ياسين طه حافظ - عن منامات ابن سيا..

بين لاه في القراءة ومتصفح، وجدتني أتخذ سمة الجد وأقرأ متفحصاً ما يرتسم من تعابير وما يشار له من افكار، ولعل أول ما استهواني في الكتاب هذا النمط الكتابي الذي نجده في الحكايات الشعبية والحكي اليومي

بلطفه ولذعه ولمسات الواقع الحي فيه، فنحن في "منامات ابن سيا" نجد السخرية المرة المكسورة بمزحة عراقية، ونجد هجاء كما نجد تأملاً ومحنة تنحسر لتحل مكانها محنة أخرى، بقي ان نسأل: كيف نرقي بمضمون كهذا، إلى الفن والفكر والأدب الأرقى؟

الكاتب الشاعر ذو قدرة واضحة بل متفوقة على التعبير، فاللغة رهن يده والموضوعات التي تختلط فيها الأفكار والدنيويات العابرة كثيرة لديه ولا يحس بفقر إلى مثلها، بل تحت يديه مالا يتيسر وقت لتناوله.

فالمنامة الأولى مهدت لما هو اكبر، لموضوع كبير أو موضوعات جادة، ما فارقتها السخرية وما فارق السخرية النفاذ إلى الواقع الاجتماعي المدان، لكن بدلا من ان نتقدم إلى فعل أدبي حقيقي سرعان ما تسحبنا الشعبية إلى أسفل فبداية "قرقوري" بائع الشاي مفتتح لعمل عظيم لكن المحلية، الطرافة في المحلية، أصرت على النزول إلى مذاقات الهجاء والاستظراف، فبدلاً من الأفق الواسع في الثقافة والفكر وعذابات الإنسان ومحنته في العيش، يأخذنا الحديث إلى النظام اللاحق وعدم توجيه الدعوة لأديب يرى نفسه جديراً بها الخ...هذه الصغائر التي يكبر عليها المبدع الكبير صاحب القضية او الهم الفكري، ومما يؤكد أحقيتي في هذه الملحوظة هو اني أرى المؤلف في عموم الكتاب رجلا ذا افق واسع ويتمتع بمؤهلات الكتابة الأبعد عمقاً انه أوسع افقاً، مما شغل نفسه فيه من نواقصنا اليومية وهي نواقص مزمنة في كل الدنيا، وبلا استثناء.

ففي ازمنة مرتبكة وفي فوضى ثقافة، ناتجة عن فوضى مجتمع، ليس غريباً ان نجد الشعر ليس شعراً واننا مغرقون بخليط من الهذر مما أشار له في منامته، ذلك كله يمكن لكاتب جاد ان يختزله بإشارة ويستمر في موضوعه الأهم..أما أن يهمل إشاراته الفكرية المهمة وانتباهاته الفلسفية لتشغله مسألة يومية عابرة كأن يكون مدعواً او غير مدعو لمهرجان شعري وان يكون ما يسمعه ليس شعراً، فذلك معروف معتاد عليه في مجتمعاتنا التي يأكل قيمها وانضمتها السوس والأرضة وتتوزعها المصالح والأحزاب. هذه مسائل تافهة مفروغ منها وما علينا هو أن نكتب ونطور فننا ونغني ثقافتنا بالمزيد أما ان ننشر او لا ننشر فتلك متطلبات نفسية واجتماعية لكل تقديره فيها ويبقى الشاعر الكبير اكبر من كل النواقص والعيوب حواليه.

مقدمة "شخناب" مقدمة غير اعتيادية هي كشف فكري وكتابة أدبية دقيقة بعبارة متمكنة ونافذة لكن الطرافة المحلية حس السخرية السرد "السروجي" ربما او سرد ابي الفتح الاسكندري وربما ألف ليلة وليلة سمات فرضت نفسها وسحبت النص إليها ساعدت على ذلك طبيعة الشاعر وخفة دمه، المثقلة بالالم مما يرى، فكان النص نتيجة لذلك وبعد ذلك التقديم، أقرب للأرض، اقرب للمحلية الاعتيادية، تلك التي تفتقد الأفق، الأفق الذي ينأى بالنص عن الاعتيادية إلى العميق الجاد، ان اشكالات فلسفية مهمة في المنامات أضاعها النظم وروح النكتة.

شخناب في المقدمة غير شخناب بعد القريض لا نريد تحويل الشخصيات الجادة الممتحنة إلى بهاليل...

وبعد القريض ينهض النص ثانية ونواجه تساؤلات من تلك التي تنهض بها الاعمال الكبيرة.

شخناب المجد "الذي يعمل ابداً" يتساءل ان كان البيع كالربا وان العمل أحيانا كالقتل والسرقة وبأنه قاتل ومجرم لانه يمحو الحياة ويشوهها ويطيل تقييدها ويعجل بزوالها، من يخبره بان الحلال والحرام والزنا والزواج توائم تفصلها الشرعية ؟ من يوقف شخناب من دورانه الذي سقط فيه..

فإذا عدنا إلى مقدمة شخناب" الذي لا يحترم الزمن لأنه أصلاً غير موجود فيه ولا يحس به ولكنه يحتفظ بآلات قديمة ومأثورات تقيس جانبا مهما منه" نكون بعد هذا الكلام أمام أعقد مشكلات الإنسان الوجودية، وكان يمكن للشاعر الكاتب ان يستثمر موضوعة "انه لا يحترم الزمن لأنه غير موجود فيه..."

وتستكمل ذلك تساؤلات المنامة الرابعة حيث الزعيم يرثي نفسه"

هل الحياة شغلت الناس هكذا في كل زمن واذهلتهم عن مصائرهم، هكذا؟ ترى ماذا يفعل المرء اذا لم يكن بيده سوى ان يبكي أشياءه.

هي بالتأكيد تساؤلات مهمة وفي مستوى غير الذي يسحبنا اليه "المزاج العام" وهو مزاج محلي بسيط في جميع احواله.

لقد تفضل الأستاذ الدكتور فاضل عبود التميمي بمقدمة امتازت بعلمية الدرس والتأصيل، وجهد مشكوراً في التوصيف لهذا الجنس الأدبي، وانا شخصياً أكبره وأجل علميته وبصيرته لكنه للأسف لم تشغله قضية "الرفعة" او "السمو الإبداعي" الذي يمنح النص قيمة ثقافية ومدى إنسانياُ انا متأكد أنه انتبه إلى ذلك وتمناه كما اتمناه، ولكنه رجل دارس شغل بما تحت يده لا بما يتمنى، نعم الأمور الصغيرة العابرة لا تخلو من اهمية ولكن كبر هذه الأهمية وأزليتها هو موضوع الاهتمام. ثمة ما تختص بيه الصحف اليومية لا المبدعون المفكرون. وقد توسمت في مؤلف المنامات متأملاً اكبر مما يعيب "المؤذن" أو سواه لما يرد في المنامة الخامسة مثل هذا من المعارضة وهو ليس منهم.. هذه مسائل تجدها في المقاهي في العمل اليومي، في المكتب والجامعة والمستشفى، وسواء كان منهم او لم يكن القضية برمتها لا تستحق اهتمام أديب متمكن عارف بصير بالدنيا وشؤونها.. تمنيت ألا أجد في الكتاب بعد تلك التساؤلات الفكرية المهمة كلاما مثل:

معارضة
بل مائدة
يؤمها الجائعون
ويملؤون البطون

شاعرنا اكبر من هذا والفكر الذي تخلل المنامات بعامة، ارفع من هذا الكلام وابعد كثيرا. لا أدري كيف فات الاستاذ الدكتور فاضل عبود التميمي، وانا اكن له الاحترام واعرف مقامه العلمي، أقول كيف فاته أن يشير لزميله د.تقي بحذف مالا ضرورة له، أو ما يهبط بما سبقه من رؤى وتصورات وأفكار.

وتكاد تكون هذه صفة ملازمة للمنامات ففي المنامة السادسة مسألة ان يشمل الزيف العلم والعلماء...ولست مع هذا التعجل او التساهل في اطلاق التسميات الشائنة. فقوله: هم سفلة أدمنوا العاهرات وعاقروا المسكرات...المفترض من أديب شاعر ومثقف مفكر، ان ينظر إلى الضائعين والممتحنين الحائرين، والتائهين في الكون بمنظور ثقافي معرفي، فيه تعاطف وفهم لا إدانه وشتم. هذه عدوانيات وكراهات العوام أجِلُّ الصديق المؤلف المبدع عنها..

في زمن الثورة البولشفية كان ناس خارج الثورة يقتلون أحزانهم وكآباتهم بالفودكا وفي الحرب العالمية الثانية وحيث فيلق المقاومة الفرنسية من المثقفين، كان ناس مهمومين يقضون نهاراتهم سكراً وحزنا لم يسمهم احد سفلة، هذا شأن بعض الناس في كل الأزمنة. وما دمت يا صديقي متتبعا لأمور "دينك الحنيف.." ألم يكن من المسلمين ومن المشركين من لم يشغله الأمر ومن نأى بنفسه، من قال إنهم رديئون سفلة. قد يكونون في رأيك مقصرين ولكنهم فلسفياً ووجودياً، إذا شاركوا، كانوا مقصرين في حق أنفسهم أولم نندم على ما أضعنا من أعمارنا في النضال وما تلاه من ملاحقات وسجون وعرفي وبؤس عيش ورداءة مصير؟

ما أردت انهي مقالتي من غير وقفة احترام أخرى لأنموذج "بيعارو" هذا أنموذج يصلح لبطولة عمل روائي أو مسرحي كبير! شكرا للدكتور محمد أن نبهنا إليه وله فضل من انتبه له أولا في الأدب.

ومثل هذا أقوله عن "حسام الرقاص" ومشكلة إنسان يعيش زمنا مقطوعا لا ماض وراءة ولا مستقبل أمامه. هذه إشكالية وان كانت افتراضية لكنها موضوعة كتابة وتفكير متقدمة كما ان القصيدة الأولى التي تلت التعريف في رأيي أكثر قصائد الديوان أهمية وأفضلها تكاملاً فنياً هي قصيدة محترمة حقاً.

كل ملاحظاتنا لا تغير من حقيقة إننا بإزاء عمل غير مألوف، وهو نوع من التأليف أتمنى ان يترسخ على يد مبتدعه، وأيدي سواه. فالمؤلف، وهذه كلمة حق، رجل ذو طاقات واضحة وذهن ذكي متوقد ويتمتع بروح محلية اعطت للكتاب مذاقا شعبياً نفتقده عادة في الكتابات الجديدة.
أعلى