محمد بقوح - سيرة الوقت..

التاريخ: مارس 1984 من الزمن المغربي الحديث. الليل بارد جدا. محيطنا، رغم كونه يطغى عليه الطابع الجبلي، محشو حتى أذنيه بحقول معشوشبة خضراء، وغابة ظليلة واسعة، تتخللها سواقي المياه العذبة الجارية. شجر الموز المثمر منتشر بكثرة في كل مكان. طيور تمرح عبر أغصان الشجر العالي، وعصافير تزقزق، ضفادع تنق، فراشات ترفرف. عالم غارق في بدائيته البرية بامتياز. جنة في أرض إداوتنان.
تجاوز الوقت الثامنة بقليل. بعد الانتهاء من تناول العشاء الذي كان عبارة عن آخر ما تبقى من مدخراتنا الغذائية للرحلة: معلبات سمك السردين وتون سيفيانا المحشو طبعا داخل الخبز الجاف، اقترحت على رفاقي الأربعة، وعلامات البهجة تلوح على محياهم، ونحن جميعا داخل خيمتنا "الكندية" الصغيرة، لمَ لا نغادر المكان في نفس ليلتنا ؟ بمَ أن رحلتنا انتهت بسلام، وكان من المفترض أن نغادر غدا..!؟ تلقى الإخوة اقتراحي باستحسان كبير وبإيجابية واضحة. فبدأنا عملية جمع خيمتنا و لمّ أدواتنا وأشياءنا. ثم انطلقنا في رحلة العودة الجديدة، لكن هذه المرة بنفَس الحركة وحيوية المغامرة والليل وبيداء جبال إداوتنان. ونحن كلنا متحمسون، نشعر في داخلنا بامتلاء قوة الشباب. لم يكن معدل أعمارنا يتجاوز 21 سنة. كنا جميعا ندرس في سلك الثانوي، ربما أذكر أننا كنا في سنة البكالوريا. لهذا، بعد قضاء أسبوعين تقريبا في المكان الغابوي الموحش، بطبيعته الخلابة، وموقعه الرائع بين الصخور والأشجار والمياه المتدفقة.. نقرأ وندرس ونحضر جماعة للامتحان الاشهادي الذي ينتظرنا..، وفي نفس الوقت نستمتع بالحياة الطبيعية والجبلية المحيطة بنا..، كان لابد أن نغادر. كانت فكرة ترك هذه الجنة الأرضية كما سماها حسن، فكرة لا تقل روعة من الواقع نفسه الذي نحن فيه. ربما هو حلم في واقع. وبالتالي، فتجنب صدمة الذات جعلنا نختار ترك هذا المكان ليلا. هي ردة فعل للاشعور. كانت رحلة العودة إلى ديارنا مشيا على الأقدام، وفي فضاء المنعرجات والمسالك الوعرة لجبال إداوتنان، والليل البارد الدامس كان رفيقنا الخامس في لعبة رحلة هذه المغامرة المميزة. لكن كانت رحلة، خاطرنا فيها حقيقة بحياتنا. هذا تصريح لرجل التقينا به في إحدى دواوير المنطقة بعد عملية مشي دامت 3 ساعات. وأضاف الرجل "كنتم محظوظون لعدم تواجدكم في طريق الحلّوف". ههه.. يعني الخنزير البري.. الحلّوف مع قوة الشباب فأر بغيض بالنسبة لنا آنذاك. هكذا أفكر الآن.
كنا مثقلون بالحقائب الظهرية الكبيرة. سلاحنا الوحيد في الرحلة هو المصابيح اليدوية والهراوات الغليضة للاحتياط. كنا في بدء الرحلة نشيطين، فرحين، سعداء بكل ما تحمل الكلمة من معنى. نغني ونرقص ونردد بعض أغاني ناس الغيوان، و المشاهب، وأناشيد حماسية شبابية تزيدنا قوة التحمل. زعيمنا فيها هو الرفيق حسن، بحكم تجربته في مجال الكشفية. يقول، ونردد وراءه ما يقول بنفس رنة الإيقاع. غير أنه بعد مرور الوقت بدأت تخفت هذه الأجواء الجميلة الحماسية المرحة، بسبب التعب، وربما بسبب شيء آخر أخذ يتسلل إلى نفوسنا المرهفة. لم نعد أحرارا أقوياء كما كنا وكما انطلقنا. وربما قد يكون بسبب الخوف من التيه والضياع الذي بدأت معانيه تصل إلى إدراكنا. كنا نمشي في الجبال بدون بوصلة. نعتمد فقط على معطيات خريطة ممزقة الأطراف قديمة كانت مع الرفيق الحسين. وازدادت الطامة اتساعا و عمقا حين واجهتنا في إحدى الطرق والمنعرجات كلاب كبيرة و كثيرة. سرب من الكلاب الضالة. لم نكن نملك طبعا سوى هراواتنا والعصي التي نحملها. سلاح يدوي كان له دوره المناسب في الوقت المناسب. ربما لو لم نكن مسلحين بتلك العصى والهراوات لكنا الآن من فصيلة الموتى. كانت كلابا شرسة وعنيفة. كان نباحها يمزق صمت ليل المكان الموحش. حين ضربنا بعصينا بعض قادتها المتزعمين لها، وتغيرت نبرة النباح لتصبح أنينا متتاليا، فر الجميع، فكسبنا معركتنا الأولى مع الكلاب الضالة. جلسنا نسترجع قوتنا وأنفاسنا. قد يكون الوقت فجرا. لأن صوت مؤذن كان يصلني من بعيد. بعد ذلك لاحظت في جانبي الأيسر، بعض الحفر المستطيلة الشكل. اقترح علينا الرفيق عبد القادر أن نستريح، وننام قليلا داخل تلك الحفر. خاصة، أننا بدلنا جهدا كبيرا في الوصول إلى الهنا..، وطرد الكلاب من محيطنا أخيرا. إضافة إلى أننا بدأنا نشعر بقر البرد الذي يسبق النهار الموالي. فدخل، بل ارتمى كل منا داخل حفرته منكمشا فيها، ولم نكن ندري حينئذ أننا اخترنا قبورا في الهواء الطلق لننام فيها حتى الصباح..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى