خديجة ناصري - الحرية بوصفها تجسيد للكينونة عند نقولا برديائيف

أشار "برديائيف" إلى أنّ البعض من قرائه شاءوا تسميته ب "فيلسوف الحرية" ومنهم من لقبه ب (أسير الحرية) إلاّ أنّهاشتهى لنفسه أن يكون "عاشق الحرية" فهو يؤمن بأن منشأ الإنسان من الحرية ومرده إليها فهي المستهل وهي المنتهى.فكانت الحرية بذلك هي الناظم المعرفي أو البراديغم بلغة "موران" والابستيمي بلغة "فوكو" الذي بنى عليه "برديائيف" فلسفته، وهندس من خلالها نظرته الشمولية لعالم الأشياء وللوجود الإنساني.
إن معظم التصانيف الأكاديمية صفت فيلسوفنا ضمن الفكر الوجودي وهذا ما لم يتنكر له "برديائيف" بل أكده وشدد عليه لأن الفلسفة الوجودية اهتمت دون سواها من الفلسفات بالتجربة الوجودية الأليمة التي يخوضها الإنسان، وعاينت ما يعيشه من قلق ومعاناة وضياع وشتات وفراغ وعبثية وفقدان للمعنى... وهذه هي الفلسفة الحقة في تصوره التي تحمل في طياتها الأصالة والجدية والصدقية والأمانة المعرفية. وفي ظل هذا التوجه الوجودي الصريح الذي أعرب عنه فيلسوفنا فهو وجه موجة نقدية حامية الوطيس لجل الفلسفات المثالية التي تجاهلت الواقع العيني واتجهت صوب الفكر المجرد بما يعالجه من قضايا ميتافيزيقية وبالتعبير الكانطي قضايا بعدية ترسندنتالية لا تلامس جوهر الوجود الإنساني.
وقد دوّن في كتابه "الحلم والواقع" قائلا: "أنا وجودي لأنني أؤمن بأولية الذات أو الروح على الموضوع أو المادة...وأنا وجودي فضلا عن ذلك لأنني أرى حياة الإنسان والعالم تمزقها المتناقضات... والتي لا يستطيع أي مذهب عقلي ذي كلية مغلقة كاملة، ولا أي نزعة باطنة أو متفائلة أن يحلها". ولم يستثني من ذلك الفلسفة التي وضعت العالم بين قوسين في إشارة منه إلى الإيبوخية الهوسرولية على اعتبار أن "ادموند هوسرل" حظي باهتمام كبير من قبل الفلاسفة الوجوديين على شاكلة "سارتر" الذي طبق المنهج الفينومينولوجي في قراءاته الوجودية والذي وضع قواعده كما هو معلوم للمشتغلين في الحقل الفلسفي"ادموند هوسرل"، ودعواه أن الفلسفة التي اتخذت من الوجود موضوعا لها من المنافي للمنطق أن تضعه بين قوسين، وتعلق الحكم عليه في الوقت الذي يتوجب عليها أن تجعله موضوع للدراسة والتحليل والمناقشة.
ولم يكن هذا الخلاف وحده الذي أبانه "برديائيف" للوجوديين بل إنه مس بالقاعدة المفتاحية التي اجتمع عليها رواد الفكر الوجودي وهي ليست بخافية عن أي متمرس أو حتى مبتدئ في الشأن الفلسفي نقصد فكرة "أن الوجود سابق للماهية"، جاعلين بذلك من الوجود حجر الأساس لفلسفتهم، زاعمين في الآن عينه أنهم قد حرروا الفكر الإنساني من الدراسات النظرية والسجالات البيزنطية التي أغرقت البشرية في أبحاث أكاديمية لا تسمن ولا تغني من جوع، ليصرفوا اهتمامهم إلى الحياة العملية والواقع العيني للإنسان. غير أنّ "برديائيف " قد أوضح ساخرا أن إغواء مبحث الوجود لم يأتي أكله كما فعل مع فلاسفة اليونان سابقا، فلم يقدم أي إضافة سوى أنّه قد أصبح أحد أسباب عبودية الإنسان، الذي أقبل على ذلك طواعية وهذا الصنف من البشر في رأي فيلسوفنا يرغب في العبودية ويهوى العيش في ظلها، ولا يرى لوجوده قيمة إلاّ إذا كان تحت إمرة سيد يسوقه ويتأمر عليه، ويضيف "برديائيف" كتتمة لهذه الفكرة قائلا أنّه من الخطأ الاعتقاد أنّ الإنسان العادي يحب الحرية، إلاّ إذا وصل إلى مستوى من الشعور الراقي.
ومربط الفرس هنا هو أنّ الإنسان وقع أسير الوجود واغراءاته لأنه لم يدرك أولية الحرية وأسبقيتها فليس كل كائن متواجد في الوجود يتسم بصفة الوجودية فوحدهم الأحرار تنسب لهم هذه الصفة، وهذا ما غفل عنه أصحاب المذهب الأنطولوجي فعلى الرغم من إقرارهم بقيمة الحرية إلاّ أنهم أعطوا الأولية للوجود وأقرنوا الحرية به لتكون بذلك تابعة له ووجودها متوقف عليه الأمر الذي يتنافى مع جوهرها والذي يتعارض مع الضرورة، ففي حدود الحتمية المنطقية فإنّ الشيء التابع لغيره والذي يتوقف وجوده عليه أبعد ما يكون حر، وهذا ما ينطبق على الحرية ذاتها.
وعلة كل هذا في رأي "برديائيف" هي العلاقة بين الوجود والحرية والتي بحسيه تفرع عنها تيارين: تيار يقر بأولية الوجود على الحرية وهو ما زعمه رواد الفكر الوجودي والذي وقع في أغلوطة منطقية كما بين لنا ذلك "برديائيف"، وتيار يؤكد أسبقية الحرية على الوجود أسبقية منطقية وهذا ما اشتغل عليه فيلسوفنا ففكرة الحرية عنده تتميز بخاصيتين: أولا وكما أسلفنا الذكر فهو سبق الحرية على الوجود وجعلها مصدرا له بل وشرطه الأساس. وثانيا إن الحرية عنده تفترض مسبقا وجود مبدأ غير مرتبط بالعالم المادي ولا يتقرر وفقه، ولهذا فإن حرية الإنسان ليست من الطبيعة ولا من العقل ولا من المجتمع بل من الروح التي لا تخضع لثنائية الزمان والمكان بل هي مجاوزة لها ومستغنية عنها.
ويتدرج "برديائيف" في تقديمه لنظرته المستحدثة عن فكرة الحرية ليصل إلى جدلية السيد والعبد كما صورها لنا التفسير الهيغلي للحرية، والذي ابتغى والقصد هنا "هيغل" أن يقدم لنا من صنوف البشر المعبودين والعبدة، فهو أنسب صفة الحرية لفئة الأقلية من السادة والذين يملكون زمام الأمور ويتحكمون في مصائر الناس ويسوقون بهم قاطرة الحياة، وكنتيجة لذلك يتوجب على من يتسيدونهم من القطيع الطاعة، فمن لا قبل له بحكم نفسه وجبت عليه الطاعة كما أتحفنا "نيتشه" في أحد روائعه الفلسفية والأدبية ممثلة في كتاب "هكذا تكلم زرادشت". وما نبتغيه في هذا الصدد ليس الاسهاب في تقديم رؤية "هيغل" في مسألة الحرية إنما التمهيد لما هو آتي من النقد الذي وجهه "برديائيف" للتصورالهيغلي عن الحرية.
من اللافت للانتباه أن فيلسوفنا يتحاشى لغة التعقيد كما هو متوارث ومعمول به في عرف الفلاسفة الوجوديين، ولا يستهويه على الأغلب نحت المصطلحات والتفنن في التعذيب الفكري لعقول البشر، إنما يميل للتبسيط كونه لا يخاطب العقول المثقفة وحدها بل يسعى لاستقطاب قاعدة الجماهير العريضة ممن توصف عقولهم بالساذجة ذات الطابع الفكري البدائي بالمعنى الضيق للكلمة، هذا ما التزم به على الأقل فيما يتعلق بمسألة الحرية على اعتبار أنّها لا تعد ذات شأن خاص بل تتسم بالعمومية فهي قضية كل فرد من أفراد المجتمع باختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وحتى قدراتهم الفكرية ومستواهم المعرفي. وقد جاء تقديمه للمقاربة المعرفية عن قضية الحرية في سهولة ويسر تماشيا وفلسفته في الحياة.
فبالعودة للصورة المنطقية التي أوردها الفيلسوف عن الحرية والتي تفترض أن من يمتلك صفة الحرية يتنصل من التبعية ولا يكون وجوده متوقف على وجود غيره، وإذا سلمنا جدلا بهذا الفرض يتبين أن التصور الهيغلي للحرية يفقد مدلوله ويسقط في مغالطة منطقية. فإذا كان السيد كما قدمه لنا "هيغل" يمتلك القوة والإرادة الحرة والوصاية على من يعتبرون في درجة دونية بالنظر إلى رفعة مقام هؤلاء، فإنه من دواعي الضرورة المنطقية أن يكون وجوده مستقل عن غيره، والحق أنّ السيد أو الحاكم أو الملك ...لا يعتبر وجوده ذات قيمة في غياب رعية يتسيدهم ويسقط بظلال قوته وجبروته عليهم، فهؤلاء كما يتضح جليا يعيشون حالة من عبودية مستوفية الشروط بطريقة لا واعية.
بالنتيجة عدد لنا "برديائيف" ثلاث شخوص يتلبسها البشر أدناها العبيد الذين يرضون لأنفسهم التواري تحت مظلة سيدهم لما يمتلكه من قوة وعظمة كما يعتقد هؤلاء وهم والحال هذه أكثرهم جهلا لأنهم ينسبون القوة لشخص هم من وضعوه في هذا المقام، فقوته مستمدة منهم، ووجوده متوقف عليهم، وعظمته من صنع أيديهم، وهو في أحسن الحالات لا يختلف عنهم في شيء لأنه مسلوب الإرادة ومفتقد للحرية، وما علمنا إياه التاريخ أنّ أكثر ما يبرع فيه من هم على هذه الشاكلة على اختلاف الأزمنة والأمكنة نحت أصنام في هيئة بشر ثم يخرون لهم ساجدين عابدين، يعيشون في كنف حكمهم وسوطهم عليهم سليط وفي رحلتهم الأخيرة نحو عالم الخلود يساقون في موكب جنائزي تتعجب له الخلائق، فما أجلها من عبودية وما أعظمه من استحمار. أما السادة منهم ممن استحوذ عليهم جنون العظمة وحب السلطة فهم ليسوا بأحسن حال فمن أخطر العلل التي يبتلى بها عقل إنسان أن يدعي في العلم باع وهو في الدرك الأسفل للجهل عتيد. فمقامه السلطوي يوهمه بالحرية التي لا يطول منها إلاّ القشور لا لب فيها وبذور. فليس التسيد على الناس إلا تسيد على الذات، واستعبادهم والتحكم في مصائرهم هو ايذان بالسجن السرمدي لذات فقدت ذاتهيتهاوسيادتها على ذاتها.
ليصل عداد "برديائيف" للحد الأقصى مع الصنف الثالث وهو الإنسان الحر وقد أقر أنّ بلوغ هذا الحد ليس بالأمر اليسير، فقد يكون من هوان الحال ويسر المآل أن يبقى الإنسان أسير عبوديته على أن يكون سيد نفسه ومكتف بذاته، وقد يرى عبوديته جنة وحريته جحيم، لأن الطريق إلى الحرية يحتاج لمخاطرة وتمرد وكسر المألوف وتجاوز للواقع. والأخذ بزمام المبادرة لقطع هذا الطريق بحزم وإصرار لا يأتي إلى بمعية الرقي الفكري واكتمال الوعي.
وما كان "برديائيف" مبالغا حين أعلن قائلا أنّ الحرية وحدها تمتلك صفة القداسة بينما ينبغي أن تلغى جميع الأشياء التي أضفى عليها الإنسان منذ فجر التاريخ طابعا قدسيا، فالحرية وحدها تمنح للإنسان إنسانيته، وتحفظ له كرامته، وتمنحه شرف العيش الكريم، وتعطيه الحق في تقرير مصيره وبناء مستقبله... فما عظم من شر في نفس امرئ إلاّ المغتصب لحرية الناس الذي يحكمهم بغير حق ويسوسهم بغير سلطان.

بقلم: ناصري خديجة.
الجزائر.
  • Like
التفاعلات: د. بورزيق خيرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى