كامل كيلاني - السيد جحا الحالم اليقظان

1 - ترجح الأضداد

يقول ابن زيدون:

(يا هل أتى من ظن بي، فظنونه ... شتى ترجح بينها الأضداد)

وما أكثر ما تترجح الأضداد في الحياة، فيصعب تمييزها وتشتبه على الألمعي البارع، حتى ليصرخ شاعرنا (أبو العلاء) متبرماً بعجز الإنسان عن تعرف الصادق من الكاذب، والجاد من الهازل والغافل من المتغافل، والهادي من الهاذي فيقول:

(يكفي عناء من الدنيا ومنقصة ... ألا يبين الهادي من الهاذي)

وقلما رأينا خلة محمودة، أو ميزة فريدة مشهودة، إلا رأينا ضدها من الخلال، شديد القرب والشبه بها، وثيق الاتصال.

وكثيراً ما تشتبه على أذكى الباحثين سمات العبقرية بالجنون، والشجاعة بالتهور، والاقتصاد بالبخل، والإبداع بالسخف، والتسامح بالعجز، والتغابي بالغباء، والتباله بالبله.

وقديماً قال ابن المقفع:

(وما من خلة هي في الغنى مدح إلا وهي في الفقر ذم)

وقال الشاعر:

(وسورة علم لم تسدد فأصبحت ... وما يتمارى أنها سورة الجهل)

2 - قصة الحكم الثاني

وما أكثر ما تجلو لنا ملابسات القول وبواعثه ما يقلب المعنى الذي يتبادر إلينا رأساً على عقب.

وكيف تحكم على إنسان يسمع بهزيمة جيشه فلا يتحرك، وينادي خادمه ليأتيه بالعطر يتطيب به قبل أن يقتحم عليه الثوار قصره ويقتلوه.

لا شك في أنها غفلة بلغت المدى.

أو شجاعة لا تعبأ بالردى.

فإذا تجلت لنا ظروف القصة، وعلمنا أن صاحب القصة هو الحكم الثاني الذي وهب حياته لتشجيع العلم والعلماء. وعلمنا كيف تألب عليه الحساد وحرضوا عليه سواد العامة، بعد أن اتهموه بالمروق من الدين، فاقتحموا عليه قصره بعد أن هزموا حرسه، وكادوا يفتكون به فلم يجد وسيلة يعبر بها عن احتقاره لخصومه وتساميه إلا أن ينادي خادمه قائلا:

(عليّ بالغالية يا غلام)

وهنا تشتد دهشة الخادم فيقول:

(عجباً أهذا وقت الغالية يا أمير المؤمنين؟)

فيجيبه الحكم الثاني ساخراً:

(ويلك بما يُعرف رأسي من رؤوس العامة إذا قطع، إن لم يكن مضخماً بالغالية؟)

رأينا حينئذ في هذا الرد الساخر، أبلغ تحقير لخصومه، وأفتك إزراء بأعدئه الثائرين المتوثبين للإيقاع به.

3 - بين الأمين وكوثر

ولعل قريباً من هذا الباب قول الأمين لمن بلغه نبأ اندحار جيشه: (ويلك، لقد اصطاد كوثر سمكتين وأنا لم أصطد إلا سمكة واحدة) وقريب من هذا قول الساخر الذي سئل عما يطلب قبل أن يصلب بلحظات يسيرة:

(لا أطلب غير الماء)

فلما سئل: (ألا تفضل الجعة؟)

أجاب: (كلا فقد أخبرني الطبيب أنها تسبب لشاربها مرض الزلال).

4 - كيسان النحوي

من بدائع الجاحظ وطريف دعاباته، ذلكم التندر الكاريكاتوري البارع الذي رسّم به أعجب نموذج للذاهل الحالم وألصقه بكيسان النحوي فنعته: (بأنه يسمع غير ما يقال له، ويكتب غير ما سمع، ويقرأ غير ماكتب، ويفهم غير ما قرأ).

وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:

(تقول له: زيد، فيكتب خالداً ... ويقرؤه عمراً، ويفهمه بكراً) وهي غفلة يكاد يتسم بها كل مفكر عميق، إذا حصر ذهنه في فكرة بعينها.

5 - غفلة نيوتن

ولعل أكثركم يعرف قصة نيوتن الذي هدته دقة الملاحظة إلى تعرف الجاذبية، وكيف أراد أن يلقي بيضة في الماء الغالي ويمسك بساعته عشر دقائق حتى تنضج وكيف نظر - بعد قليل - فرأى أنه يمسك البيضة في يده، أما الساعة فقد ألقى بها في الماء مترقباً نضجها وشيهاً.

6 - بين وزيرين

ولعل بعضكم يذكر قصة الوزيرين العباسيين حين التقى مركباهما في نهر دجلة، فأراد أحدهما أن يلقي إلى صاحبه بتفاحة، وما كاد يهم بذلك حتى شعر بحاجة مفاجئة إلى البصق في النهر.

فماذا صنع؟

ألقى بالتفاحة في النهر، وبصق في وجه صاحبه.

وحاول أن يعتذر عن سوء فعله فقال: (غلطنا) فأجابه الآخر: (ثُلطنا) (أي: لحقنا العار ولطخنا).

7 - ضلال المتسرعين

وإنما لجئنا إلى هذه المقدمات لننبه إلى أن كثيراً من الطرائف والدعابات الجحوية قد حملت على غير محملها وفهمت على غير وجهها فتوهم بعض المتسرعين من سامعيها أو قارئيها أن صاحبها أبله أو مخبول.

وما هو - على الحقيقة - بأبله ولا مخبول، ولكنه ساحر يتلعب بالعقول.

ومن هنا وجب على الباحث أن يجلو الظروف والبيئة، ويوضح الملابسات، حتى يأمن الناقد من الحيف والجور، وينجو من التسرع والخطأ فيما يرتجله من أحكام بعيدة في الغالب عن الصواب.

8 - سفينة السلام

وكيف نحكم إذا سمعنا أن رجلاً رأى مركبه تعنف به العواصف، وتشتد فتتقاذفه الأمواج الثائرة، ولا يلبث أن تتمزق أشرعته، فينهمك ملاحوه في إصلاحها. فيصيح بهم هذا الرجل:

علام تتكبدون عناء الصعود إلى أعلى السفينة؟ إنها لا تهتز من أعلى بل من أسفل. فما بالكم لا تربطون أسفلها بقاع البحر حتى تأمنوا اهتزازها؟

لاشك في أننا نحسبه معتوها إذا لم ننظر إليه على ضوء ما أسلفناه. ومن يدري؟ فلعلنا إذا رأينا ما يصنعه قادة العالم لإنقاذ سفينة السلام التي تتقاذفها الأنواء وتمزق العواصف أشرعتها، ورأينا كيف تشغلهم أسافل الأمور عن أعاليها، فيقترحون ربط السفينة من أسفل، بدلا من العناية بإصلاح أشرعتها العليا. عذرنا جحا فيما رآه.

9 - جواب الحانق

ونحن إذا سمعنا أن رجلاً كان يملأ جرته من النهر، فأفلتت الجرة من يده، فجلس يترقب خروجها من الماء، حكمنا عليه بالبله، كما حكم بعض الناس على صاحبنا جحا.

ولكننا حين نتمثله وهو محنق مغتاظ لسقوط الجرة وضياعها وإنه لفي دهشته وحيرته وهو مسترسل في غيظه وغظبته، وإذا بثقيل يقطع عليه تفكيره ويزعجه بسؤاله:

(عم تبحث يا أستاذ؟)

فلا يرى متنفساً لغيظه في غير التهكم والسخرية بذلكم الفضولي فيقول:

(لقد أفلتت الجرة من يدي إلى قاع النهر فجلست أترقب عودتها إلي، ومتى عادت أمسكت بها من أذنها وفمها حتى لا تعاود السقوط مرة أخرى.

(البقية في العدد القادم)

كامل الكيلاني



مجلة الرسالة - العدد 671
بتاريخ: 13 - 05 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى