ماماس أمرير - لوحة الوحدة والحب في فيلم فوطوكوبي

صفية: الموت مِش شر!
الشر إنِك تخسري كل حاجة وإنتِ عايشة: حبايبك، صحتك، والباقي منك كسِتْ!!

الوحدة، مواجهة المرض، التقدم في السن، تعجرف الأبناء حين يصبحون في مركز قوة، فكرة العزلة قبل الموت التي تصبح مطروحة كواقع اجتماعي و فكرة حزينة تجعل الانسان يستسلم لحالة الإنتظار، انتظار أي شيء: الناس، الأبناء، طرق أحدهم على الباب، حتى الموت...ثم هذا العالم الذي يسرق من الإنسان تفاصيله الصغيرة وحاجاته الحميمة ويقتل الطفولة الوجودية بداخله.
بهذا الحزن الشفيف يتطرق فيلم فطوكوبي إلى فكرة معاناة الإنسان مع الوحدة والمرض والتقدم في السن ومواجهة الإيقاع السريع للحياة، الحياة التي يصطدم بها البطل مع كل مشكلة صغيرة تواجهه.... فيلم يعيدنا إلى أفلام السينما الرومانسية الهادئة التي تهتم بالتفاصيل الصغيرة والحميمة وبجمالية الصورة والكلمة.
يجري الفيلم في مساحة لا تتعدى مقطع من أحد شوارع القاهرة الصاخبة، شارع هاديء ورتيب إلا من صراخ رجل العمارة التي يسكنها البطل والبطلة. وبعض اللقطات السريعة والنادرة لشوارع القاهرة
هذا المقطع من الشارع يضم العمارة التي يسكنها البطلان وأيضا دكان محمد فوطوكوبي وأمامها الصيدلية.
لم يكن الفيلم بحاجة لمساحة أكبر.... إنها المساحة التي تمثل عالم البطل والبطلة، لقد استطاع المخرج في هذه المساحة الضيقة بتفاصيل صغيرة وصمت الزمن والاعتناء بالديكور أن يقدم فيلما جميلا لمدة ساعة ونصف

إيقاع الفيلم كان بطيئا يماثل إيقاع حياة الأبطال ومشاعرهما إنه إيقاع رتيب...
المرأة " الست صفية" تعيش في شقة وحيدة ومريضة كل أملها في الحياة أن يهاتفها ابنها الذي يعيش في الخليج، ابن عاق وأناني.... وهي تعيش على هذا الإيقاع بين الذهاب إلى الصيدلية لشراء الدواء وبين انتظار مكالمة من الخليج وخوفها من الموت وحيدة.

*محمد فوطوكوبي وجه طفولي لرجل متقدم في السن يتعامل مع الحياة بسخرية وتهكم وتصالح... ،يكتشف أنه أصبح رجلا نكرة وكبيرا في السن لا ابن، لا زوجة ولا رفيق. لا يملك في هذه الحياة سوى دكانته التي يقضي فيها أغلب وقته وبعض الناس الطيبة التي يتبادل معها إيقاع الحياة. لكن، لديه أفكارا طريفة عن المستقبل، مستقبل رجل تقدم في السن ولديه ذاكرة قوية.
كان يلتقي بجارته يوميا "الست صفية " وكانت مشاعره نحوها تتطور بحميمية خاصة... المرأة التي يتبادل معها القدر والعمر والحديث والمكان. المرأة التي تستنشق مثله الهواء بصعوبة في عالم لا يهتم إلا بنفسه وبثلويت الهواء وإفساد الحياة وتضخيم حالة الغربة عند الإنسان بمزيد من الوحشية والسطحية والتدهور السريع.
يطلب صفية للزواج كحل وجودي للهروب من غربته ووحدته... تقبل صفية عرضه بعد تردد طويل مليء بالاعذار والمخاوف. لكنها في النهاية تعيش وحيدة وبحاجة إلى رفيق حقيقي، بعد أن تخلى عنها ابنها في أول منعطف إنساني لها. وهي تحاول إيجاد الحل لواقعها.
الإضاءة والتصوير كانا رائعين يتناسبان مع إيقاع المشاعر حتى أن آخر مشهد في الفيلم يشبه لوحة فنية بامتياز رسمها رسام من القرن الماضي.
الإضاءة أعطت بعدا خاصا لوجوه الممثلين وكأنها تخرج ما بداخلهم من مشاعر لتجعلها مرئية بوضوح تام . أما الموسيقى فكانت تؤشر للجيل الذي ينتمي إليه البطلان. حتى أنهما ظلا محتفظين بملامح حياتهما القديمة ورفضا تغييرها.
في رأيي الفيلم كان جميلا رغم أنني توقعت الغور في الشخصيتن أكثر من ذلك حيث أن المخرج لم يهتم بالماضي ولا بخلفية التفاصيل حول الشخصيات الرئيسة على الأقل كتواصل حميمي بين البطلين، كنا نشتم الماضي من خلال الموسيقى والديكور وبعض الكلمات حول الماضي وهي قليلة.... هذا أضاف بعض البرودة لملامح الشخصيتين لكن الفيلم كان معنيا فقط بآخر فكرة طرحها رجل اكتشف أنه وحيد !! وبما أن صفية تشبهه في الوحدة والعمر... فقد كانت مرفأه الوحيد ليرسو بعيدا عن نوّ الحياة...
لكن عموما الفيلم حقق فرقا فنيا في السينما المصرية وأعاد لنا ثقتنا بأن السينما الرومانسية ما زالت لها مساحة خاصة بها...وأننا ما زلنا نتوق لهذه النوعية من الاعمال الرومانسية الحالمة.
الممثلان شيرين رضا ومحمود حميمدة أبدعا في تقديم الشخصيات وكل شخصيات الفيلم كان لها دور ا مهما في تصعيد الحدث الدرامي
فيلما هادئا في مكان هاديء وسط عالم صاخب يطحن البشر ولا يتوقف قليلا كي ينظر حوله ليرى الخسائر الإنسانية التي يتركها خلفه، والغربة التي أصبحت تستنزف الإنسان في هذا العالم خصوصا لو تقدم به العمر ... إثارة موضوع الديناصورات في الفيلم لم يضف فنيا للفيلم أي شيء.... في وجهة نظري .

فيلم جميل يستحق التنويه، و كعمل أول لمخرج شاب "تامر عشري" وكاتب شاب"هيثم دبور" فهو حقق شيئا كبيرا وجديرا بالنجاح .
فهل هذه التجربة ستدفع تامر إلى خلق سنيما مصرية بعيدا عن المألوف والمتكرر ؟ وهل سنرى تجارب أخرى أكثر جرأة وعمقا من هذا الفيلم تخوض أكثر في آلام النفس البشرية؟ في الوقت الذي أجهِزَ فيه على حرية السينما المصرية التي تعاني الآن من التقييد والمنع من التطرق لقضايا إنسانية شائكة. وفتح المجال أمام أعمال سطحية ومبتذلة. وهل سيحقق هذا المخرج الشاب الفرق في كل عمل جديد.
ننتظر بشغف!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى