علجية عيش - نوفمبر بين الأمس و اليوم..

كان الجميع يتابع أحداث نوفمبر وملحمته لحظة بلحظة، كان الإحساس قويا و عميقا إلى درجة أن الجميع يرى في عظمة نوفمبر و قوة رجاله قوة الأجيال القادمة، لكن نوفمبر الأمس لم يعد نوفمبر اليوم و قد لا يكون نوفمبر الغد..، و هذا يجعل كل منّا يقف وقفة تأمل و تدبر و يسأل ماالذي أصاب جيل نوفمبر؟ و لماذا انتهت ثورة نوفمبر على ما آلت إليه اليوم، لقد غاب "الحس النوفمبري" من قلوب الجزائريين، لأن أعداءه دمّروه بالانحراف و الجريمة و كتبوا شهادة وفاته على شراع الموت
تحاول الجزائر عن طريق جماهيرها الذين صنعوا الثورة و عن طريق الذين يؤمنون بها إحياء ذكرى عظيمة في قلب كل جزائري أصيل، تطبع كل سنة الحياة العامة تمعّنا في الأمس، أمس يرفض ان يكون ماضيا، و وقوفا على معطيات تاريخية كان فيها "نوفمبر" بداية حياة ثورية حاسمة بعد احتلال طويل..، في كل مدينة و في كل قرية تخرج جموع من الناس لحضور هذه الذكرى، يتوافدون كالحجيج إلى مقابر الشهداء – الرمز التاريخي- يتلون الفاتحة و يضعون أكاليل من الزهور و هي عادات دخيلة على المجتمع الجزائري المسلم، ينتظرون إلى غاية منصف الليل ليطلقوا أول رصاصة رمزية معبرين بذلك عن إخلاصهم ووفائهم لرسالة الشهيد، حتى السلطات المحلية توفر في هذا اليوم كل إمكانياتها لإنجاح هذه التظاهرة التاريخية..
المنظمات، الجمعيات والأحزاب السياسية كلها على موعد اليوم للالتحام و التضامن وهي مصطلحات تعبر عن حضارة شعب صنع ثورة مجيدة، كانت الفاصل في تقرير مصيره و تحرره من كل القيود و الضغوطات الاستعمارية، ليمارس تلقائيته و يطلق العنان لسجاياه، وفي هذا اليوم.. الفاتح من نوفمبر من كل سنة نجد الصحف و المجلات تخصص صفحات خاصة لهذا الاحتفال بالعناوين و التعليقات و التحليلات التي تثبت أهمية الذكرى، واصفة إياها بأفضل معاني الكلمة..، مثل هذه المناسبات ضرورة في حياة المجتمعات، تمارس على مر العصور وعلى مختلف المستويات، لكن الملاحظ..، أن نوفمبر الأمس غير نوفمبر اليوم، و قد لا يكون نوفمبر الغد، لأن الحياة اليومية تحولت إلى هموم و عمل وواجبات كبّلت الإنسان، و أفقدته طعم الحياة.
ولأن الظروف أجبرته على التمرد و الابتعاد عن "الطبيعـــة الثوريــــة"، و غدت هذه الأخيرة عند البعض مجرّد وسيلة أو كما يقال ورقة للعبور، قصد تحقيق مصالح آنية، وعند البعض الآخر، فرصة لتصفية حسابات سياسية قديمة، لاسيما و في هذا اليوم تجتمع كل التشكيلات السياسية و قد اعتادت السلطات المحلية على إبراز حضورها هذا الاحتفال العظيم، أجل إنه عظيم عظم ما في الكون، لكن عند الذين يؤمنون بالثورة الحقة، وما قدمه الشهداء و المجاهدون الحقيقيون من تضحيات جسام لهذا الوطن الأبيّ، و ليس عند الذين يجعلون من نوفمبر الثورة أو جويلية النصر ومن كل مناسبة وطنية ورقة تجارية مربحة..
في نوفمبر اليوم أصبح الكلّ يتغنّى بالثورة و يقول: "أنا صانعها" حتى الذين هجروها في محنتها في الوقت الذي هُمّشَ أصحابها الحقيقيون وَوُضعُوا في زاوية النسيان، في مثل هذه المناسبات تتوحد الصفوف و تتضافر الجهود و "تتسابق الأيدي" على حمل إكليل الزهور ووضعه أمام ضريح الشهيد، في الوقت الذي لم تتضافر فيه الجهود لبناء الوطن و النهوض به..
إنّه "الرّيَاء الثَوْرِي" ما يجعلنا نتساءل كم يزن الإكليل و كم هو وزن الوطن..؟؟..
ولا يظن أحدنا أن لديه الإجابة على هذه المفارقة..
الحديث عن نوفمبر الأمس هو حديث عن كفاح شعب صنع ثورة تحررية بكل معانيها، لقد كانت "الثورة" في أعين صانعيها "ثروة" في حدّ ذاتها، بها حدّدوا قيمتهم الاجتماعية، التاريخية و السياسية، وحققوا هويتهم الوطنية ، أما نوفمبر اليوم، فقد شَوّهَتْ بعض الأطراف صورته الحقيقية في قلب هذا الجيل، و قتلت فيه إيمانه بوطنه، و تلك الروح الثورية، و جعلت منه محورا يدور على ذاته، و هكذا فقد نوفمبر اليوم كل معانيه الجميلة، و أصبح كسائر الشهور، فيه تحول "اللاثوري إلى ثوري"، و هنا حدث التصادم، صدام بين الأفراد و الطبقات و بين الأجيال، لاسيما في ظل الصراعات الحزبية التي تعيشها الجزائر، و عدم إقحام العنصر الشباني في المجال السياسي من طرف الذين يريدون التموقع في مراكز صنع القرار، و الخلود فيها على حساب الشعب الوطن..
أن يدّعِي المرء حُبَّ الوطن في الوقت ذاته يعمل على تخريبه سواء عن قصد أو غير قصد، و يترك هذا الوطن يعاني من التخلف و التمزق و عدم القدرة على منح كل مقومات الحضارة و الرفاه لأبنائه، فذلك هو التناقض بعينه، و تلك هي الخيانة في معناها الحقيقي..، إن المرء الذي يحب وطنه حقا، هو ذاك الذي يناضل من أجله، لا تهونه العقبات، بل تدفعه بقوة لتطهره من التشوهات و الانحرافات، و يضعه على الطريق السليم..
هل يكفي الاحتفال بنوفمبر الثورة أو جويلية النصر للتعبير عن الاعتزاز بالوطن دون الرغبة في فهم التاريخ ، و كتابته و تدوينه للأجيال..؟ هل الاحتفال بهذه المناسبات الوطنية هي دليل كاف على قدسيتها و خلوّها من الأخطاء ؟ كيف يُحَبِّبُ صُنّاع الثورة الأجيال في التاريخ دون الكشف عن حقائقه و سلبياته؟، كي يفهم هذا الجيل، و الأجيال القادمة تاريخ بلاده، لابد عليه أن يعرف كيف و لماذا بدأت الخيانة في صفوف الثورة، ما تفسير حادثة تبسه؟، و كيف اكتشفت فرنسا منظمة العمل السرّي " الأو أس" ؟ ماذا عن أزمة الأحزاب؟، لم تكن هذه الأخيرة وليدة الساعة، بل هي قديمة، و لطالما ذكر بعض من عايشوا الثورة تلك الأوضاع المتأزمة التي أدت إلى انقسام الحزب الوطني و انفصاله عن نفسه ( التيار المصالي، المركزي و التيار المحايد)؟ كيف نُصَنّفُ أولئك الذين يرفضون كتابة التاريخ و كشف حقائقه؟ تلك أسئلة تطرحها الأجيال حتى تعطي للتاريخ حقه و للثورة دينامكيتها...
علجية عيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى