جلال أمين يوصينا باستعادة جورج أورويل

لم يكن المفكر الراحل جلال أمين (1935 – 25 سبتمبر/أيلول 2018) مجرد باحث في علم الاجتماع الاقتصادي، بل كان مثقفا موسوعيا ملتزما، مهموما بالناس وقضاياهم، لذلك وصلت كتبه الأربعون إلى القارىء العام الذي قصده الراحل في كل ما كتب، منبها إياه أن ظواهر الأمور غير بواطنها، فكشف بكتابه "ماذا حدث للمصريين" تحولات وتشوهات الشخصية المصرية في الربع الأخير من القرن العشرين، وبنفس المنهج تناول العولمة مبينا أنها لا تعني إلا الهيمنة، كما كشف النقاب عن "خرافة التقدم" وأبان حقيقة "التنوير الزائف"، وهو في آخر كتبه "تجديد جورج أورويل .. أو ماذا حدث للعالم منذ 1950"، الصادر مؤخرا عن دار الكرمة بالقاهرة ، يؤكد على نفس الدرس من خلال استعادته لسيرة وفكر صاحب مزرعة الحيوانات.
وأوضح هدفه من الدعوة إلى تجديد جورج أورويل بأنه "تتبع ما جدَّ من تطورات في طبقة الممسكين بالسلطة الذين يمارسون القهر في العالم، والأسباب التي أدت إلى هذه التطورات، ونوع الرسائل التي يرسلها أصحاب السلطة الجُدد إلى الناس من قبيل غسيل المخ ، فإن ما طرأ من تطور لا يقتصر على أساليب الكذب، بل يطال أيضًا مضمون الكلام الكاذب، كما يظهر كيف أن القهر النفسي، بإثارة الشهوات والرغبات التي يَصُعب أو يستحيل إشباعها، حلّ محل الحرمان من الأجر العادل والتعذيب المادي، وكيف تغيّرت، تبعًا لذلك طبيعة شعور المرء بالاغتراب، وما ضاع منه وما تبقى له من وسائل لمقاومة الأنواع المختلفة من القهر".
ظواهر وبواطن
تعامل أغلب قراء جورج أورويل مع روايته “1984” على أنها مساهمة منه في الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وحجتهم أنه كتبها عند اندلاع تلك المواجهة في عامي 1948 و1949، لكن البعض قرأها هي ومجمل كتابات أورويل على نحو آخر، فأورويل الذي كان متعاطفا بطريقته مع الاشتراكية لن ينشر كتابا ينتصر لخصمها اللدود في الحرب الباردة، ورأوا أن الكتاب في الأساس يقدم تصويرا لما يتعرض له الفرد من قهر فى العصر التكنولوجى الحديث، وأعلن رفضه لهذا القهر، سواء مارسه نظام شيوعي أو نظام ليبرالي، وكما قال المفكر الراحل دكتور جلال أمين في كتابه إن "كراهية أورويل كانت منصبه على نظام – أيا كان لونه الايديولوجي – لا يجد الفرد مهربا من استبعاد التكنولوجيا الحديثة هذه التكنولوجيا الحديثة تتمثل ليس فقط فيما لدى أصحاب السلطة من أسلحة وسجون ومعتقلات بل وما لديها من وسائل التجسس والتنصت وغسيل المخ، وكلها وسائل كانت ولا تزال متاحة للدولة الاشتراكية والدولة الرأسمالية على السواء".
أراد أورويل بالرواية أن يطلق تحذيرا لما قد يحدث في قادم الأيام والسنين – بل ما كان واثقا من أن المستقبل سيأتى به – ما لم ينتبه الناس إلى حقيقة من الأمر قبل فوات الأوان.

رفض سيطرة التكنولوجيا الحديثة على الإنسان
لهذا قام أورويل عندما اختار عنوانا للرواية، أن يقلب الرقم الدال على سنة الكتابة، وكان ذلك في عام 1948، فجعلها 1984، مجرد رقم دال على سنة تبعد بنحو ثلث قرن عن الوقت الذى كان يكتب فيه، لكن هذا الرقم لا قيمة له فى حد ذاته، فأورويل لم يقصد به أكثر من الدلالة على المستقبل.
ويرى جلال أمين أن الخوف الذى كان يسيطر على أورويل لم يكن مجرد هواجس انتابت كاتب ملتزم مهموم بالإنسان وحريته، بل كان نابعا عن إدراك حقيقي لخطر مؤكد قادم، فها نحن بعد مرور سبعين عاما على صدور الرواية لأول مرة، نجد أمثلة في مختلف بلاد العالم أيا كانت الأيديولوجية التي تتبناها، على زيادة تضاؤل الفرد تجاه أصحاب السلطة، نتيجة لزيادة ما بين أصحاب السلطة من وسائل التكنولوجيا الحديثة، وعلى زيادة حجم الأكاذيب التي تقدم للإنسان المعاصر على أنها حقيقة، وتضاؤل قدرته على المقاومة، يوما بعد يوم، ليس فقط قدرته على تحدي أوامر السلطة ومعارضتها، بل على التمييز بين الكذب والصدق فيما يقال له عن طريق وسائل الإعلام، فبطل الرواية يكتب فى مذكراته "إنى أحافظ على التراث الانساني وأحميه ليس بالضرورة عن طريق إسماع صوتي، بل فقط بنجاحى في أن أحتفظ بقواي العقلية"، ويكتب مرة أخرى "إذا ضاعت الذاكرة، والسجلات قد تم تزيينها فما الذي يمكن أن يدحض ادعاء الحزب بأنه قد رفع مستوى المعيشة؟".
هنا يشير جلال أمين أن أورويل بروايته تلك يعلمنا "أن ظواهر الأمور غير بواطنها، وأن ما يقال لنا كثيرا ما يكون عكس الحقيقة بالضبط، علينا فقط أن ننتبه إلى أن الحقيقة تتغير من عصر لعصر، وكذلك مايقال لنا".
رغم اختلاف العصور
كان أورويل يعيش "عصر الدولة القومية" وفيه كانت وسائل القهر شبكات التجسس والمخابرات والسجون وأدوات التعذيب، والقاهر الأعظم هو "الأخ الأكبر"، الذي لا تكف وسائل الإعلام عن ذكر اسمه والتسبيح بحمده، والحروب كانت تشن من دولة أو مجموعة من الدول ضد دولة، وتجري تعبئة الناس للحرب بشعارات الوطنية والولاء للوطن.
أما الآن ونحن نعيش "عصر العولمة" وما شهده من تراجع لسلطة الدولة لصالح الشركات العملاقة متعددة أو متعدية الجنسيات، بعد أن أصبح من الممكن لهذه الشركات ولوسائل الإعلام والاتصالات القفز فوق الحدود الفاصلة بين الدول، مما قوى الشعور بالولاء للشركة على حساب الولاء للدولة، مما يحتم تغيير أسلوب الخطاب المستخدم في غسيل العقول، من استخدام شعارات القومية والولاء للوطن إلى شعار "مكافحة الإرهاب" مثلا.
هكذا تغيرت فكرة الوطن، وغامت صورة العدو، هنا يمكن أن ينسحب الموقف الرافض للديكتاتوريات كلها إلى رفض سيطرة التكنولوجيا الحديثة على الإنسان بدلا من تسخيرها لمنفعته وسعادته، وهي الفكرة التي نادى بها جورج أورويل في روايته غير المنشورة "الصعود لاستنشاق الهواء"، حيث عبر عن شعور الإنسان بفقدان القدرة على تشكيل مصيره، وسيطرة قوة مركزية عليه، لهذا جاء استدعاء أورويل نتيجة انتشار غسل المخ بعد فرض العولمة، أو بشكل أعم الفرد في مواجهة التكنولوجيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى