د. عبدالجبار العلمي - 12 - أدباء وأعلام من المشرق والمغرب.. الأستاذ الدكتور أحمد الإدريسي رحمه الله

كان أستاذنا الدكتور أحمد الإدريسي رحمه الله عبقرياً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، وذلك بشهادة كل معارفه وأقرانه وطلابه ، ولكنه وُجد في بلد لا يعطي الاعتبار للعلم والمعرفة ، ولا يكرم المتفوقين من أبنائه ، ولا يعترف بما قدموه في حياتهم من أعمال جليلة بكل تفان ونكران ذات. وما يؤسفني كلما تذكرته ـ وذكراه عصية على النسيان ـ هو أن ما ترك من كتابات وأعمال علمية قيمة ، لم يتح لها الخروج إلى النور ، ولم تفكر الجهات المعنية بالثقافة والبحث العلمي ، لا الجامعة التي عمل بها سنوات طويلة ، وتولى رئاسة إحدى شعبها ، ولا وزارة الثقافة المغربية ، ولا حتى بعض الجمعيات المحلية بمدينته تطوان ، أن تنهض بنشر بعض أعماله العلمية القيمة في مجال مهم هو فقه اللغة واللسانيات . وهذه مناسبة لنجدد عليه الرحمات ، ولنذكر أفضاله على أجيال من الطلبة والباحثين ستحسب له في دار البقاء بعد أن غادر دار الفناء الجحود.
عرفناه منذ مرحلة الصبا أستاذا بالتعليم الثانوي( الإعدادي) . كان من المعلمين المجدين الذين انتدبوا للتعليم الثانوي لتغطية الفراغ الهائل الذي عرفه التعليم بعد ترحيل الأساتذة المصريين في بدايات سنوات الستين فجاة لأسباب سياسية. كنت محظوظا بالتتلمذ عليه في السنة الثانية من الثانوي في ثانوية جابر بن حيان بتطوان ، فقد كان يحفظنا في درس النحو أبياتا من ألفية ابن مالك التي كان يحفظها كالماء ( كما يقال ) ، وكان يدرسنا نصوصا أدبية جميلة في درس المحفوظات ، أذكر منها هجاء كافور للمتنبي وغير مجد في ملتي واعتقادي للمعري ووصف الجبل لابن خفاجة ولغير العلا مني القلى والتجنب ... ولولا العلا ماكنت في الحب أرغب / وغيرها ، وأعجبت بي بين نادي قومها أم سعد ... فمضت تسأل بي .. ولم يكن يكتفي- رحمه الله- بشرح معاني الأبيات بل كان يضع يدنا على مواطن الجمال الأدبي فيها. ويجعلنا نتذوقها ونتلذذ طعمها الحلو كقطع الحلوى او الشيكولاته . وكان دائما يحفزنا على حفظها . كما كان يوجنها إلى المطالعة الحرة و اقتناء الكتب. بل أذكر أنه دعانا إلى تكوين خزانة للكتب داخل القسم ، واختار لها لجنة وقيما عليها. وكنا نتبادل تلك الكتب فيما بيننا ، فنقرؤها ونحاول تلخيصها. أما في درس الإنشاء. فكان يختار نماذج من إنشاءات بعض التلاميذ الجيدة ، و يكلف أصحابها بقراءتها علينا ، فيثني الثناء المستحق على الموضوع الذي توفق في كتابته صاحبه ، منبها إلى الأخطاء العامة التي على الجميع أن يتجنبها في الموضوع الآتي. لا أخفي عنك ، صديقي العزيز سي أحمد أنني كنت من المعجبين بهذا الأستاذ الجليل المتقد ذكاء ، المتحمس لمهنته ، الغيور على أبنائه وإخوته من التلاميذ. وشاءت الصدف أن نحصل أستاذي وأنا على الباكالوريا الأدبية المزدوجة في نفس السنة الدراسية ( 65 - 1966 ) ، والتحقت وزملاء لي كانوا كلهم أصدقاءه الذين يعزهم ويعزونه، أذكر منهم هنا بعض الأسماء المعروفة أمثال : محمد الشيخي - نجيب العوفي - العياشي أبو الشتا - محمد القماص ، بكلية الآداب بظهر المهراز بفاس حيث كان ما يزال أبناء مدينته يستكملون اجازتهم في إطار نظام الشهادات منهم : محمد بوخزار وإبراهيم الخطيب ، وقد تسجل هو بالكلية ليتابع الدراسة بطريقة غير منتظمة ، فقد كان آنذاك قد عين حارسا عاما بثانوية القاضي عياض ثم مدير مؤسسة ثانوية بالناضور . ويعلم الجميع أنه كان يحصل على أعلى النقط تخول له المرتبة الاولي في السنوات الجامعية الأربع . سجل موضوعه لنيل الدراسات العليا بالرباط حول " المزهر " للسيوطي تحت إشراف الأستاذ أحمد الأخضر غزال ، (وقد كان يأتي من الرباط كل خمسة عشر يوما ليقدم لنا درسا في فقه اللغة في سنة من سنوات الإجازة ) . عين أستاذا بكلية الآداب بالرباط . كان دائما إلى جانب طلبته ، ويذكر زميله وصديقه الأستاذ القاص الباحث المرموق أحمد بوزفور أنه كان رجل المواقف النبيلةسواء إلى جانب طلبته أو إلى جانب زملائه الأساتذة ، وخاصة حين انتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية وآدابها بالكلية التي كانت تضم ثلة من خيرة أساتذة اللغة واللسانيات ، أذكر منهم : الأستاذ أحمد العلوي والأستاذ المتوكل .. سجل بحثه لنيل الدكتوراه في مصر .. واستمر في عمله الجامعي بكليته العتيدة بالرباط . ومن جميل الصدف أن ألقاه وأجالسه عدة مرات حين كنت ازور صهري بحي السلام الجديد آنذاك ، حيث كان يقطن في مرحلة من مرأحل حياته بالرباط وعمله بالكلية. كانت الجلسة معه حقا مفعمة بالمتعة والفائدة والطرف والسخرية . وهذا يعرفه عنه أصدقاؤه وزملاؤه و طلبته القدامى الذين كانوا يجلسون معه في أشهر مقاهي تطوان. وكان يحفظ الكثير من نصوص الشعر العربي المعاصر للرواد ، بل ويجيد فهمها وتحليلها وكان يحفظ جل قصائد صديقه الشاعر أحمد المجاطي عن ظهر قلب ، وقد ذكر هذا الدكتور عزيز الحسين الذي عني بدراسة شعره في كتابين : " شعر الطليعة في المغرب " و "خصوصية النص الشعري الطليعي" . هناك الكثير مما يقال عن هذا الأستاذ العلامة النابغة . وما كان يحز في نفسي شخصيا ، هو أنه لم يتح له طبع عمليه الأكاديميين ، وحين كنت اصادفه لدى زيارتي الصيفية بتطوان ، أسأله متى يطبع عمليه ، فيجيب بأنه بصدد الإعداد لذلك ، لكنه يبدو أنه كان زاهدا في النشر مثله مثل أستاذنا الدكتور أمجد الطرابليس وأستاذنا أحمد اليبوري الذي لولا إلحاح طلبته عليه بضرورة إخراج أعماله للنور لما فعل. وكم كنت معتزا عميق الاعتزاز حين رأيت أستاذي وصديقي الكبير سي أحمد الإدريسي في حضرة نجيب محفوظ ضمن مجموعة من ادباء ومثقفي المغرب في جلسة أدبية نقلتها وسائل الإعلام المغربية. وأعرف أنه كان من قراء نجيب محفوظ المواظبين المواكبين لجديده. الأستاذ الدكتور الادريسي نابغة من نوابغ تطوان والمغرب ، لا يجود به الزمان إلا نادرا ، وقد خسرناه وهو في قمة عطائه ونضجه. رجل لا يمكن أن يمحوه النسيان من ذاكرة الثقافة المغربية ولغتنا العربية الجميلة وآدابها. رحمه الله رحمة واسعة .


* عبدالجبار العلمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى