مزمل الباقر - يابا مع السلامة*

يابا مع السلامة
يا سكة سلامة في الحزن المطير
يا كالنخلة هامة ..
قمة واستقامة
هيبة مع البساطة
وأصدق ما يكون
راحة ايديك تماما مثل الضفتين
ضلك كم ترامى .. حضناً لليتامى
وخبزاً للذين.. هم لا يملكون
بي نفس البساطة ..
تدخل يا حبيبي
من باب الحياة
لي .. باب المنون
روحك كالحمامة .. بترفرف هناك
كم سيرة وسريرة .. من حولك ضراك
والناس الذين .. خليتم وراك
وعيونم حزينة .. بتبلل ثراك
ابواب المدينة .. بتسلم عليك
والشارع يتاوق .. يتنفس هواك )

هل لي ان استلف جزءاً من كلماتك التي قلتها في حق ( عبد الكريم ميرغني ) واعيدها إليك؟ علها تعبر عن ما يجيش بداخلي .. أم تراني اسلي نفسي بلحظاتٍ جمعتني معك؟ هي لقاءات حظيت بها على غفلة من هذا الزمان اللئيم.


زيارة عائلية:

في النصف الأول من العقد الماضي وفي إحدى الأمسيات الرمضانية بمنزل العائلة الممتدة بأمدرمان. وجدتني أدندن بكلماتك التي صارت اغنية من اجمل الاغنيات:

( تحياتي .. تصحو أمامي اشواقاً
تهز النبضة وتاتي
عميقاً في شعاب النوم .. الاقي الذكرى بتاتي
سلاماً يا حماماتي .. اسكنن في مساماتي
سلاماً يا غماماتي .. البتدني ابتساماتي
مريم ومي .. بنياتي
وحشتني .. ولعبتن بي )

كنت اطوي البسط بعد ان أكلنا فيها طعام الافطار واحتسينا الشاي والقهوة .. وحيداً في بهو الرجال كنت مواصلاً الغناء رغم نشاذ صوتي:

( حتهرب منو جلدك وين؟
ويوما ما حتسكت تمّ.
وأخت راسي
افارق دنيتي وناسي
واخلي وراي .. كراسي
فما تسوّد سطر .. بالشين
وما تعوّد أساك .. العين
وما تشمت عدو .. فيني )

قبل أن اكمل ترديد باقي الاغنية التي احفظ معظمها عن ظهر قلب، إذا بجرس الباب يرن .. فتحت الباب لتقابلني هامة عالية وصوت اعرفه جيداً بزي افرنجي وآخر اقصر منه قامة إلى حد ما يرتدي جلباباً ابيض وقد جعل العمامة تغطي جزءاً كبيراً من وجهه.

حياني الأول بإسمي .. كان محدثي هو الإعلامي نجيب نور الدين، ثم سلمت على الثاني صاحب الجلباب الأبيض. سألني الأول إن كان خالي إبراهيم بالبيت، أومأت له بالإيجاب ودعوتهما للدخول وبعد ان جلسا سكبت لهما عصيرين من العصائر التي نعدها لشهر رمضان. ثم استأذنتهما لأنادي إبراهيم. قبل أن أعود إليهما بعد دقائق قليلة لأجالسهما حتى يأتي خالي.

تجاذبت أطراف الحديث مع نجيب نور الدين. والثاني صاحب الجلباب الأبيض لا زال يغطي معظم وجهه بالعمامة. ذكرني الأول بعدد الثلاثاء المميز لصحيفة الصحافة السودانية وكان نجيب نور الدين يقوم بتحريره ويكتب أحد اعمدته. وكانت لي سلسلة مقالات قد بدأت في مراسلة الصحيفة بها ونشرت لي منها حلقة، ولخالي مقالات بالعدد. لكن نجيب لم يذكرني كثيراً بهذه المقالات بل ذكرني بلوحة صغيرة لطفلة هي اختي بصفحة ( نفاج للأولاد والبنات ) التي يحررها شاعر الشعب: محجوب شريف. وكان بين الفينة والأخرى ينظر لرفيقه. لما اعيته حيرتي لاستحضار هذه الذكريات دفعة واحدة قال لي مشيراً لرفيقه: ( يا مزمل دا محجوب!!).

لبرهة من الزمن كنت احدق في صاحب الجلباب الأبيض والعمامة تغطي معظم وجهه قبل أن اقف لاسلم عليه مجدداً : ( إزيك يا استاذ؟ ). وجدته يقف مثلي ويصافحني مجدداً: (أهلاً يا استاذ ). وجدتني اجاوبه سريعاً ( العفو يا استاذنا ). وتداخلت العبارات في حديثي تداخل الفرحة بالدهشة في داخلي، هاهو الانسان الجميل من حفظت عدداً من اشعاره في طفولتي وشبابي حاضراً في بيتنا هكذا يحييني ويحادثني بكل بساطة وتواضع وهو شاعر الشعب دون منازع.

تحادثنا اربعتنا بعد ان انضم إلينا خالي. سألته عن سر العمامة التي تغطي معظم وجهه. فأخبرني ضاحكاً: (كفتني شيطان!!) .. ( وكفتني شيطان هو تعبير سوداني شائع لوصف التهاب العصب السابع الذي يجعل الفم يميل إلى إحد جانبي الوجه وكان الشيطان قد صفع الشخص المصاب بهذا الالتهاب ).

اخبرته اثناء حديثنا ان الطفلة التي هي اختي تحفظ عن ظهر قلب، إحدى قصائده زائعة الصيت، وتلقيها بنفس طريقته الايقاعية. فاستأذنني ان اناديها ليسمعها، ذهبت وعدت بأختي تلميذة المراحل الدراسية الأولى، وبعد لأي شرعت على استحياء في قراءة المقاطع الأولى من القصيدة وهو يردد معها:
( عشه كلمينا .. ميري ذكرينا
كل سنوكي .. أحسن
يبقى مسطرينة
نحن شعب أسطى
يلا جيبو مونه
نبني .. نبني .. نبي
مسرحاً ونادي
مصنعاً وبوسته

حرب .. لا .. لا
كبري .. استبالة
صالة للثقافة
تسرح الغزالة .. جمبها الزرافة
رك قمري .. طار
قيرا .. قيرا . قيرا
نطط الصغار
صفق الترولي .. طمن القطار
حلقت وحلقت .. حمامة المطار
كل طلقة .. بينا
نحن تبقى وفرة
سمسماً .. وبفرا
سكراً ... وشاي
تتراسايكلين
جاي وجاي وجاي
مافي حاجة .. ساي
كلو .. عندو دين
كلو .. عندو رأي
***
(بور ) .. و ( بورسودان )
( بارا ).. و ( الجنينة )
( عبري ) ولا .. ( واو )
حاجة مش كويسه
كل زول براو
هي سودانا .. بكرة
من سودانا .. ناو
***
تكتب انت تقرا
تعرف السياسة
في محل حراسة
حجرة الدراسة
تمشي انت تلقى
في الضلمة .. لمبة
ألف ضحكة حلوة
تسندك بجنبه
بي تمن .. طبنجة
أحسن .. الكمنجة
أحلى .. شتل منقة
أحسن .. الحليب
إيد ... وإيد ... وإيد
نزرع .. الجديد
غابة .. النشيد
إيد ... وإيد ... وإيد
مافي بينا.. سيد
إيد ... وإيد ... وإيد
نلحق .. البعيد
نحنا مش مرقنا
حته واحدة .. جينا
جينا لي .. السرق
حقنا .. وعصينا
دمنا وعرقنا )

الهكر:

بعد أشهر من زيارته لخالي. كنت اقف على مرمى حجرٍ من منزله بامدرمان. وتحديداً في الميدان الذي يجاور سوق حلايب.، ملبيناً دعوته لحضور فعاليات مشروعه ( الهكر ). ( والهكر بفتح حرفي الهاء والكاف هو مصطلح سوداني نطلقه عادة على سقط المتاع ). وفكرة مشروعه تلخصت في إعادة تدوير كل ما لا نحتاج إليه وقد تداعى له جيرانه من أهل الحي بكل ما لا يحتاجون إليه من سقط المتاع.
وجدته بجلباب ابيض وسط الجميع – وقد شفي تماماً من التهاب العصب السابع - سلمت عليه وتجاذبنا اطراف الحديث عن مشروعه وتنقلت بين الاشياء الكثيرة التي تجمعت لديه من الجيران ثم عدت إليه مجدداً وتحادثنا تارة اخرى والابتسامة لا تفارق عينيه. ثم إني وعدته على أمل العودة مجدداً.


أمسية احتفالية:

بعد سنوات من ذلك اللقاء، وبعد ان عاد الحزب الشيوعي السوداني لممارسة نشاطه العلني. كانت هنالك احتفالية بذلك الحدث بميدان الأهلية بأمدرمان. كنت من بين الحضور الذي جمع كوادر الحزب واصدقاء الحزب وعدد كبير من الامدرمانيين من حي الملازمين وحي بيت المال والأحياء المجاورة. كان بالمسرح وقد فرغ من إلقائه المميز لقصائده ذائعة الصيت. ذهبت لأسلم عليه في معية آخرين، فاقترب من حافة المسرح واحنى قامته حتى يسلم بكلتا كفيه علي محبيه، فرداً، فرداً وكنت من بينهم.

أحمد شرفي:

اللقاء الأخير كان بالأمس الثاني من ابريل للعام 2014م. جئناه والليلة الصيفية تعلن عن نفسها بدرجات الحرارة المرتفعة. كنا داخل عربة نسلك الشوارع الامدرمانية التي تفضي بنا لمقابر احمد شرفي، انضمما للحشود من الشباب والشيب من الجنسين وعدد غير قليل من الاطفال.

الحشود تغادر المقابر لميدان ( الليك ) المجاور فالاستراحة التي بفم مقابر ( أحمد شرفي ) لا تسع هذه الحشود التي ستؤدي صلاة الجنازة. كاد ميدان الكرة أن يمتلء على سعته: لافتات قماشية - تحوي بيتاً أو بيتين من اشعاره – مزيلة بمنظمة رد الجميل ( وهي منظمة سودانية خيرية غير حكومية اسسها شاعر الشعب مع آخرين لمد يد العون في المجال الصحي والتعليمي ولذوي الدخل المحدود)، ورايات الحزب الاتحادي الديمقراطي: ( والتي هي عبارة عن علم السودان القديم بألوانه الثلاث: الأزرق، الأصفر والأخضر. قبل أن يغير الوانه المخلوع: جعفر محمد نميري ). ورايات طائفة الأنصار التي تمثل حزب الأمة اختلطت بالأعلام الحمراء للحزب الشيوعي السوداني والبيضاء التي كتب فيها باللون الأحمر: الجبهة الديمقراطية، ولافتات قماشية تحوي بيتاً أو بيتين من اشعاره، ترفرف هنا وهناك والهتافات العالية تشق ليل امدرمان، واختلطت الدموع بأعلام المجتمع السوداني من سياسيين ومفكرين بالإضافة لكوادر الأحزاب السياسية، فالكل هنا يعرف ان شاعر الشعب حينما أراد ان يعرف نفسه قال:

(( الاسم بالكامل:
إنسان
الشعب الطيب والدىّ
الشعب حبيبى وشريانى
أدانى بطاقة شخصيّه
من غيرو الدنيا وقبالو
قدامى جزائر وهميّه
لا لون..
لا طعم
ولا ريحه
وايام مطفيّه مصابيحها
زي نجمه بعيده ومنسيّه
المهنة:
بناضل وبتعلم..

تلميذ فى مدرسة الشعبِ
المدرسة..
فاتحه على الشارع
والشارع فاتح فى القلبِ
والقلب..
مساكن شعبيّه
***
ودينى محل ما تودينى
شرّد اخواتى واخوانى
فتش أصحابى وجيرانى
خلينى فى سجنك...
وانسانى
في سجنك جُوّه زنازين
أرمينى وكتّف ايدىّ
من أجل الشعب السودانى
وعشان أطفالنا الجايين..
والطالع ماشى الورديّه
وحياه الشعب السودانى
فى وش المدفع
تلقانى
قدام السونكى
حتلقانى
وانا بهتف تحت السكين
الثوره طريقى وايامى معدوده
وتحيا الحرّيه )

حول المقبرة كانت الحلقات البشرية تتسع وتشارك الجميع الشعارات الثورية وقراءة فاتحة الكتاب وسورة الاخلاص وأحاديث جانبية تعلن نزاهة ونظافة يد محجوب شريف شاعر الشعب.
يحدث أن يكون الحزن مثل سرير الجنازة تحتاج لمن يشاركك في حمله. ويحدث أن يكون الحزن أعظم من ذلك وأكبر من قدرتنا على احتماله فنحتاج إلى ان نتشاركه بصورة شعبية مثل ليلة البارحة:

(( مليون سلام يا شعبنا
ومليون حباب
الإغتراب يا ابونا..
ما طول الغياب
الاغتراب
فال البخونك ويزدريك
ونحن بين سُونكيهو..
والزنزانه
والسجن السميك
منك قُراب
أحرار...
وحريتنا فى ايمانا بيك
ثوار بنفتح لى الشمس
فى ليلنا باب..
لى يوم جديد
ابداً جذورك فينا تمتدّ..
وتجيك
وبنفتديك وحا نفتديك
ما بنرمى اسمك في التراب
وعيونا تتوجه إليك
انت المعلم والكتاب
حا نغني ليك ونغني ليك
واليزدريك..
يا ويلو من غضبك عليهو..
ومن مشيك
يا ويلو من أجَلُو الوشيك
يوم ينكسر قيد الحديد
السونكى..
والزنزانه
والسجن السميك
وخطى الشهيد
من حولو تهدر والنشيد
وانت الشمس من بين ايديك
تطلع عليك
من كل باب
مليون سلام يا شعبنا
ومليون حباب))

هذا الحزن رغم مشاركته بين كل المعزين من افراد الشعب السوداني الذي حضر بمقابر احمد شرفي، كل هذه الجموع – بمختلف الأعمار - والتي تشاركت الحزن لم تقدر على حمله. فهو جرح بالقلب له ندبة لا تزول. فأجيال عديدة تربت على اشعاره وهو يلهج بحب هذا الوطن:

((وطنا..
الباسمك كتبنا ورطنا
أحبك
مكانك صميم الفؤاد
وباسمك اغنى..
تغنى السواقى
خيوط الطواقى
سلام التلاقى
ودموع الفراق

***
واحبك ملاذ
وناسك عزاز
أحبك حقيقه..
وأحبك مجاز
وأحبك بتضحك
وأحبك عبوس
بعزة جبالك ترك الشموس
وما بين ظلالك
افتش وأكوس
أفتش طفولتى وملامح صباى
بناتك عيونن صفاهن سماى
وهيبة رجالك بتسند قفاى
صحى بتملا عينى..
وتشّرف غناى
بحضرة جلالك..
يطيب الجلوس
مهذب أمامك يكون الكلام
لأنك..
محنك
عميق الدروس
مجيد المهابه ومديد القوام))

أو بحب هذا الشعب السوداني وآخر ما كتب بتاريخ 31 مارس 2014م وهو بالمشفى كانت دعوات بالصحة والعافية للشعب السوداني، كأن نبضات قلبه هي – دائماً - المداد الذي يسطر به ابداعه:

(( من وجداني
صحة وعافية
لكل الشعب السوداني
القاصي هناك والداني
شكراً للأرض الجابتني
والدرب الليكم وداني
يا طارف وتالد
يا والد
النيل الخالد شرفني
واحد من نسلك عداني
انت الأول وما بتحول
وتب ما عندي كلام بتأول
انت الأول
وكل العالم
بعدك تاني
يا متعدد وما متشدد
ما متردد .. ما متردد
ملء جفوني بنوم متأكد
بل متجدد .. تنهض تاني
ولما تعاني .. بعاني وأعاني
وقلبي وعانى أحبك اكتر
وما كفّرت .. ولا نفّرت
ولم تستعصي عليك معاني
علمتونا نسد الفرقة
وإتقاسمنا رحيق الطرقة
وكم شلناهو ثباتك درقة
بكل البي وعلي وحياتك
اتحدّاه كما اتحداني ))



مزمل الباقر
الخرطوم بحري في 3 ابريل 2014م

* عنوان المقال وجميع الأبيات الشعرية الورادة فيه تنتمي لشاعر الشعب مجحوب شريف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى