سعيد بلغربي - ميثولوجيا: بوصيدون.. أسطورة إله أمازيغي

1 ـ هل كان بوسيدون افريقيا؟
بوسيدون أو بوزيدون أو بوصيظون أو بوزاييدونيوس.. إله البحار والمحيطات، تُرجّحه بعض الدراسات المهتمة بالميثولوجيا وظواهر الأديان في شمال افريقيا على أنه إله افريقي ذو أصول ليبية قديمة، ينتسب إلى سلسلة من المعبودات الوثنية الأمازيغية البدائية، ومن أشهرها: تانيت، أمون، أطلس، گرزيل، هراقل وآخرون… وعن انتمائه الافريقي يحيل أرنولد توينبي في كتابه: «الفكر التاريخي عند الإغريق» إلى »أن المصريين ينكرون كل معرفة باسم بوسيدون«، واعتمادا على اللقى الأثرية، نجد أنها تقدمه على هيئة رجل قوي البنية يميزه رمح مسنن ثلاثي الرؤوس، وغالبا ما يتم نحته وتصويره رفقة أحياء بحرية كالأسماك والدلافين.

ومن الأدلة الواضحة هنا على أمازيغية بوزيدون رواية الرحالة القرطاجي حانون (القرن 05 ق.م) التي يشير من خلالها إلى أنه عندما توجه نحو المغرب، وصل إلى موقع موحش تحيط به جبال وغابات كثيفة، نزل وأسس فيها معبدا لإله بوسيدون، وهي رواية إذا تأكد فعلا صحتها، فهي نسبيا تثبت فترة تبني الأمازيغ لهذا الإله، وذلك في بحر القرن الخامس ق.م، ويمكن كذلك أن نستشف من خلالها فرضيتين: إما أن حانون هو ورفاقه حديثو العهد باعتناق عبادة بوزيدون، الذي تزامن فترة مكوثهم في السواحل المغربية، وتكريما له أمر مرافقيه ببناء معبد على مشارف هذه الغابات والجبال، أو أنه اكتشف أن معظم السكان المحليين كانوا يكرسون عبادتهم لبوسيدون، فساعده ذلك على بناء معبد يُحتمل أن هيكله الأصلي تميز بعمارة متواضعة غير متكاملة، نظرا لطبيعة رحلة حانون التي كانت تشهد وضعا من الارتباك وعدم الاستقرار. في هذا المعنى يعلق محمد بيومي في كتابه «المغرب القديم» نقلا عن ب.هـ. وارمنجتون، بقوله: »إن الأدلة إنما تشير إلى أن القرطاجيين كانوا قوما محافظين في المسائل العقدية، ومن ثم فقد ظلوا طويلا مخلصين لفكرة بساطة الأماكن المقدسة الخالية من أي أبنية أو أنصاب فخمة«.

وعلى هامش حديثه عن رحلة حانون التاريخية، يشير المشرفي في كتابه «افريقيا الشمالية» 1969، بقوله: »ولعل هذا المعبد كان في المكان نفسه الذي يوجد فيه اليوم ضريح «سيدي بوزيد» على بعد كيلومترات فقط من مدينة أسفي (المغربية)، ومن الظن أن اسم «بوزيد» محرف عن «بوزيدون»«. ومن المعروف تاريخيا أن الأمازيغ كانوا يجوبون البحار بشكل مستمر وأن هذا الإله كان من العناصر الأساسية للملاحة، ومن غير المستبعد أن تكون تسمية مدينة (سيدي بوزيد) في تونس على علاقة بهذا الإله الافريقي القديم، وهذا ما يفسر كذلك الانتشار الواسع لعدد من الأضرحة التي تحمل الاسم نفسه على امتداد من سواحل شمال افريقيا.

تحتفي الذاكرة الشعبية في الريف (شمال المغرب) بمثل أمازيغي ذائع الصيت، يقول: «إبُوزِيدْ ؤُمِي فَتْلَنْ!» ومعناه: «هل تعتقدون أن هذا الكسكس نعده لبوزيد!»، جل الكتابات التي تناولت بالدراسة الأمثال الشعبية في هذه المنطقة استعصى عليها فك رمزية ودلالات هذا المثل القديم، فمن المحتمل، أن المثل يشير إلى الإله بوزيد الذي يبدو أنه انحراف عن كلمة «بوزيدون»، الذي كان الأمازيغ يقدمون له قرابين قد تكون من الأطعمة والأنعام المحلية، ومن الطقوس القائمة اليوم وعلى امتداد الشريط الساحلي المغربي تقديم قرابين في شكل أوزان متفاوتة من مادة الملح يلقى بها في البحر من أجل تهدئة غضبه وكسب رضاه، أو من خلال اعتقاد سائد يهدف إلى طلب وفرة الصيد وجودته، ولا نستبعد هنا أن الظاهرة امتداد لطقوس ليبية قديمة كانت مكرسة لفكرة عبادة بوسيدون كإله للبحار والمحيطات، وطبقا لما يقوله هيرودوت فإن الليبيين كانوا أكثر ميلا لتقديم القرابين إلى أثينة وتريتون وبوسيدون.

وفي السياق نفسه نجد كلمة «إصيض» التي تعني بالأمازيغية الوحش أو الغول، هذه الشخصية القوية والشريرة التي نجد لها انعكاسا واضحا في العديد من الحكايات الشعبية المرتبطة بالميثولوجيا المحلية، ونرجّح هنا، أن كلمة «إصيض» هي اشتقاق من اسم بوصيظون، ولعل التسمية استعملت ابتداء من فترة انتقال الأمازيغ من مرحلة نبذ العبادات الوثنية إلى اعتناق الديانات السماوية التي تجرم عبادة أي شيء دون الله عز وجل، التي أخذت تنبذ الأعلام الوثنية البدائية وتصفها بالوحشية والقذارة، وتسعى إلى إقبارها ومحو آثارها من المعتقدات السائدة.

وارتباطا بالموضوع نفسه، أورد عبد المعطى شعراوي في كتابه «أساطير إغريقية، الآلهة الكبرى» 2005، أسطورة تبين بشكل لافت علاقة بوسيدون بالبيئة الليبية ومساهته في قيادة بلاد شمال افريقيا، تقول الأسطورة كما أوردها شعراوي: «عشق بوسيدون الفتاة الرائعة ميدوسا، ظل يطارها، أدركها في معبد الربة أثينة، هناك نال منها مأربه، غضبت الربة أثينة، لقد دنس بوسيدون وميدوسا معبدها، كظمت الربة أثينة غيظها، قررت الانتقام من ميدوسا، حولتها إلى وحش كاسر مخيف، بأجنحة ضخمة، وعينين تبعثان ألسنة من اللهب، أسنان ضخمة، لسان عريض، حوافر برونزية، رأس ذي حيات قاتلة بدلا من خصلات الشعر، كل من يقع نظره عليها يتحول إلى حجر، ارتبطت إحدى مغامرات البطل برسيوس الخطير بميدوسا، كان عليه أن يقتلها لينقذ والدته داتائي من الملك بولوديكتيس، فقد كانت ميدوسا من ألد أعداء الربة أثينة، هاجم برسيوس ميدوسا، لم ينظر إليها، وجه نظرة نحو درعه، ضربها ضربة واحدة، فصل رأسها عن جسدها، فارقت الحياة على الفور، بينما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة خرج من جسدها الميت توأم، أحدهما الحصان المجنح بيجاسوس، والآخر المحارب الشرس خروساؤر، خبأ برسيوس رأس ميدوسا في كيس ضخم، أسرع نحو قصر التيتن أطلس، كشف عن رأس ميدوسا أمام أطلس، تحول التيتن إلى جبل ضخم، أصبح في ما بعد يعرف بجبال أطلس، اتجه برسيوس إلى الصحراء الليبية، هناك ألقى بعين ميدوسا وسنّها في بحيرة تريتون، أثناء ذلك سقطت قطرات من دم ميدوسا على رمال الصحراء، خرجت من قطرة الدم حيَّات سامة، انتشرت في الصحراء.. ظلت رأس ميدوسا في حيازة برسيوس، يكشف بها لأعدائه فيتحولون إلى أحجار.

تقول بعض الروايات، إن ميدوسا كانت فتاة رائعة الجمال، قادت أهل ليبيا الذين يسكنون حول بحيرة تريتون في إحدى المعارك، ضايقت ميدوسا الربة أثينة، غضبت منها الربة غضبا شديدا، جاء ثسيوس من أرجوس على رأس حملة عسكرية، هزم ميدوسا وقضى عليها بمساعدة الربة أثينة«.

خلاصة:
من الأمور التي أهملها التاريخ في هذا المنحى، الإشارة إلى أن شخصية بوسيدون لا يتوقف سرها على الطبيعة الدينية التي تميز بها، فإنه زيادة على ذلك كان ذا ثقافة واسعة، يقول عنه أ. إيمَار في «تاريخ الحضارات العام روما وإمبراطوريتها»: «بوزاييدونيوس الذي برع في أكثر من حقل من الحقول الفكرية«، إلاّ أنه يجب أن نؤكد أن الدراسات الحديثة لم تنكر مدى حقيقة الأسطورة باعتبارها محاكاة للواقع وتفسيرا له، ولكن أمام غياب مناهج دقيقــــة وأدوات محلـــية تنطــلق منها التحليلات المفسرة لبنية الأسطورة الأمازيغية، خلقت بالمقابل فراغا عميقا وندرة في المعلومات الناتجة عن عدم التمكن من إدراك معالمها المؤسسة على الرمز والإيحاء والغموض، مما يفتح المجال أمام تكهنات واحتمالات غير جازمة ومرتبكة تبــين بكثير من الوضوح تقاعس الباحثين الأمازيغ عن رصد وتفسير وفك العديد من أسرار وشيفرات المكون الثقافي والتاريخي لبنيتنا الحضارية.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى