رضا أحمد: الكتابة فى غياب الموهبة تنتج كائناً مشوهاً.. أجرى الحوار: إيهاب محمود الحضرى

تؤمن الشاعرة رضا أحمد أن الشعر يختار صاحبه، وأن كل محاولة للكتابة الإبداعية فى غياب الموهبة تنتج كائنًا مشوهًا وإن كان رائع الشكل مشتعل الأحاسيس، بمعنى أن الكتابة ليست صنعة بل تحفيز لأدوات تملكها تحت وعى وإدراك.

وفى ديوانها "لهم ما ليس لآذار"، جاءت القصائد كلها بأرقام لا عناوين، جاءت ﻣﺮتبة فى شكل متوالية ﺷﻌﺮﻳﺔ، أرادت رضا أن تكون ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﺪﻻﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﻤﻴﺎﺋﻴﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻤﺘﻦ ﺍﻟﺸﻌﺮى تحت هذا العنوان الرئيسى، كما حرصت على أن تكون ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﻧﺼﺎً ﺷﻌﺮﻳﺎً ﻭﺍﺣﺪﺍً، ﻭإﻥ ﺗﻨﻮﻋﺖ ﻣﻀﺎﻣﻴﻨﻬﺎ ﻭﺻﻮﺭﻫﺎ ﺍﻟﺸﻌﺮﻳﺔ.

صدر لرضا ديوانان، الأول بعنوان "لهم ما ليس لآذار"، والثانى هو "قبلات مستعارة".

قصائد ديوانك "لهم ما ليس لآذار" كلها بدون عناوين بل أرقام.. هل قصدت بذلك أن تصدرى فكرة عن الديوان أنه وحدة واحدة؟ أم هو رفض للأسماء كمعطى ثقافى؟ فى حين تنتصرين للمعنى، للشىء، للرمز، هكذا دون توصيفات أو أسماء؟

التخلى عن العنوان، كعتبة ذات دلالات إيحائية تشكل حدود النص وتوضح معناه وتساهم فى تقرير مضمونه، يعتبره البعض تشكيلا غريبا على أدب هذه المرحلة، رغم أن النص الشعرى الحداثوى دائم التغيير وفى تنوع مستمر لأشكاله وصيغه التى تواكب طبيعة وسرعة تدفق إيقاع العصر والذائقة المتغيرة للمتلقى، وهنا أرى أن العنوان ليس بريئا من قصدية الشاعر، أشعر أحيانا أنه لافتة يحملها ملك نزل بها أمام قارئ منهمك فى تمزيق نص يحثه على تركه وألا يشغل رأسه به ويخبره أن الشاعر يقصد هنا هذا وهذا وهذا، كقارئة أشعر بالاحباط أننى وقعت فى فخ شاعر يعتبرنى ساذجة أنا أيضا، لذلك فى ديوانى الآخر "قبلات مستعارة" جعلت العناوين تعليقات ساخرة على القصائد بصيغ تهكمية، الابتكار ليس داخل النص فقط وإنما فى البناء المعمارى للديوان.

ﻗﺼﺎﺋﺪ "لهم ما ليس لآذار" ﻣﺮتبة فى شكل متوالية ﺷﻌﺮﻳﺔ، أردت أن تكون ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﺪﻻﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﻤﻴﺎﺋﻴﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻤﺘﻦ ﺍﻟﺸﻌﺮى تحت هذا العنوان الرئيسى، الذى يمثل بينة إشارية دالة وكافية، على أن تكون ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﻧﺼﺎً ﺷﻌﺮﻳﺎً ﻭﺍﺣﺪﺍً، ﻭإﻥ ﺗﻨﻮﻋﺖ ﻣﻀﺎﻣﻴﻨﻬﺎ ﻭﺻﻮﺭﻫﺎ ﺍﻟﺸﻌﺮﻳﺔ، فهى ﻣﺮﻗﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺴﻠﺴﻞ دون سيرورة زمنية محددة حيث البعد الزمنى والمكانى والأصوات ليست قيودا على تتابع الحالة وتناميها الدرامى الذى تتيحه الأرقام كرموز، هذه القصائد تربطها ﻋﻼﻗﺎﺕ ﺗﺠﺎﻭﺭﻳﺔ وتناغم ودلالات بين ﻣﻮﺿﻮﻋﺎﺕ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﻀﺎﻣﻴﻦ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ فى ﺗﻨﺎﻭﻝ ﺍﻟﻬﻢ ﺍﻹﻧﺴﺎنى ﺍﻟﻮﺍﺣد باختلاف صوره، ﻭﻗﺪ ﺗﺮكت ﻣﻔﺘﺎﺡ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻘﺎﺭئ فى محاولة فهم أبعاد النص الرمزية والدلالية لأننى أثق فى وعيه، ﺣﻴﺚ ﺃﻥ العنونة ﺗﻜﺜﺮ ﻣﻦ ﻗﻴﻮﺩ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ فى ﺑﻌﺾ ﺍﻷﺣﻴﺎﻥ وأنا أبحث ﻋﻦ الحرية التى تمكننى كل مرة من ابتكار تقنيات جديدة والانطلاق نحو ﻧﻤﻄ ﺷﻌﺮى ﺫﺍﺕ ﺭﺅﻳﺔ ﻭﺷﻜل ﺇﺑﺪﺍعى ﻣﻐﺎﻳﺮ يخصنى وحدى.

"الرب.. الكنيسة.. المسيح.. المخلص".. تتردد هذه الكلمات فى ثنايا الديوان، وهى مفردات تكشف عن غرام بفكرة الخلاص المسيحية.. هل ترين الخلاص المسيحى هو أقرب الأشكال الإنسانية لمفهوم الرحمة؟

أؤمن دائما أن الرحمة هى حيلة دفاعية تأتى دائما كخطوة تعقب اعترافنا لأنفسنا بخطأ ما وإعادة النظر إليه بنضج أكبر حتى نصبح فى جاهزية لتخطيه وتقبل ما سببه من أضرار أو الاستمرار به، لكن إعطاء أنفسنا مساحة زمنية للتساؤل عن مكان المغفرة ومن يتكفل لنا بها قد يكسبنا بعض الوقت لنستمر فى تجاهل أفعالنا، ليست هناك سلطة أعلى من ضميرى الشخصى والتحدث معه بطواعية صادقة هو كل ما يلزمنى كى أرمم روحى المهشمة دون أن ينتقص هذا من جسدى عضواً أو تعلق راحة بالى طوال حياتى على محفة النار، الخلاص هو معمل تكرير دائم لأفكارنا المتواضعة عن تقبلنا لكل ما يحيط بنا لنغادره دون أن نؤذى أيا كان، هناك غضب وصراع داخل كل إنسان يحمل حزناً كبيراً، وأسئلة تؤرقه خلال مسيرة تجربته، أعتقد أن بعضنا مذنب لأنه خذل سابقا أو لم يتفق والظروف المؤثرة به، الخلاص هو قدرتنا نحن على الغفران، هذه هى فلسفتى التى من الممكن أن تتفق والخطوط العريضة للمحبة فى المسيحية، لكنى هنا باستخدامى بعض رموز المسيحية حاولت ﻣﻌﺎلجة الموروث ﺍﻷﺳﻄﻮﺭى برؤية مختلفة ﻭﺇﻋﺎﺩﺓ إنتاجه بشكل يتلاءم مع الواقع المعيش ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺑﻌﺚ ﺍﻟﺮﻣﺰ وتحريضه ﻭﺗﻮﻇﻴﻔﻪ تحقيقا لرؤيتى ﻭﺃﺑﻌﺎﺩﻫﺎ ﺍﻟﺪﻻﻟﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﺩﺓ.

"أعدك برواية ملفقة.. بديلا عن الحزن العالق فى عينيك".. هل نلفق الفن؟ هل الفن وهم نمنى أنفسنا به ونعيش داخله هربا من واقع أو تجميلا لهذا الواقع؟ هل الفن كذبة جميلة أم صدق صافٍ؟

أعتقد أن الصدق والكذب أهون هموم المبدع لأنهما مفاهيم نسبية على طرفى جسر بينهما، حقائق ذات وجهين يختلط فيها علينا الأمر، وفى نفس الوقت أعتقد أنه طرح مبسط لأمور غاية فى التعقيد مثل الفن، المبدع مشغول باستخدام وسيط جيد كاللغة والرمز والمخيال لإخراج منتجه بشكل مغاير، نرى كثيرا كتاباً يعانون فعلا ولكن منتجهم هش وسطحى يفتقد التقنية السحرية واللغة العميقة ليصل إلى القارئ ويلمسه وفى نفس الوقت هناك كاتب يعترف أنه كاذب ولكنه يجد طريقه إلى المتلقى ويمتلك وعيه وإدراكه.

شخصيا لن أقول إن الكتابة هى طريقتى فى خلق عالم مواز، فأنا أرى أن ما أكتبه حقيقيا وأكبر من أن تحكمه أبعاد دلالية، مع إقرارى بحق المتلقى فى أن يعتقد ما يشاء، ولكنه ذنبى فى أننى أرى أشياء يجب أن أواريها حتى أنساها وأتخلص منها ولا أضطر للعيش معها وحدى، أفترض دائما أنه يجب على شخص ما أن يسألنى ولكن كل ما حولى هو الصمت دائما، لذا اسأل نفسى وأتحاور معها وأتجاوزها إلى العالم أثناء الكتابة، كل قصائدى هى ما كان يجب عليه أن يظل فى الصمت منعزلا ووحيدا داخلى.

كل مبدع يحاول طرح رؤيته من خلال تجاربه ومعرفته ونتاج اشتباكه مع الواقع أمام متلق مضلل ومشغول بصراعاته ورؤيته المحدودة لذاته، والإبداع هنا أن تبث الحياة فى منتجك ليكون مقبولا لمتلقى عليه أن يجد نفسه تحت أحد شخصياته ويخوض تجاربها ويشعر بغرائزه تسقط فى مسار انزلاقها الإنسانى، الإبداع يطرح رؤى جديدة لحقائق تعيش بينا ويجعل القارئ يأخذ مكانه فيها ويتعرف على صدق حواسه ومدى فاعليتها ويعصف ذهنه ويلقى ببصيرته لأبعد من حدود عينيه وانفعالاته المختزلة، الرواية الأخرى ليست كذبة ولكنها حياة مستأجرة لبعض الوقت تنسيك أثراً عميقاً داخلك أو تجعلك تتكيف معه كوهم أقل فداحة من حقائق كشفتها القصيدة.

"أعرف امرأة عجوز تغزل بأصابع نسوة ضريرات وسادة ليل لنجمة وحيدة طفلة تسرق كرز الجاتوه وتختبئ بجريمتها فى سلة الغسيل، شابة تعيد رصف ذاكرتها الحلوة بمربى التين ومكعبات الثلج، وطالبة تفكر بالجحيم الممتد فى عينى مدرسها الصلف".. بدا لى، فى أكثر من قصيدة، أنك تتعاملين بفلسفة ما فى الديوان، حيث تريدين رصد الإنسان فى حالاته المختلفة والمتعددة...

الحياة بطبيعة الحال لا تسير على وتيرة واحدة، لا تستطيع رصد ملامحها داخل صورة بناء على خبراتك فقط، الكتاب يقرأ من الهامش لا العنوان، ما أن ألمس شيئا يضىء ويبعث فىَّ رغبة لأتعرف عليه وأرى نفسى مكانه، أظل أربت عليه أتفحص ملمسه، أتذوق طعمه أشم رائحته، أضعه قرب سريرى تحت ملابسى، أفعل كل شىء لأطلع على أسراره، لذلك حين أعرض عليك رؤيتى عنك تأكد أنها كانت مغامرة عشتها أنت على طريقتى بكل ما تحمله من تفاصيل.

أشعر أحيانا أن الزمن كائن هلامى يبحث عن هوية يدرج تحتها خبراته المختزنة وفى حاجة إلى الآخرين ليكفلوا له حياة ملموسة، قد يعيش طفل حياة قاسية لا تلم بها خبرات عجوز بعد الستين، وقد تلوك عجوز الحلوى لتفتقد نصائح أحدهم لها وهى صغيرة بالتقليل منها خوفا على أسنانها، إذا الزمن ليس مسؤولا عن ما يحدث داخلنا ولا الصورة التى تتسرب إلى الناس عنا، هذا ما أسعى لأخبر الجميع به حتى لو جعلته ما أشعر به محملا بذاكرتى وتجاربى وكل خبراتى، أكترث وقتها لأزمة الإنسان وصراعه لتحقيق ذاته ودرجة وعيه ورغبته فى الإفصاح عن مخاوفه وانحرافاته حتى لو استخدمت لغة قاسية فى نقل الخدوش التى تعرفت عليها فى روحى أيضا، هكذا تكون القصيدة "أنا الرهينة، ما يجب أن يكون عليه الآخر".

أن تجتمع الفلسفة بأسئلتها ذات العمق الدلالى ممزوجة بمتعة الشعر وبعده الرمزى فهذا أقصى ما يريده كل مبدع يسعى لبقاء منتجه، التفسلف ليس ﺗﻘﻨﻴﺔ ﻭﻻ خيارا فى ﺍﻟﻜﺘﺎبة، كل ما فى الأمر أنك حين تكتب تطارد ذاتك الممتلئة بالتفاصيل والأفكار وتصورات تخصك أنت عن الآخرين، وتحت محفز ما تمسك باللحظة الآنية بكل ما تحمله من التباس وطموح وإن يكن مثلا ضوءاً اشتعل فى ندبة قديمة على ذراعك، تترصدها وتعريها وتؤرخ لجسدك قبل هذا الندبة وبعدها، وقد تقبض على السكين التى تلوثت بدمائك وتفاوضها بينك وبين ثمرة تفاح، فيما المحفز الناتج عن هذا الجرح يلح عليك أن تكتب لكنك تجد أنك تحتال تحت وطأة رمزية أخرى تجعلك تختبئ فى أداء شعرى جديد وتنتحل وجودا إضافيا لأنه الفعل الوحيد الذى تمارس فيه حريتك، القصيدة تحت وصيتك وإن كانت واقعا مألوفا لكنك استخدمت وعيك لترويض أفكارك، حتى لو خضت ألما ومخاطرة لتجربته لم تقبل بالمضمون أو تنحاز للعادى أو طريقة دائمة للأداء الشعرى يشارك فيه القارئ فرضيات أخرى دون أن تبتزه أو تستدر تعاطفه.

هل الشعر اختيار؟

الشعر يختارنا، لا نختاره، كل محاولة للكتابة الإبداعية فى غياب الموهبة تنتج كائنا مشوها وإن كان رائع الشكل مشتعل الأحاسيس، الكتابة ليست صنعة بل تحفيز لأدوات تملكها تحت وعى وإدراك، أندهش من محاولات البعض نحت تجارب ونصوص الآخرين ليأخذوا لقب شاعر كصفة أو وضع اجتماعى يجلب لهم الشهرة والمنفعة الشخصية، وأرى أنه سرق نفسه من موهبة أخرى وفن كان سيبدع فيه لولا طمعه وعماه عن ذاته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى