أنور عبدالملك - فى أصول مصر المستقبل..

المتابع لتجليات سياسة مصر الخارجيةمنذ مطلع هذا العام لا يكاد يلحظ أن مسألة موقعنا وموقع سياستنا الخارجية، منالتاريخ، وارد على الأذهان ـ رغم يقين العقلاء أن تولى الدكتور نبيل العربى شئونوزارة الخارجية يفتح الطريق أمام عودة هذه المؤسسة لمكانتها الريادية.

ومن هنا كان لزاما علينا أن نطرحعددا من المداخل على ساحة دراسة تحركنا العالمى المستقبلى.

أولا ـ أخيرا أدرك المسئولون أهميةالنيل الحياتية بالنسبة لبقاء الوطن وحياة المصريين. واللافت حقيقة أن العباراتالتقليدية مازالت تسود فى مجال تعريف مكانة مصر من العالم. مازال الحديث الرسمىيكرر «أن مصر جزء من الأمة العربية». ومعنى هذا أن الدائرة لها الأهمية الأولىوالقصوى بالنسبة لمصر كما تعبر عنها الوثائق الرسمية القائمة. وقد لاحظ الناس أنشباب مصر خلال الأيام الأولى بعد انتفاضته الكبرى يوم 25 يناير كان يؤكد المكانةالحضارية لمصر، وهو الأمر الذى لا تذكره الوثائق الرسمية إلا نادرا فى بعضالمناسبات. ثم تراجع هذا الإعلان عن البعد التاريخى المركزى، وبدأ التركيز على الانتماءالدينى وما يترتب عليه من أولويات فى حياتنا القومية.

وفى هذا الجو تساءلت: كيف يكون الأمرلو دققنا التعبير بوصف انتماء مصر عبر امتداد تاريخها السبع ألفى بقولنا مثلا:«الأمة المصرية وريثة حضارتها السبع ألفي الشامخة على تنوع عصورها، وهى قلب العالمالعربى والشرق الأوسط، وذلك فى إطار دائرة الشرق الحضارى الكبرى». وأيا كان الأمر،فهذا التعريف معروض على العاملين فى مجال تحديد شخصية مصر فى الوثائق الرسمية التىيجب أن تتجه إلى المستقبل.

ثانيا ـ أن هذا المنهج الفكرى العلمىالدقيق لتحديد شخصيتنا الوطنية يستبعد بطبيعة الأمر حصر اهتمام مصر الخارجى فيما يدورعلى حدودنا الجنوبية والشرقية، رغم أن الاهتمام بما يدور على حدودنا الجنوبية يمثلإضافة محمودة إلى حصر اهتمام مصر للعالم الخارجى على أنه الدائرة العربية علىحدودنا الشمالية الشرقية فحسب.

الجديد المحمود فى ذكر بعد «الجنوب»يكمن فى أن الجنوب لم يعد كما كان منذ ثورة 1919، أى وحدة وادى النيل. ذلك أن«الجنوب»، فجأة، أحتل مكانة التهديد الحياتى، بعد أن اتفقت دول حوض منابع النيلعلى مراجعة الاتفاقيات الدولية بهدف تنمية اقتصاديتها الوطنية مما يهدد نصيب مصروالسودان.

الغريب والمدهش فى هذا المقام أنالاهتمام الرسمى إلى الآن يلف ويدور حول الاعتراف بأن الدولة التى تمسك بمفاتيحترتيب أمور مياه النيل على النحو الجديد إنما هى: إثيوبيا. يذهب البعض إلى اتهامإثيوبيا فى عجالة أنها تمثل الخطر التى يهدد أمن مصر المائى. وكان المتوقع أنأصحاب هذه الرؤية يركزون جهودهم فى التفاوض مع هذا الند الذى يكررون اسمه يوما بعديوم ـ وهو المنهج المعترف به فى العلاقات الدولية، مادام أن التفاوض مع القطبالمخالف يمثل أول الواجبات ـ هذا لو أردنا إيجاد حل توفيقى يقبله الطرفان. والغريبوالمدهش أن أصحاب الشأن ركزوا سنوات على التعامل مع دولة إرتيريا وكأنها صاحبةالشأن فى هذا الموضوع.

يتساءل العقلاء: من أين الإصرار علىالاندفاع للتعامل مع إريتريا، بينما منابع النيل الأزرق تقع فى أثيوبيا؟ هذا بينمارأينا المسئولين فى أثيوبيا يعرضون علينا الآن أن تشارك مصر مع أثيوبيا فى تخطيطوتنفيذ السد الكبير على النيل الأزرق، وذلك ضمانا لتوزيع عادل مرتقب لمياه النيلبين دولة المنبع ودولة المصب.

أستسمح القارئ فى فتح ملف الذكريات.من ذكريات الطفولة أن شقيق والدتى، الأستاذ وديع زكى «الذى أصبح فيما بعد أصغرأعضاء مستشارى مجلس الدولة سنا»، تم تعيينه من قبل حكومتنا مستشارا قانونيا لجلالةالملك هايلى سلاسى عام 1929 وذلك للعمل على صياغة دستور دولة الحبشة المستقلة«أثيوبيا الآن».

وقد عاد إلينا خالى وديع زكى بعدسنوات محملا بالأوسمة والهدايا والذكريات مما كان له أثر كبير على خيال أطفالالأسرة الذين راحوا يجمعون بين رحلة الفراعنة إلى بلاد بونت «أى الحبشة» فى القدموحكايات ملكة سابا حتى الإمبراطور هايلى سلاسى، صديق مصر فى القرن العشرين. وكانهذا الرجل صديقا لمصر أيام النظام الملكى وكذا بعد ثورة يوليو عندما توطدتالعلاقات المصرية ـ الأثيوبية بفضل توجه الرئيس جمال عبد الناصر إلى الدائرةالأفريقية. وهنا يجدر بنا أن نتساءل: أفليس من الواجب إشراك السيد محمد فائق،الوزير المسئول عن التوجه الأفريقى لمصر فى عهد جمال عبدالناصر، وكذا الدكتور حلمىشعراوى، رئيس «مركز الدراسات العربية والافريقية»، صاحب الفضل فى تجديد الاهتمامبالتحرك نحو منابع النيل وأفريقيا؟ أم أننا دائما نبدأ من أول وجديد وكأن مصر،دولة ومجتمعا وشعبا، لا تمثل مسيرة متصلة عبر تقلبات الحياة السياسية؟

ثالثا ـ نتساءل: ما هى علاقتنابمجموعة دول «البريك» BRIC؟ هذه المجموعة تكونت عام 2009 فى روسيا منالبرازيل وروسيا والهند والصين، على أساس أن هذه الدول تمثل أهم مجموعة الدولالطالعة فى عالم الاقتصاد، وقد أعلن جوردون براون، رئيس وزراء بريطانيا السابق عام2009 أن هذا العالم الجديد تفوق على العالم الغربى (أمريكا الشمالية وأوروباالغربية) من حيث الثراء والانتاج لأول مرة منذ أربعة أجيال. وهذه الصين ارتقت إلىالمرتبة الثانية فى سلم الاقتصاد العالمى هذا العام والمنتظر أن تحتل المكانةالأولى قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بين 2020و 2030.

ما علاقتنا بهذا العالم الطالعالجبار؟ وهل يدرك المسئولون وطلائع السياسة والفكر أن هذا العالم يستطيع أن يوفرلنا جميع المواد الغذائية واحتياجاتنا الحياتية، وان يستوعب ملايين من الفلاحينوالعمال المصريين المهاجرين «فى البرازيل مثلا» ويستطيع أن يطور القاعدةالتكنولوجية والعلمية والصناعية المصرية إلى أرفع مستوى؟ هذا وبالإضافة إلى أنقطاع الصناعات العسكرية يستطيع أن يلبى كل ما نتصوره من إحتياجات فى أرقى مستوىوأكمل صورة، لو احتاجنا إلى ذلك أو رأينا ذلك. حديثنا اليوم مجرد مدخل إلى محاورتحرك مصر فى مرحلة صياغة العالم الجديد، يدا فى يد مع القوى الجبارة الطالعة بدلامن مواصلة التبعية والجمود وكأن الماضى يتحكم فى المستقبل.

- قال صاحبى «يعنى أية سؤال»: ماهىالساعة يا محمدين؟ «يقودنا إلى إدراك أن الساعة تدور تدور، وأن الفجر يمكن أن يطلععلينا أيضا ـ لو خرجنا من صومعة التبعية والركود. نعم: الفجر يمكن أن يطلع علينا،لو تحركنا»!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى