صفاء عبد المنعم - بيرة ساخنة.. قصة قصيرة

ليلة حب.

كان صوت أصالة المدهش يأتى إليها من الهول الواسع، البارد، يصدح بأغنية(يامجنون مش أنا ليلى ..) وهى فى المطبخ، تقوم بتنظيف البوتجاز، وغسل المواعين، وصنع الطعام الطازج واللذيذ لأولادها.

ولكنها فجأة، سمعت صوت رنين الهاتف يأتى إليها من على الرخامة المجاورة لها، فتحت الموبايل، وسمعت صوته هامسا، ناعما : أزيك يا بطة.

فى البداية لم تتعرف على الصوت البعيد المغازل بشكل جيد، ولكن عندما بدأ يطرح بعض النكات السخيفة، والبذيئة، كجس نبض، ويصبها فى أذنيها، ويسألها عن مناطق محددة داخل جسدها، هو يعرفها تماما، وهى مخفية عن عيون العامة/ والمارة/ والجيران /والأولاد.

عرفته !

إنه هو!

بصوته الناعم، الذى يشبه فحيح الثعبان أحيانا، وحمحمة الفرس فى أحيان أخرى، ويشبه الصهيل فى أحيان نادرة.

إنه هو!

بكل سنين البعد الطويلة، جاء صوته لكى يفتح بفحيحه فى أذنيها فتحا جديداً، وشبقا مثيراً.

وعندما سألته فى حزم بعد جمع شتات مشاعرها المضطربة قليلا.

– نعم يا حازم.

أى خدمة؟

هو، عندما سمع رنة الصوت الحاسمة منها، ضحك فى فتورالمهزوم/ المنتصر(أزيك يا بطة، وحشانى موت.. موت).

قالت له فى حسم أقوى وأشد قسوة وعنفاً، بعدما تعرفت على نبرات صوته المتراجعة للخلف، قالت فى حزم أشد: أولا : أنا مش بطة..وهزارك سخيف.

ثانيا : أى ريح طيبة أرسلتك الآن بعد كل هذه السنوات، وفى هذا الوقت تحديدا.

سمعت صوته يضحك مجلجلا كأنه صهيل الخيل المنتصر.

لقد أنتصر، وعرف كيف يستفز مشاعرها الكامنة والمختبأة نحوه منذ سنوات طويلة.

– يا بطبوط، تحبى أقولك أنتِ فين؟ وبتعملى إيه؟ يضحك : ولبسه إيه كمان؟

ضحكت هازئة منه ومن صوته ومن توقعاته ومن ثقته بنفسه إلى هذه الدرجة المملة والمثيرة للقرف. بصوت مرتفع وبرنة سخرية صدرت منها والتى كانت لا تتجرأ فى السابق أن تحدثه بها.

– إيه مشكوف عنك الحجاب؟ .

ضحك أكثر، وأكثر، وأصدر صوتا مرتفعا من أنفه، وعرف أن الحوار بهذه الطريقة سوف يستمر ويمتد بينهما، طالما بدأت بالسخرية والتهكم، ثم الأخذ والرد، ولم تغلق الخط فى وجه مثل المرات الكثيرة السابقة.

فقال برنة صوت بها عتاب الأحبة : يا بطة، أنتِ الآن فى المطبخ، تجهزين طعام العشاء، حيث أن الليلة ليلة عيد ميلادك الخامس والخمسين، صح؟.

– نعم، أكشف الآن عن صوتك القبيح.

قال لها بصوت به بعض التهكم والسخرية الشديدة : يا قلبى، أنتِ لن تتغيرين بسهولة، مهما مرت الأيام، عاداتك لم تتغير، فى السادسة مساء، تدخلين المطبخ، تخرجين علبة بيرة ساخنة من الصندوق المخبأ فى الدلفة العالية البعيدة عن عيون الأولاد، وتفتحينها، ثم تبدأين فى تنهيدة طويلة، ومع أول رشفة تقولين بصوت أسيان(الله يسمحك يا حازم) ومع أول رشفة كبيرة وقوية ، تتذكرين الأيام الجميلة التى عشناها معا.. أليس كذلك؟

بغرور شديد يرفع صوته أكثر ويتعمق فى التفاصيل : أنا قلت لك يا بطة، الزمن مهما طال مسيرنا لبعضنا.

عند هذه الجملة، صاحت من غفوتها التى صنعتها كلماته وصوته الرقيق : وقالت بصوت حاد : ليه يا سعادة الباشا، فاكر نفسك مين؟ تلف، تلف، وترجع بعد عشرين سنة، تلاقينى فى أنتظارك، وحطة أيدى على خدى، (تماضر الهبلة) صحيت خلاص، ونسيتك.

ثم أغلقت التليفون بقوة وعنف فى وجهه ، وألقت به فوق الرخامة ثانية.

مع الرشفة الأخيرة من علبة البيرة الأولى الساخنة، سمحت لبعض الدمعات الحزينة أن تنساب على خديها دون توقف.

ثم قامت بفتح علبة ثانية.

كانت دائما تفضلها ساخنة، وهو يفضلها مثلجة فى الفريزر، مع حبات الكاجو والفستق المملح، وعين الجمل، وهو يجلس فوق السرير عاريا كما ولدته أمه، وفى حالة من الشبق، والأنتظار، وهى تجهز نفسها فى الحمام الداخلى للحجرة.

اليوم فقط والآن!

عرفت أنها كم كانت سهلة وطيعة ومتسامحة معه فى مشاعرها التى دمرها، مقابل فوضاه، وشبقه، وتسرعه، وصوته المزعج، وسبابه المستمر لها دون أى سبب يذكر، ربما جلست أمامه وهى ترتدى بيجامة كاملة، أو لم ترتدى له القميص الذى يفضله، برغم أنه كان يحبها دائما عارية تماما، ويضحك وهو يضمها لصدره ويقول بشجاعة مفرطة(هكذا كان اللقاء بين آدم وحواء)لقد تم طلاقهما ثلاث مرات، واستحالت الحياة بينهما، فتركها وتزوج غيرها، وغيرها، وغيرها، خمس مرات متتاليات.. وأنجب خلالها منهن جميعا خمسة أولاد وثلاث بنات، بالإضافة إلى ولديها وأبنتها، فأصبح جميع ما لديه من أولاد يفوق العشرة.

وهى مازالت كما هى قابعة فى نفس الشقة، وسط أولادها، والمواعين، وصوت الأغانى الأتية من التلفاز الكبير والمعلق فى الهول الواسع.

نعم مازالت كما قال(نفس الطقوس اليومية، نفس الأفعال تكررها فى موعدها)مسحت دموعها، وقالت بتنهيدة قوية(عنده حق) أنا كما أنا لم أتغير كثيراً.. ظللت على عهدى به، وسرقنى الزمن، ولكن لماذا تذكرتنى الآن يا أبن عمى؟ وبعد كل هذه السنوات، وهذا العمر؟ لقد تركتنى منذ أكثر من عشرين عاما.

تزوجت أبنتك، وابنك، وهما الآن فى طريقها إلى هنا لتناول العشاء معى أنا وأخيهما الصغير، تعودنا كل ليلة عيد ميلاد لى، أدعوهما لكى أعيد الذكريات بينهما ووسط أحفادى الصغار.

بدأت رأسها تلف وتدور مع العلبة الثالثة، وصوت أم كلثوم ينبعث من الخارج وهى تشدو برائعتها المدهشة (ليلة حب)، جلست على الكرسى الصغير، وفتحت علبة جديدة، إنها تفضلها دائما(بيرة أستلا كانز كبير وساخنة) والتى قامت بشرائها أمس من محل درينكيز عند أول الشارع.

رغم أنه يوجد محلات كثيرة قريبة منها، إلا أنها تذهب إلى هذا المحل تحديدا، ويقابلها النادل العجوز وهو يبتسم فى ود وصفاء(أهلا يا هانم) ويضع لها علب الكانز داخل شنطة كبيرة سوداء، وهو يودعها بنفس الإبتسامة الصافية الودودة(مع السلامة).

أشعلت سيجارة جديدة، وجلست تتأمل الحياة من حولها وهى مازالت جالسة على الكرسى داخل المطبخ البعيد والواسع، وصوت أم كلثوم يأتيها من الهول.

– لماذا طلبنى حازم الآن تحديداً؟

ولماذا تذكرنى بعد كل هذا الغياب؟

لابد أن أبنته تحدثت معه، فهى الوحيدة التى توده، وتزوره هناك، وتنقل له الأخبار عن حياتى بالتفصيل كما قالت لى من قبل( تعرفى يامامى، بابى بيسأل عنك كتير، ودائما يجلس أمامى ويسألنى مامى عاملة إيه؟ ويظل يستجوبنى كأننى متهمة ولا بد أن أدافع عنك، إنه مازال يحبك كثيراً) أضحك وأنا أستدرجها فى الحديث عنه وعن حياته، فهذا يرضى غرورى كثيراً، خصوصا عندما أعلم أنه غير سعيد مع أى زوجه من زوجاته، أضحك ساخرة من كلامها، وانا أغنى أغنية أم كلثوم – لسه فاكر . كان زمان – ودموعى تنهمر على خدى فى شلال غزير، ثم تقوم واقفة، وتمد يدها تمسح الدموع المناسبة على خدى : ولا يهمك يا مامى، بابى هو الخسران.

أضحك فى مرارة لاذعة، هو الخسران، وقد تزوج أربع مرات، وأنجب خمسة أولاد وثلاث بنات غيركِ أنتِ وأخويك، تفتكرى مين الخسران يا سمر؟ لقد تركك وأنت طفلة صغيرة على يدى، الله يسامحه.

تحتضن رأسى بقوة وحنان(لكن يامامى أنتِ اللى فى القلب يا بطة) أكره هذا التدليل الذى لا يناسبنى تماما، اسمى تماضر مع علاقته بدلع بطة، ضحكت بدورها وهى تقول لى(بابى قال لى أنك كنتِ زى البطة الشهية).

أمسح دموعها المنسابة فى ألم وحزن : ولا يهمك يا جميلة أنتِ وأخويكِ عندى بالدنيا كلها، وربنا يسامحه تعرفى أخوك الكبير كان عنده عشر سنوات، والثانى عنده خمس سنوات، وأنتِ أبنة عام واحد.. وكنتِ تبكين فوق صدرى.

ضحكت بعد أن مسحت دموعها( يا بطة أنتِ رفضتى يكون فى محلل، وأنتهت العشرة بينكما).

أجلس فى أسترخاء شديد وأنا أظهر شجاعتى وضعفى فى آن واحد(لا يمكن يا سمر أن أعاشر رجلا آخر غير أبيك بكل عيوبة، حتى لو كان هو الحل).

أبتعدت عنى وهى تحضر السفرة(خلاص يا بطة، أنتِ أختارتى حياتك، وهو أختار حياته، لكن يا مامى، باباى مازال يحبك بشكل عميق وقوى). ضحكتُ ساخرة منها، وأنا أضع الأطباق الساخنة أمامها(يا فرحتى) تعود وتردد جملتها التى سمعتها منها مئات المرات( لو كنتِ يا بطة، وافقتى على المحلل، كان زمان بابى معنا الآن، ولم يحدث أى شىء).

عندما قالت هذه العبارة وألقت باللوم كاملاً علىِ، صرختُ فى وجهها صرخة عنيفة وقوية : ليه أنا اللى دايما غلطانه، وهو عادى، يطلقنى ثلاث مرات عادى.

بعفوية شديدة، وغضب، قمت بضربها على خدها الأبيض المشرب بالحمرة.

غضبت منى وتركتنى وحيدة فى البيت ولم تعد إلى زيارتى مرة أخرى، وتركتنى، ومن يومها أصبح بيت والدها هو المكان المفضل لديها، تذهب إليه، وتظل معه، يتحدثان ويقلبان الماضى معا، وعاشت معه لمدة طويلة بعيدة عنى، ودائما كان يصب فى أذنيها أننى أنا السبب فى بعده عنهم، ولم يقل لها ولو لمرة واحدة أنه هو المخطىء/ الشرس/ العنيد/ المتكبر/ سريع الغضب/ الشهوانى/ الوقح، الذى كانت امرأة واحدة لا تكفيه، وعندما علمت بذلك، وقلت لعمى على ما يفعله معى، وأن عنده أولاد، ولقد تزوج غيرى، وأنجب. غضب عمى منه، وكانت هذه هى الطلقة الثالثة بيننا. هى لم تصدقنى كثيرا، وقالت لى يوما فى إحدى مشاحنتنا مع بعضنا : وإيه يعنى تزوج، كل الرجال يتزوجون مرة/ وأثنين/ وثلاثة، ولم تعد تزورنى إلا عندما علمت بمرضى منذ شهور فقط.. هى لم تقدر مشاعرى بشكل جيد، وهو لم يحترم أننى زوجة تحب أن يكون زوجها لها لوحدها فقط.

أما أبنى حاتم الكبير والذى كان يدرك ما يفعله والده معى، غضب منه، وتضامن معى، وإلى الآن لم يذهب إلى زيارته ولو لمرة واحدة، عكس أبنه الثانى خالد أحيانا يسأل عنه، ويمر عليه لزيارته.

لقد أرضى غرورى أبنى الكبير، ووقف معى، ورفض أبيه بشكل قاطع ونهائى، مثلما فعلت أنا، ولكن لماذا عدت الآن يا حازم لتحدثنى عن رغبتك فى العودة لى سراً؟ وبأى شكل من الأشكال يمكن له أن يحدث ذلك؟.

لقد أجهزت تماضر على خمسةِ علب بيرة، لقد دمرت المخزون الذى كان يكفيها لمدة أسبوع كاملا، وأفنت علبة سجائر كاملة وهى مازالت جالسة على الكرسى الصغير داخل المطبخ تعد طعام العشاء لأولادها القادمون لزيارتها مع أولادهم.

ومازالت تسأل نفسها ، ورأسها تلف وتدور بها، لماذا عدت يا حازم؟ بأى الأعياد جئت يا عيد؟ وبعد كل هذه السنوات من الوحشة والغضب.

.أسندت ظهرها إلى الحائط خشية السقوط، لقد بدأ جسدها يترنح قليلاً، حملت علبة السجائر، وأخر علبة كانز لديها، وخرجت إلى الهول، تستمع إلى الموسيقى وهى ترتعش.

وأخذت تتذكر الماضى بحلوه، ومره، ويدها ترتعشان، ورأسها تدور، وتدور، لقد حذرها الطبيب أكثر من مرة بعدم التدخين، وشرب القهوة والنسكافية، والتقليل من شرب الشاى، ولكنها ضربت بكل ذلك عرض الحائط، وأصبحت تفعل ما يحلو لها ووقتما تشاء، وهى تتحسس ثديها المبتور.

– مدام التدخين سوف يدمر صحتك! مدام شرب القهوة سوف يدمر صحتك!

.وفى بعض الأوقات أصبحت تذهب إلى المقهى البعيد عن البيت كثيرا، بعيدا عن عيون أولادها، تدخن الشيشة وتشرب زجاجات البيرة الساخنة.

حضر أبنها الكبير ذات يوم إلى البيت بالصدفة، ودون سابق موعد كما يفعل دائما، ووجدها تدخن فى البيت، ورأى علبة سجائر كاملة أوشكت على الأنتهاء، وفنجان القوة وعلبة البن اليمنى الغامق، والصينية والسبرتاية على المنضدة، فأخذ يصيح ولأول مرة بصوت مرتفع : يا ماما الدكتور حذرك كثيرا من كل هذه الأشياء..

ضحكت وهى تحاول أن تدارى دموعها : حذرنى وبشدة، تفتكر الموت مستنظر شرب السجائر أو القهوة لكى يأتى؟ ثم صاحت غاضبة : وليكن دى صحتى وأنا حرة فيها. ثم أنهارت فى بكاء شديد : أنا هأعمل إيه بصحتى؟

.قام من فورة بكسر جميع الفناجين، وألقى بعلب السجائر التى فى البيت، فى سلة المهملات.

حزنت كثيراً، وغضبت منه ونهرته بعنف : أخرج برة لو سمحت.

ثم عادت فى اليوم الثانى وأخذت تدخن السجائر مع البيرة الساخنة كما تفضلها، وألقت بجميع التحذيرات فى سلة المهملات.

وكانت دائما تحدث نفسها بعد الزجاجة الثانية تحديدا، عندما تبدأ رأسها فى الدوران : ما فائدة الصحة بدون رفيق تتمتع معه.كان هذا السؤال دائما يجرحها ويحزنها، ما فائدة الصحة مع الوحدة، والليل الطويل البارد؟.

رفعت سلة المهملات من على الأرض وهى تبكى، وتردد داخلها(الأبناء دائما أنانيون، ولا يشعرون بمشاعر المرأة الوحيدة، تعيش حياة باردة تعيسة، ومملة، والأيام تشبه بعضها).

علبة السجائر الثانية التى فى يدها، أوشكت على الأنتهاء، والكرسى الهزاز الذى تجلس عليه، يتحرك فى سرعات متتالية ومملة، باق سيجارة واحدة، وشفطة كبيرة من أخر علبة كانز، ماذا تفعل الآن؟

رفعت سماعة التليفون وطلبت خمسة علب بيرة أستيلا من المحل، وعلبة سجائر جديدة.

أخذت تتردد كثيراً، ترفع السماعة، ثم تلقى بها ثانية، نظرت نحو ساعة الحائط، الساعة الآن السابعة مساءً، باق ساعة واحدة على حضور أبنها وزوجته وأولاده، وساعة على حضور أبنتها وزوجها وأولادها، وهى ترغب بشدة فى الشرب والتدخين والرقص والبكاء والضحك، والآن تحديدا عليها أنهاء كل شىء، وخاصة العشاء اللذيذ.

أتصلت بصديقتها (سوزان) القريبة منها : ألحقى، أبو الأولاد، عايز يرجع لى، بعد عشرين سنة وثلاث طلقات بائنات.

سخرت منها سوزان عبر الهاتف، وأخذت تقهقه : عايز يعيد اللى كان، حن لقديمه. يابطة. طبعا يا ست الحسن والجمال. حد قدك.. ثم قالت بخفوت وخوف شديد: أوعى ترجعى له يا مجنونة دا حرام شرعاً..

كلها إجابات لم تقنعها، ولكن السخرية منها كانت عالية(أوعى ترجعى، أنتِ مجنونة، حرام شرعاً)

أخذت تترنح قليلا، فسقطت الأشياء من يدها، وكسرت الخلاط، أخر خلاط قام هو بشراءه لها، من عائلة براون. ظلت تحتفظ به طوال هذه السنوات ولا تخرجه من دولاب المطبخ إلا يوم عيد ميلادها، كان أخر هدية قدمها لها، كسر اليوم بسبب صوت صديقتها المحذرة لها، أخذت تبكى فى هدوء، وصنعت صينية بطاطس صغيرة، هو كان يحبها من يديها كثيراً، وعندما كانت تقدمها له، كان يقبل يدها وهو يضحك :

تسلم أيديك يا بطوط.

ظلت لمدة عشرين عاما كاملة تصنع صينية البطاطس بالفراخ والتى يكرهها أولادها، وهى تقول لهم فى وهن وضعف(أنا بحبها).

وابنها يصرخ فى وجهها( يا ماما، بابا هو الوحيد فى البيت الذى كان يحب صينية البطاطس، وكنتِ تصنعينها له هو فقط) تضحك، وهى ترمقه بنظرة معاتبة : وأنا .. الآن أحب صينية البطاطس.

يصمت وهو يدارى خجله وحزنه : أوكيه مامى، حبى اللى يعجبك.

تعود بذاكرتها ثانية، وتتذكرماذا فعلت بعمرها الطويل؟

ماذا حدث بعد زواج أولادها؟

تظل تنتظرهما فى المناسبات القليلة، وأحيانا كثيرة يعتذرون عن الحضور، سمعت صوت الموبايل يرن مرة أخرى، نظرت نحو الرقم، رقم مجهول لا تعرفه.

– ألوه.

أنا حرم سيادة المستشار حازم، البقاء لله.

أغلقت الموبايل، وأخذت تصرخ وتترنح وسط الهول الواسع بين النشوة/ والغضب/ والحزن/ والأنفعال/ والبكاء ، وهى تنادى(يا حازم، يا الله، كنتُ أنا أخر صوت سمعته، لقد كنتُ سخيفة جداً معك، يا أبن عمى، يا الله، ماذا أفعل الآن؟ أنا حزينة جداً، ومتعبة جداً).

أخذت تترنح/ وترقص/ وتبكى/ وتضحك/ وتغنى مع صوت الغناء المنبعث من التلفاز الكبير المعلق أمامها على الحائط(ليلة حب حلوة زى الليلة) أخذت تهز الكرسى الهزاز بقوة وعنف.

وعلبة الكانز الأخيرة أمامها فارغة، وعلبة السجائر منتهية تماماً، وجسدها يرتعش، رعشات سريعة ومتتالية وقوية، وشعرت ببرد شديد يجتاح جسدها البارد الملقى على الأرض الان فى صمت.

فى الثامنة مساءً.

حضر أبنها وأولاده وزوجته.. وأخته وزوجها وأولادها، أخذوا يدقون جرس الباب بقوة شديدة، لا أحد يرد.

فتح أبنها الباب بالمفتاح الأحتياطى الذى معه، ودخل الشقة، وجدها ملقاة على ظهرها باردة، وحزينة، ودمعة وحيدة ترقد فى زاوية عينها.

وصوت التلفاز يملأ المكان صخباً وغناءً(ليلة حب حلوة). طلب الطبيب فى سرعة وعجل.

أتى الطبيب : البقاء لله.

أخذ أبنها يبكى فى حرقة ويصرخ وهو يحتضنها.

رفعت أبنتها سماعة التليفون كى تطلب والدها، سمعت على الجانب الآخر صوت نحيب وبكاء :

بابا تعيش أنتِ يا سمر.

وضعت السماعة فى ذهول وحزن، وأخذت تردد : بابا مات، بابا مات.

صفاء عبد المنعم

  • Like
التفاعلات: محمود حجازي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى