سامي عبد العال - معنى الوديعة السياسية..

أحياناً تتحول الأفكار الاقتصادية( كفكرة الوديعة ) إلى سياسات ماكرةٍ تجاه الإنسان. فهو الضحية التي لا تنال حظاً من الحياة إلاَّ بمقدار ما تتلقى من ضربات قاتلةٍ. كيف لا .. وهذه الأفكار ابتداء هي نتاج لأنظمة تدير الثروات لصالح القوى المتحكمة في سيولتها. فالاقتصاد ليس خارج أيَّة عملية سياسية ولو بَعُدت، إنَّه الظل المباشر لما هو سياسي وقد يمثل الجسد السياسي نفسه. إنَّ العلاقة بين السياسة والاقتصاد ليست علاقة رداء بجسد ولا علاقة وسيلة وغاية، بل هما يلبسان أحدهما الآخر بالتبادل والإحالة. الاقتصاد هو جسد السياسة ونسيجها، والسياسة هي جسد الاقتصاد وحشوته.. لا مبارحة ولا مخالفة ولا مغايرة.​
عبارة ( الوديعة السياسية ) إحدى مفردات خطاب يكشف طبيعة العلاقات بين الدول، وهي وردت بصدد اللاجئين في المشهد الراهن كإشكال سياسي يثير قضايا الحدود. بحيث يكون اللجوء نوعاً من إيداع النفوس(النازحين) لدى دولة بغرض توافر الحماية والرعاية والأحوال الآمنة. وهذه بدورها تسمح لهم بالحياة الكريمة وتتيح الخدمات وتشملهم بحقوق اللجوء الإنساني على هامش الصراعات بمناطق الحروب.​
أصل الوديعة هي إيداع (شيء ثمين) لدى شخص أو جهةٍ ما مقابل الحفظ والامانة. وهي تحمل جانباً إنسانياً بمقدرتنا على بذل الثقة والاعتراف والتسامح ثم الرد إلى اصحابها. وتختبر طاقاتنا على الاحتواء إن لم يكن الامتلاء بعلاقاتنا بالآخر. ويفترض ألا تنقص الوديعة ولا تُضار ولا يقترب منها بمكروه، إنما تظل كما هي أو تصبح قابلة للزيادة والنمو وفقاً لاستثمارها. كما أن لها طابع الزمن المؤقت، فليست الودية طوال الزمن، طابع النسبية هي الذي يجعلنا حريصين عليها طوال الوقت. فحتى الإهمال لا ينبغي أن ينال منها بحال، ولا حتى ممارسة السلطة عليها إزاء ما يصونها ويجعلها قابلة للرد في أي وقت.​
لكن في السياسة تصبح الوديعة (رهينةً) قابلة لمحاولات الابتزاز باسمها. "أردوغان يبتزنا بشكل لا يطاق" حين يهدد بإطلاق اللاجئين تجاه الغرب، هكذا تقول نائبة رئيس البرلمان الألماني "كلاوديا روت"، متحدثةً عن تهديدات الرئيس التركي المتواصلة لأوروبا بفتح الحدود والسماح للاجئين الذين يعيشون في تركيا بالتدفق على أوروبا. هذا القول عملية تعرية للغطاء الشفاف على استعمال اللاجئين لأغراض سياسية بصورة وقحة. وجه الوقاحة أن الإنسان السوري – وإنْ كانت اوروبا مشاركة بأزماته المعاصرة- ليس مادة للابتزاز ولا التربح.​
الابتزاز السياسي وسيلة أقل من أن توصف بالحيوانية للتلاعب بحياة أناس لا يملكون من أرضهم الآمنة سوى ذكريات الوطن. وبأحسن الأحوال هم كائنات محطمة - فوق صخرة الأحداث الفاجعة- تحمل فلول الأحلام التي غادروها ببلدانهم. وأن محاولة الابتزاز من أردوغان لهي اقتصاد سياسي للحروب ومخرجاتها. وليست السلعة هذه المرة خارج طاولة الأرباح والمكاسب، بل إنَّ هؤلاء اللاجئين– بأحلامهم وأوطانهم وأجسادهم- عملات نقدية تطرحها تركيا كورقة للضغط على أوروبا.​
وإزاء إنسانية الإنسان لا تتوقف عملية التعرية حول من يهدد باللاجئين، إنما طرف الصفقة الأخرى وهو الأوروبيون. حيث كانت تركيا والاتحاد الأوروبي قد توصلا في آذار/ مارس 2016 إلى اتفاقية للحد من تدفق اللاجئين عبر السواحل التركية إلى أبواب الاتحاد الأوروبي. وبموجب الاتفاقية، وعدت بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي أنقرة بستة مليارات يورو (6.6 مليار دولار). ورغم أنَّ أردوغان قال بوقت سابق إنَّهم لم يحصلوا سوى على ثلاثة مليارات يورو حتى الآن، لكن أكدت ناتاشا بيرتو المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي قدم 5.6 مليار يورو لتركيا بموجب الاتفاق، وإن "الرصيد المتبقي المقرر سيرسل قريبًا!!".​
وهذا الوعاء الاقتصادي هو حجم الوديعة (بشراً ونقوداً) في لفافة واحدةٍ، بشر هم السياسات الحيوية لإدارة الحروب والصراعات، واقتصاد هو الريع الحربي فيما يأتي لدولة تركيا من نازحين منكوبين. والوديعة من واقع الأرقام تكشف حجم الاتجار بالبشر على أعلى المستويات بعدما اسهمت أطراف الاتفاقية في تأزيم الأوضاع بسوريا، حين تدخلت في الصراع على الأرض، وحين فتحت أوروبا أبوابها لتنظيف ساحتها من الإرهابيين بإرسال الدواعش وأعضاء التنظيمات الأخرى للجهاد هناك. إنها إذن وديعة تطهير وحرق الإرهاب في مناطق خارج القارة الأوروبية على غرار إحراقها للنفايات النووية في أراض أفريقية وأسيوية. المهم أن تتخلص من النفايات القاتلة وإن أدت إلى تلوث البيئة وإن قتلت آلاف البشر في تلك المناطق.​
الأمر نفسه يصح بالنسبة للإرهاب، وهذا يعنى أن الودائع السياسية تتم باقتصاد عولمي يستثمر في الحروب ويحرق البشر لاجئين وغير لاجئين. إن سياسة اللجوء التي يستغلها أردوغان جزء من تلك الخريطة التي تحكم الدول والشعوب المنكوبة. وبخلاف فكرة الوديعة بشروطها الإنسانية إذا صحت، فكل وديعة سياسية تجلب تبعات لا قبل للإنسان المرهون بها، وتمثل عملية تغطية واسعة النطاق لإهدار قيمة الإنسان.​
ورغم أن الاتفاقية( تركيا وأوروبا) أدت إلى تراجع كبير في حركة تدفق المهاجرين، إلاَّ أنَّها تلقت انتقادات واسعة من قبل أحزاب سياسية ومنظمات إنسانية. ويبدو أن الأحداث الأخيرة مع تهديدات أردوغان جعل الاتفاقية اقتصاد مافيا الحروب بالمقام الأول. وكشف هشاشة الصفقة في إمكانية استعمالها كلجام لأبواق المنظمات الحقوقية والقانونية التي تنادي بإخراج اللاجئين من معادلة (الكّرد والترك).​
وهذا المعنى يدلل على عدة أشياء:​
1- اللجوء الإنساني شكلٌّ حديث لعمليات الضيافة التي تعترف بها البشرية على نطاق الثقافة. وأردوغان يعلن من وقت لآخر أن الضيوف( اللاجئين السوريين) غير مرحب بهم إلاَّ بحسب الأحوال والصفقات.​
2- الإنسانية في شخص هؤلاء اللاجئين يجب أن تتجاوز حدود أوروبا والأنظمة السياسية حيث تجد أوروبا أن ذلك الوضع يتعارض مع تراثها التنويري والفكري الذي يعطي أولوية للإنسان الكوني بصرف النظر عن أصوله وهوياته.​
3- اللاجئون ليسوا أوراقاً نقدية وإلاَّ لحولنا شعوباً بأكملها إلى أسواق للنخاسة من أبواب الحروب والصراعات المسلحة. ولأصبح لدينا تاريخاً راهنا حول البيع والشراء في حقوق علينا أخذها بعين الاعتبار لأننا قد نكون في يوم من ضحايا في صورة لاجئين. فالحروب تتمدد وتتسع وليست الشعوب بمنأى عن أوارها.​
4- ظهرت تركيا عضواً مستثمراً بقوة في أسواق الصراعات الإقليمية بسوريا وليبيا والعراق ومصر، ولم تقتصر فقط على اللجوء بل بالأسلحة والصفقات السياسية والتدخل في الخيارات السياسية للشعوب.​
5- أهمية أوروبا ليست في فتح بعض أبوابها للاجئين، بل في نقض وإدانة ما تتسبب فيه من كوارث رغم ما يحدث. فأوروبا تعتبر أن المهجرين جزء من " ذنوب سياسية" ما كان بإمكان الإنسانية الراهنة لتتجنبها بسهولة. وهنا يبدو اللاهوت السياسي يشتغل في الخلفية من التطور الفكري والتقدم الحضاري الحاصلين في الغرب.​
6- تبدو مسؤولية أوروبا تجاه الإنسان أكبر من كونها مساحة في عمر البشرية، فهي تنظر إلى ما اسهمت به في تاريخ الثقافة الإنسانية. وهنا لن يقف أردوغان أمام القيم التي غابت عن أصحابها الأوروبيين أنفسهم. بل سيمثل علامة استفهام اقليمية تسائل التلاعب بالانسان المهجر والتلاعب بمصير الكر وبجغرافيا سوريا.​
و بجانب ذلك تصرح " كلاوديا روت" عبر صحيفة " فيلت" الألمانية: أن إلغاء الاتفاق الأوروبي مع تركيا هو الحل لكي لا تتعرض أوروبا لـ" الابتزاز" من قبل أردوغان، وتوضح: "يجب ألاَّ نسمح أن يتم ابتزازنا من قبل رجل يقول ضمنياً وصراحة: إذا انتقدتموني أو لم ترسلوا لي الأموال، سأرسل الناس لكم عبر البحر!! ... وهذا مثير للشفقة"، مضيفة: "أردوغان يستخدم لاجئي الحرب ويستخدمنا كوديعة سياسية لسياساته المجنونة".​
إن إلغاء الصفقة الاقتصادية هو الحل لسياسات اللجوء، لأن الطرف الآخر على الأرض( تركيا) ينتظر اقتناص الفرص. ورغم أنه لا تبدو ثمة علاقة بين حرب الترك على الكرد وبين اللاجئين مباشرة، إلا أن تركيا تصطاد الكرد بطُعم الودائع السياسية( اللاجئين). لقد اهتبل الترك الفرص لتحقيق مكاسب على كافة الأصعدة وخلط الأوراق للتعمية على الأحداث، وذلك في مواجهة قيم إنسانية تحول دون تدمير الكرد وتشريدهم من جديد.​
ولأول وهلة تتحدث نائبة رئيس البرلمان الألماني روت بلسان غير أفلاطوني – حيث كان أفلاطون طارداً للغرباء من غير اليونانيين- مشيرة إلى أن ردود أفعال أردوغان لا تنتمي إلى لغة العصر ولا تتوافق مع تراث التنوير. ولكن أفلاطون الراهن ليس ألمانياً ولا فرنسياً وبالتبعية ليس أوروبياً إلاَّ داخل القارة العجوز فقط. فهو يعيد إلينا لغة الشفقة والاعتراف ما بعد الحداثية إلى دائرة السياسة مع تطورات حقوق الإنسان وإلحاحها. ومن وراء حجاب سيكون الابتزاز هو الذي يمس أوتاراً حساسة للقارة الأوروبية ( إذ يجب ألا تكون الساحة التركية مفتوحة للابتزاز!!). هكذا ما يؤلم نائبة البرلمان الألماني( مركزية الثقافة الأوروبية ) ألاَّ تتعرض للابتزاز. ومن يكون هذا المبتز متى كانت أوروبا هي أوروبا الإنسان الأبيض وصاحبت الصولات والجولات الحضارية والحربية بطول العالم وعرضه؟!!​
وللاحتفاظ ببقايا الإنسانية، ترى " روت" أيضاً أن إلغاء اتفاقية اللاجئين مع تركيا لا يعني أن تتخلى أوروبا عن اللاجئين هناك، وتشرح: " تركيا استقبلت عدداً من اللاجئين أكبر بكثير من جميع الدول الأوروبية مجتمعة، ولذلك من الصواب أن تدعم أوروبا اللاجئين فيها مادياً من أجل الرعاية الإنسانية والسكن"، وتتابع: "لكن هذا لا يتطلب وجود اتفاقية بشأن اللاجئين مخالفة لقانون اللجوء".​
وكأن كل المشكلة وجود الاتفاقيات المخالفة لقوانين اللجوء دون أن تسأل من السبب وراء إهدار الاوطان؟ ومن المجرم ( المحلي والإقليمي والدولي) وراء الأحداث ومن سمح بنشوب الحروب الأهلية طويلة الأمد لمجرد مطالب شعبية – أثناء الربيع العربي- بحياة كريمة؟​
نقاش أوروبا مع أردوغان لم يتم على مستويات حربية فقط بل حقوقية وقانونية. بينما المشكلة كلها على الصعيد الحربي الذي تدخلت فيه قوى دولية باحثة عن مصالحها بما فيها المصالح الأوروبية وقواها. ولذلك إذا كان اللاجئون ودائع سياسية بالمعنى السابق، فإنهم بالمنطقة الآمنة التي يتحدث عنها أردوغان سيعتبرون( رهائن سياسيون). وهذا هو العنوان الفعلي للمنطقة الآمنة التي يعتزم السلطان العثماني تدشينها.​
ما يكشف ذلك أنهم سيكونون موالين للترك كما أنهم هم الحزام الآمن الجديد الذي يحون دون التئام نسيج الكرد وكسر شوكتهم. كما أنه حزام يمثل خنجر ديموجرافي في كتف سوريا بالأعلى. فالرهينة هذه المرة ستكون مناطق قلقلة وعداء لا نهاية لهما. فالوضع مشيد على دماء وقتل وتجريف لأنثروبولوجيا الكرد. وسيحي عاجلاً أو آجلاً نعرات طائفية وصراع أقليات واثنيات قومية وعرقية.​
تأكيداً لذلك عرفت الاحزاب اليمينية الأوروبية شكل الرهينة السياسية بشمال سوريا، مؤكدين على ضرورة إنشاء المنطقة الآمنة هنالك. فقد دعا مسؤولون في الحزب المسيحي الديمقراطي (حزب المستشارة ميركل) إلى إنشاء (منطقة آمنة دولية) في الشمال السوري. وأكدت زعيمة الحزب، ووزيرة الدفاع الألمانية، أنغريت كرامب- كارينباور، أن "استقرار المنطقة سيسمح بإعادة إعمارها ما سيتيح للاجئين بالعودة الطوعية إليها". كما أشار روديريش كيزه فيتر، خبير الشؤون الخارجية في الحزب، إلى ضرورة إرسال طواقم طبية وعمال إغاثة وخبراء إعادة الإعمار إلى المنطقة.​
لكن هذه الدعوات يراها البعض الآخر محاولة لتجنب تهديدات أردوغان، إذ قال خبير الشؤون الخارجية في حزب الخضر، أوميد نوريبور، إن تصريحات كرامب- كارينباور الأخيرة حول المنطقة الآمنة "تثبّت الانطباع بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإمكانه ابتزاز ألمانيا عبر التهديد بفتح الباب أمام المهاجرين لأوروبا"، وأضاف: "الخوف من اللاجئين يحجب رؤية الواقع لدى البعض في الحزب المسيحي الديمقراطي".​
ومن جهته اعتبر رئيس المجموعة البرلمانية لحزب الخضر، أنتون هوفرايتر، أن دعوة زعيمة الحزب الديمقراطي المسيحي لإنشاء منطقة حماية دولية "مناورة تضليل بحتة"، مشيراً إلى أن كرامب- كارينباور " لا تستطيع أن توضح بشكل واقعي كيف يمكن تطبيق ذلك، لا دبلوماسياً ولا سياسياً ولا مادياً".​
إنَّ سؤال اللجوء جعل من أوروبا قاطرة حربية تدهس أي بشر يقابلها. ولا سيما أن النقاش حول الإنسان يدفعنا للتفكير كثيراً في مشاهد الكرد، فماذا عن المهجرين الجدد (نتيجة الحرب القائمة) في أراضيهم كما يرشح أردوغان والأحزاب اليمينية الأوروبية. وإنْ كانت الودائع الإنسانية (اللاجئين) لها ما يقابلها من أموال وأراض، فإنما لا تحظى بحقوقها التي قررتها الاتفاقيات الدولية والحقوقية بالأمم المتحدة والمفوضات الأوروبية الحرة. وهذا ما جعل أيّ اتفاق مرحلي بين بروكسل وانقرة كما رأينا مجرد صفقة تجارية تتعامل مع الإنسان كطوفان بشري ممقوت وروثاً سياسياً يجب التخلص منه في مناطق إنتاجه قبل أنْ يصل إلى أوروبا.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى