د. أحمد الحطاب - "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، لكن الإنسانَ يطغى

عنوان هذه المقالة هو الآية رقم 5 من سورة العلق. يقول فيها، سبحانه وتعالى، أنه "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، أي مكَّن الإنسانَ من معرفة كثيرٍ من الأشياء التي كان لا يعرف عنها أيَّ شيء أو كان يجهلها.

وحينما نقول إن اللهَ "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، فالأمر لا يتعلَّق بتعليمٍ كما هو متعارفٌ عليه في المنطق البشري، أي أن هناك معلِّما وتلاميذ. لا، أبدا! الأمر يتعلَّق بتعليمٍ غير مباشرٍ هيأ له اللهُ، سبحانه وتعالى، السببَ الرئيسي ليكونَ هذا التعليمُ غير المباشر شيئا ملموسا على أرض الواقع. ويتمثَّل هذا السبب الرئيسي في تزويد الإنسان بنِعمة العقل التي ميَّز بها الله، سبحانه وتعالى، بني آدم عن سائر مخلوقاته. وبالعقل، اهتدى الإنسان إلى اختراع الكتابة والمدرسة والطباعة والورقَ والكتب والإعلام بجميع أنواعه… وكل ما هو في حاجة إليه ليصبحَ التَّعليمُ واحدا من مُكوِّنات وأسس المجتمعات.

وعبارة "كثيرٌ من الأشياء"، المُشار إليها أعلاه، معبَّرٌ عنها، في هذه الآية، بحرف "ما" الذي مدلولُه هو جميع الأشياء غير المعروفة من طرف الإنسان. وما يثير الانتباهَ في هذه الآية، هو أن فعلَ "عَلَّمَ" مُصاغٌ في الماضي بينما دخول "لم" التي هي حرفُ نفيٍ على فعل "يَعْلَمْ" فحوَّلته من المضارع إلى الماضي. فهل هذا يعني أن اللهَ، سبحانه وتعالى، توقَّف عن تعليم الإنسان بعد نزول كل آيات القرآن الكريم على الرسول محمد (ص)؟ بالطبع، لا! لماذا؟

لأن كثيرا من الأفعال الواردة في القرآن الكريم والمستعملة في صيغة الماضي، تدل على استمرارية الفعل فيما هو آتٍ من الزمان، كقوله، سبحانه وتعالى : "وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (النمل، 87).

"يُنفَخُ" فعلٌ مضارعٌ مبني للمجهول ويدلُّ على أن النفخَ سيحدث في المستقبل. أما فعل "فَزِعَ"، فهو مُصاغٌ في الماضي. فهل من الصواب أن يفزع الناسُ، في الماضي، من شيء لم يحدث بعد أو سيحدث في المستقبل غير المعروف؟

نفس الشيء نلاحظه في بعض الأجزاء من آيات القرآن الكريم مثل "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ"، "إِن شَاءَ اللَّهُ"، "إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ"... فعل "شاء"، في هذه الأجزاء من الآيات، مصاغٌ في الماضي. لكن، فهل هذا يعني أن مشيئةَ الله حاضرة، فقط، في الماضي؟ بالطبع، لا، ثم لا، ولا شيءَ غير لا. مشيئة الله لا بداية لها ولا نهايةَ لها، كوجوده المستقل عن الزمان والمكان.

إذن، "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" فعلٌ مستمر في الزمان والمكان وسيبقى مستمرا إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. والدليل على ذلك أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يقول في قرآنه الكريم : "...وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء، 85). ويقول كذلك، عزَّ وجلَّ : "...وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ... (البقرة، 255).

الآية الأولى تبيِّن أن ما أوتِيَ به الإنسانُ من علمٍ، قليلٌ، بالمقارنة مع علمِ الله، الذي يشمل الكونَ كلَّه. والكون، أي السماوات والأرض، شاسع الأطراف. وفي هذا الصدد، قدَّر علماء الفلك les astronomes عددَ المجرات galaxies بما يزيد عن 2000 مليار مجرة. وكل مجرة تضم ملايير النجوم. بل إن المعطيات العلمية الحالية، تُبيِّن بأن هذا الكون يتوسَّع باستمرار. بل إن علماء الفلك يكتشفون، بانتظام، مجراتٍ galaxies ونجوما étoiles وكواكبَ planètes جديدة. فما معنى أن يتوسَّعَ الكون باستمرار وأن تتمَّ كل هذه الاكتشافات المتتالية؟

معناه أن معرفةَ الإنسان للكون تزداد، يوما بعد يوم، تضاؤلا، علما أن مَن خَلَقَ الكونَ هو الذي يعرفه معرفةً دقيقةً. وهذا التَّضاؤل يؤكِّد ما جاء في الآيتين المشار إليهما أعلاه، رقم 85 من سورة الإسراء ورقم 255 من سورة البقرة.

وهذا يعني أنه، مهما توسَّع الإنسان في العلوم الدنيوية، فمعارفُه عن الكون، بما في ذلك الأرض، تبقى محدودة بالمقارنة مع علم الله، سبحانه وتعالى. ومع ذلك ورغم محدودية معارفه، فإن الإنسانَ العاقلَ Homo Sapiens قطعَ أشواطا عظيمة في شتى مجالات المعرفة. يكفي أن نُلقِيَ نظرةً من حولنا لنرى كيف انعكس هذا التَّقدُّم الهائل على حياتنا اليومية بجميع مظاهرها. تقدُّمٌ أساسُه ازدهار العلوم الدنيوية و وليدَتِها التكنولوجيا. كل مظهر من مظاهر الحياة اليومية له نصيبٌ وافرٌ من هذا الازدهار ومن هذه التكنولوجيا التي أصبحت مُنتجاتُها مكتسِحةً لجميع الأنشطة البشرية اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، ماليا، صناعيا، فلاحيا، صحيا، تعلميا، زراعيا، عسكريا، فضائيا، مناخيا…

صحيح أن ازدهارَ العلوم الدنيوية و وليدتها التكنولوجيا غيَّر رأسا على عَقِبٍ أو غيَّرَ جذريا الحياةَ بمعناها الواسع داخلَ المجتمعات. لكن يجب أن لا ننسى أن الغايةَ من خَلقِ الإنسان العاقل، هي إعمار الأرض إعمارا فيه منافع للبلاد والعباد. إذن، من المفروض، أن ما عرفته العلوم الدنيوية و وليدتُها التِّكنولوجيا من ازدهار، سيُسخَّر لإعمار الأرض حسب ما بثَّه فيها، سبحانه وتعالى، من قوانين وما رسَمه من حدود حتى يستفيد من منافع هذا الإعمار البلاد والعباد. ومَن سيُوفِّر هذه المنافع للناس؟

بكل بساطة، العقل البشري هو الذي سيُوفِّر هذه المنافع، من خلال ما وصل إليه من ازدهار في مختلف مجالات العلوم الدنيوية وما أفرزته هذه العلومُ من تكنولوجيات.

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا، هو التالي : "هل إعمار الأرض الذي أوصى اللهُ، سبحانه وتعالى، به الإنسانَ العاقلَ، تمَّ حسب ما بثَّه الله، عزَّ وجلَّ، من قوانين وما رسَمه من حدود تُتيح تساكنَ مُكوِّنات هذه الأرض، حية وغير حية؟" أو بعبارةٍ أخرى، "هل ما وصل إليه الإنسان العاقل من ازدهارٍ في مختلف مجالات العلوم الدنيوية وفي مختلف أنواع التكنولوجيات، يتلاءم مع ما بثه الله، سبحانه وتعالى، من قوانين وما رسمه من حدود تُتيح تساكنَ مُكوِّنات الارض، حية وغير حية؟"

قبل الجواب على هذا السؤال، أثير الانتباهَ أن الإنسانَ مُطالبٌ بأن يُعمِّرَ الأرضَ ماديا ومعنويا. "ماديا" تعني أن يُسخِّرَ الإنسانُ ما أسفر عنه ازدهارَ العلوم الدنيوية من نتائج وما أتاحه من تكنولوجيات لخدمة الحياة اليومية. "معنويا" تعني أن الجانبَ المادي للحياة اليومية، يجب أن تدور أطوارُه في مجتمعٍ تطبعُه قيمٌ وأخلاقٌ إنسانيةٌ سامية من خبرٍ واستقامة ونزاهة وصدق وتسامح وعدل واعتدال وهدى وإنصاف وإخلاص وأمانة وتكامل…

وجوابا على السؤال المبيَّن أعلاه، أقول، وبدون تردُّدٍ، أن الإنسانَ لم يُعمِّر الأرضَ حسب ما بثَّه اللهُ فيها من قوانين وما رسمه من حدود. في غالب الأحيان، يستسلم الإنسانُ لأهوائه ولجَشَعِه، فينقلب الإعمار إلى خراب. بل إن ما وصل إليه هذا الإنسانُ من ازدهار في مختلف مجالات العلوم الدنيوية وفي تنويع التكنولوجيات، عوض أن يُستعملَ فقط لإعمار الأرض، في احترام تام لِما بثَّه فيها، سبحانه وتعالى، من قوانين وما رسمه من حدود، أصبح هذا الازدهارُ وسيلةً تُخرِّب البلادَ والعبادَ.

بل أصبح هذا الازدهارُ وسيلةَ طُغيانِ الأقوياء على الضعفاء على مستوى الأفراد والجماعات والدول. وهذا يعني أنه لا مكانَ للقيم وللأخلاق الإنسانية في التَّقدُّم العلمي والتكنولوجي. وعوض أن يُسخَّرَ هذا التَّقدُّم لإعمارٍ للأرض يُسعِد الناسَ، فإنه، كما سبق الذكر، أصبح وسيلةَ طغيان الأقوياء على الضعفاء، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ" (العلق، 6)، أي أن الإنسانَ، عندما يزداد غنًى وعلما، يظن أنه بإمكانه السيطرة على الأرض، إن لم نقل على الكون. وهذا، بالطبع، غرورٌ ما بعده غرور مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "...وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (الحديد، 20). وكل ما خرج عن القوانين التي بثَّها الله، سبحانه وتعالى، في الأرض وما رسمه لها من حدود في الأرض، فهو فساد.

ثم ألم يَنْهَ الناسَ، سبحانه وتعالى، عن الفساد في الأرض حينما يقول : "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ" (الأعراف، 56).

في هذه الآية، الفساد ليس فقط ما هو مرتبط بالدين أو بارتكاب الذنوب والمعاصي. لا، الفساد أشكال وأنواع. الفساد يمكن أن يكون دينيا، اجتماعيا، أخلاقيا، اقتصاديا، صناعيا، ثقافيا، سياسيا، بيئيا…

و في الختام، ما أريد أن أُلِحَّ عليه، هو أن كل أنواع الفساد لها تأثير، بكيفية أو أخرى، على إعمار الأرض. وبعبارة أخرى، الفساد، كيفما كان، ماديا أو معنويا، يُزيغُ إعمارَ عن أهدافه النبيلة المتمثِّلة في احترام ما بثَّه اللهُ، سبحانه وتعالى، من قوانين في الأرض وما رسمه لها من حدود لا يجب، على الإطلاق، تجاوزُها.

ورغم ذلك، فإن اللهَ، سبحانه وتعالى، سيستمرُّ في تعليم الإنسان ما لم يعلم، والإسان سيستمرُّ في طُغيانه، مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (الأنعام، 44).

ما يهمُّني، في هذه الآية، هي عبارة "فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ". بمعنى أن العلوم الدنيوية ستزداد إزدهارا بما في ذلك تنويع التِّكنولوجيات. ومن أهم ما سيتَّصف به هذا الازدهارُ مستقبلا، هو التَّطوُّر الذي سيعرفه الذكاء الاصطناعي intelligence artificielle. غير أنه، كلما ازدهرت العلوم الدنيوية، كلما ازداد غرورُ الإنسان وكلما ازداد طُغيانُه.

لكن هذا الكون، بما في ذلك الأرض، له حارسٌ يرعاه ويصونه، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "...وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (البقرة، 255). "وَلَا يَئُودُهُ" تعني : ليس بعسيرٍ عليه حفظُهما.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى