خالد بوزيان موساوي - قراءة نقدية للمجموعة الشعرية الثالثة: " كي أشبه ظلي" للشاعر المغربي بوعلام دخيسي.. الجزء الأول

ـ بطاقة تعريف:
" كي أشبه ظلي" عنوان المجموعة الشعرية الثالثة التي صدرت للشاعر المغربي ابن مدينة وجدة بوعلام دخيسي بعد مجموعة " هديل السّحر" (2012)، ومجموعة " الحرف الثامن" (2014).
صدر الكتاب عن مطبعة الجسور ش.م.م. وجدة. (الطبعة الأولى 2016). الديوان من الحجم المتوسط (121 صفحة ـ 43 نص شعري.)... بوعلام دخيسي شاعر تمايز رفقة ثلّة من شاعرات وشعراء وجدة، وقلائل من شديدي الاخلاص لجمرة الشعر...
خصّص ستّة (6) نصوص شعرية على الأقل ضمن هذه المجموعة لتيمة "الشّعر"، و"الشاعر" ("لا تقرئي كل شعري" ص. 73، و"القصيدة" ص. 86، و"أوصاني الشاعر" ص. 111، و"لو كان الحكم لشاعر" ص. 112، و"هل أنا شاعر" ص. 113، و مقاربة" ص. 116)، وكأنه ـ عبر رسائل مشفّرة ـ يوحي للقارئ (عاديا كان أو متمرّسا...) ببعض تمظهرات مخاض سؤال كتابة الشعر، وسؤال "بنيات الشعر وإبدالاتها" (التعبير الأخير للشاعر والناقد المغربي محمد بنيس)، في ديوان "كي أشبه ظلي" لبوعلام دخيسي، لكن قبل ملامسة بعض تضاعيف هذين المحورين المترابطين، لابد من ملاحظة ذات بعد منهجي:

حيثيات منهجية:
في نظرنا المتواضع لا توجد " وصفة سحرية" لمقاربة منهجية لديوان شعري (كلاسيكي، أو حديث/ حداثي)، وكلّ " إسقاط" قد يضر بالعمل الابداعي أكثر مما ينفعه... كتب الأديب المغربي عد الواحد مفتاح في هذا السياق: " من غير اشتراط الوصول إلى الضفة المضيئة، كمسكن للحقيقة الكلية. فالشعرية المفتوحة كما يجترح للمفهوم، تتنكر لكل انغلاق معرفي ومنهجي داخل الدراسة، وهي لا تهادن في نقديتها جغرافيا رحيلها، كما لا تستسلم للخرائط المتواضع عليها."... لذا ارتأينا مقاربة هذين المحورين انطلاقا من النص/ المتن ووصولا إليه مع اعتماد بعض الآليات المتوافق نسبيا بشأنها...

الجزء 1: بعض تمظهرات (configurations) مخاض سؤال كتابة الشعر في مجموعة " كي أشبه ظلي":

أ ـ كلّ الشّعر "أنتِ":
نقرأ (نص: "لاتقرئي كل شعري.." ص. 73)"
"ناوِليني جريدَكِ أكتب لك الشعر مختصرا
لا سواكِ
وإن كنتِ بين نسا الكون قاطبة
أنت كالماء صيفاً إذا اشتدّ بي الحرُّ
(....)
لا تكوني كهذه الغيوم، تساميْ
وإياك أن تقرئي كلّ شعري
أخاف على الوزن إن كُسِرا
ناوليني فؤادك
وانسي جميع الذي قيل من شعرنا
واحفظي ما نشرتُ فقط:
أنتِ لي وكفى..."

خلاف النصوص التي تعتمد في بنائها "المعماري" على التسلسل الكرونولوجي/ الزمني، أو على التراتبية " الحجاجية"، أو على آليات "المناجاة" أو وصف الطبيعة، وأمزجة الوجدان...، اعتمد بوعلام دخيسي في هذا النص (ونصوص أخرى كثيرة) على بُنى وآليات بعض " مصوّغات المنطوق" لتأكيد فكرة: كون القصيدة هي " أنتِ" (الحبيبة الملهمة).
ـ صيغة فعل الأمر ( " ناوليني..."، " تساميْ..."، " انسي..."، "احفظي...")،
ـ وصيغة النفي والنّهي والتحذير ( " لا سواك..."، " لا تكوني..."، " إياك أن تقرئي")،
ـ والصيغة الاخبارية والتقريرية ( " أكتب لك شعرا..."، " أنت كالماء صيفا..."، " أخاف على الوزن..."، " أنتِ لي وكفى...").

أسلوب التكرار:
يوظف الشاعر ما يشبه " اللازمة الشعرية" مرتين في نصه ( " ناوليني جردَكِ..."؛ " ناوليني فؤادك...")، وكأنه يقسم النص إلى إيقاعين متشابهين، أو وحدتين دلاليتين توكيديتين لتصور واحد تمّ التعبير عليه مجازا باستعمال أسلوبي التشخيص البلاغي والاستعارة: " الشعر مختصرا... لا سواك.، و" واحفظي ما نشرت فقط: أنت لي وكفى"... ولا يكتفي بوعلام دخيسي من " تبخيس" ما هو مجرد "شعر لأجل الشعر، ليختزل كلّ المكتوب في مخاطبته، بل تجاوز الأمر ليعطي الأولوية للشاعر الانسان قبل منطوقه شعرا (القصيدة).

ب ـ " الشاعر لي"، و" الشعر لكم ذاك الشيء الزائد":
نقرأ (نص: "مقاربة" ص.116):

"لم أكتب بعد
ـ وإن ترَ هذا السيل من الأحرف ـ
بيتا واحدا
إلا أني يا أنتَ أحبك حبا لم يكشف تيمته ناقد..
يا أنتَ أجبهم.. قل لهم:
لا يعرف غيري
لا يقصد غيري...
هذا الشاعر لي وحدي
والشعر لكم
ذاك الشيء الزائد.."

رغم بعد المسافة بين النصين ( تموقع الأول ص. 73 والثاني ص. 116)، " يوهمنا" الشاعر بوعلام دخيسي عبر حوارياته المحبوكة أننا بصدد قراءة مسترسلة لحكاية بين شاعر وملهمته، أو بالأحرى حكاية عشق بين شاعر وقصيدته المجسدة أنثى حدّ التملّك: في النص الأول، هو من يمتلكها ( " أنتِ لي وكفى")، وفي النص الثاني هي من تمتلك الشاعر ( " هذا الشاعر لي وحدي")...
وخلاف النص الأول، لجأ الشاعر في هذا النص لآليات نحوية تركيبية، وأساليب بلاغية أخرى، من بينها:
ـ تقنية تعدد الأصوات المتلفظة: في النص الأول كما في نصوص أخرى يحدثنا الشاعر بضمير المتكلم " أنا" ذكر، بينما يخاطبنا عبر حوار النص الثاني بصفة الأنثى التي توجه كلامها لل " أنتَ". و" تقنية لعب الأدوار" (Jeux de rôles ) هذه التي تدفع الشاعر بوعلام دخيسي لإبداع ملفوظات يتقن من خلالها تقمص الأدوار لخلق مساحة من المتعة وتذليل المسافة بين الأجناس الأدبية: النص الشعري والمسرحية والقصة...
ـ اعتماد أسلوب النداء: ( " يا أنتَ أحبك.."، " يا أنتَ أجِبهم...". هو نداء " موهوم" لمخاطب " معلوم" لأن المخاطبَ ( الشاعر) لا يجيب... الأمر الذي يُحوّل الحوار إلى " مونولوج"، إلى ما يشيه " المناجاة" الشعرية...

اعتماد الأسلوب التقريري:
( " إلا أني يا أنتَ أحبك حبا لم يكشف تيمته ناقد..")، أي نوع من الحبّ هذا الذي " لم يكشف تيمته ناقد"؟ !!!... تبدو هذه العبارة خارجة عن المألوف في الخطاب الشعري، بل تتجاوزه لتشبه ما يطلق عليه " الميتا ـ لغة"، فلفظة " تيمة"، و" ناقد" تستعمل في المتون النثرية من قبيل المقاربات والدراسات النقدية... هو أسلوب قد يؤخذ بحمل مداعبة القارئ/ الناقد، وقد تُستخلصُ منه قناعة الشاعر بوعلام دخيسي: إن الشعر يوحي، ولا يقول... وهو قابل لتعدد القراءات والتأويلات...
وفي معترك السؤال عن كُنْهِ " القصيدة"، وماهية " الشاعر"، يسترسل بوعلام دخيسي في حيرة السؤال والجواب، فيتساءل مرّ أخرى:

ج ـ "هل أنا شاعر؟" (النص بنفس العنوان ص.113):
نقرأ:

"هل أنا شاعر؟
يسأل الشاعر
ويقول:
"أنا الشاعرُ"
الآخرُ !!
أيها الشعرُ، ما أصيرَك..
بين من يدّعيك
ومن
وقّرك."

خُصِّص هذا النص، كما يبدو لسؤال الشعر، سؤال شائك، وحسّاس، ويدعو لل " البوليميك"؛ هي من وجهة نظر بوعلام دخيسي ثلاثة أوْجُه: " الشاعر/ الآخر"، ومن ّ يدعي الشعر"، ومن " يُوقّره"... وكأنه يحيلنا على هذه الموجة من " الشاعرات (؟)" و" الشعراء (؟) " الجدد" الذين يُلاقون ترحيبا ما في بعض المحافل والمواقع الاجتماعية وبعض النوادي والجمعيات والاتحادات وحتى بعض الفضائيات.. ويتعرضون في الوقت ذاته لانتقادات أصوات إمّا محافظة، وإما مُحبَطة ومتذمّرة من انحطاط ما... عن هذا السؤال، كتبَ منصف الوهايبي ( شاعر و أكاديمي تونسي)، قال:
" كثيرٌ ممّا نقوله عن الشعر شعراء وقرّاء ونقّادًا في هذا البلد العربي أو ذاك، يحتاج إلى قدر غير يسير من التوقف والتثبت وحسن التناول، وإلى شواهد وأسانيد من الأدب والفنّ الحديث تنهض له وتعضده. لكن لا يذهبنّ في الظن أنّ سؤال الشعر من المتعاود الثقافي، أو هو من المسائل المحسومة. وإذا كان أهل الغرب، وقد صارت آدابهم وفنونهم بمنزلة «معجز» يتحدّانا مهما حاولنا أن ندانيه أو نجاذبه مكانته، يعيدون طرح سؤال الشعر وأزمته أو يعودون له وعليه، بعد أن استأثر بهم، موضوع «ما بعد الحداثة»؛ فما أحوجنا نحن إلى تأصيل السؤال في سياقه التاريخي والحضاري، بعد أن آلت « الحداثة الشعريّة» لدينا إلى ما آلت إليه في « شعرنا الحديث» الذي تخطّى الستّين، وصار يتسلق على جذوعه من يتسلّق غافلًا عن أنّ نعمة الشعر، هي في إيقاعه ومنه؛ هذا الإيقاع الذي هو انتصار الإنسان على الزمن، أو سبيله إلى جعل الزمن يرقص على نغم إنساني، وليكن!"

ولنا عودة للمحور الثاني في الجزء الثاني من هذا المقال..



بوزيان موساوي . وجدة - المغرب.






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى