب ذلي
قالت دليلك فين مين انشغل قل لي

وهذه الأغنية

أنا الغرام وانت الجمال ما لناش غنى عن بعضنا
ما فيش طرب ولا دلال يسبي العقول من بعدنا
زدني شجون يزداد ودادي بعدك حرام يهوى فؤادي

والسؤال هو: لمن هذا الكلام؟ ستقول إن معانيه حديثة بنت اليوم ولا شك أنها لشاعر يعيش بيننا ـ فقالوا لك كلا ـ إنها للسيد محمد درويش الذي كان ينظم في أواخر القرن الماضي أغاني محمد عثمان.. ولا شئ يؤسفني أكثر من أنني لا أجد شعره مجموعا ولا مرجعا واحدا يعرفني بهذا الشاعر الدقيق البليغ المجهول الذي سبق عصره بأكثر من نصف قرن فهل عندك خبر عنه؟
p://

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى