ياسين طه حافظ - خسارة البعد الآخر..

ليست قراءة الشعر هي الوحيدة التي تغير مستواها بين قارئ وآخر. إنْ لم يكن هذا التغيير في دلالة الألفاظ أو في ذائقتها و موسيقاها، ففي جماليات الانساق والسياقات، والأكثر الشائع في فهم السطور ثم في فهم مجمل القصيدة أو مجمل العمل الفني.

وذهبت التحليلات اجتهاداً مناحي شتى فمن يقول بعدم فهم معاني الكلمات ومنهم يقول بلا فهم القصد أو المقصود. وهذا يعني غربة مضمون العبارة او مضمون القصيدة كلها . ومن هؤلاء ويليم أميسون الذي كتب "سبعة انماط من الغموض". وقد ترجم هذا الكتاب الى العربية وصدر عن المركز القومي للترجمة في مصر. واهتم الكتاب اهتماما واضحاً بموسيقى الكلام وتحولات معنى العبارة مع تحول أو تنوع الصياغات. ولنا في العربية كتابات فيها تفوق المستوى الثقافي واختلافه بين كتاب الشعر وعموم الادب والقراء، متغاضين عن أن بين كتاب الشعر أنفسهم وعموم الكتاب، الكثيرون لايفهمون ما يريد اصحابهم.

ولعل فيما ورد في كتاب "الشعر و العصر" Poetry and Age للشاعر راندل جاريل Randall Jarrell ، إيضاحاً لجانباً ما انتبه له كثيرون. وقد بدء الكلام بتساؤله : هل من لا يفهمون الشعر من المدمنين على قراءته ؟ ثم انتقل لمناقشة لا عدم الفهم ولكن صعوبة الفهم مع التخصص وطول القراءة .. ولعل قوله أو تساؤله : هل الشعر المعاصر وحده لا يُفهم أم أن الشعر في كل زمان لم يكن دائماً مفهوماً ؟ وحتى المفهومات التي كانت تتيسر لنسبة متراوحة منهم، فهي دون ما يرضي ودائماً ما تخسر القصيدة معهم بعضاً من ثرائها.

النتيجة إن الكثيرين من الناس مثلما الكثيرين من القراء والمهتمين، صار قولهم المتكرر والمعتاد : ان الشاعر "غامض" وأنه "صعب" و في الاخير "لا يُقرَأ". وغالباً ما يحصل لهم خلط بين معنيي الكلمة، غامض وصعب، فيعوضونها بـ لا يقرأ لأنه صعب. ولا يسعنا إلا القول إن هذا أحياناً صحيح وأحياناً خلافه هو الصحيح. وهكذا نحن بين فئتين لا رضا بينهما ولا اقتناع.

لكني الآن أسئل، لا بقصد التفنيد والاعتراض ولكن قصد الوصول الى ما يُقنع ويصوّب أو يهدي : وهل الجميع يفهمون المقصود بقطعة علمية ؟ وهل الجميع يفهمون فهماً صحيحاً ما يقصده الدارس الاجتماعي أو المكتوب عن المعمار والري والفضاء؟ لماذا ؟ لأننا أولاً غير متخصصين وثانياً لأننا غير مدمنين ولا معتادين على قراءات مثل هذه. وكلما اطلنا وأكثرنا من قراءاتنا لأي موضوع، ألفناه وكسرنا غربته.

فالشاعر يبدو "صعباً" لأنه لا يُقرَأ كثيراً. أنت تفهم صديقك أكثر من صاحب المعرفة العابرة به.

مسألة أكثر أهمية، أساسية ، هي أن العالم تغير ثقافياً واجتماعياً. وهذا جعل الشاعر المقروء قليلاً وفي المناسبات السانحة، صعباً وصار الجمهور بعيداً عن كل انواع الشعر، بل وعن بعض الفنون أيضاً، الرسم والنحت والموسيقى، مثلاً.

إذاً ثمة نوع من الطلاق بين الشاعر المهموم بنفسه وبما يهمه من أفكار وبين الجمهور المشغول حد الاستنزاف بكسب العيش ومتاعب الحياة أو بتخصصاته أو هواياته الجديدة. كانت إذاعة، ثم فضائية الـ B.B.C. تخصص ربع ساعة في الاسبوع للقراءات الشعرية وعادة ما يختارون للقراءة قصائد ذوات مساس بعواطف أو باهتمام المستمعين أو المشاهدين. وهذا شبيه بما يختاره عديدون منا للقاعات من هجاء للأوضاع الاجتماعية او الغمز الجنسي او الطرائف. وقصائد مثل هذه مثيرة عادةً للقاعة ومؤسفة عادة للفن. ومثل هذا ما نشهده اليوم من موسيقى سريعة وغناء تهريجي للإلهاء أو للتسلية والارضاء.. فالحديث عن الشعر منقطعاً عن عموم الظاهرة، حديث غير علمي.

مع ذلك، وفي الاحوال كلها، لو اعتدنا على، لو ادمنا القراءة لشاعر، لما همّنا غموضه وإذا ما انقطعنا عن القراءة وصار الشاعر خارج اهتمامنا أو محبتنا، فمنتهى وضوحه لا يعنينا!

أما أن بعض من الشعراء، وهذا حقهم، يبتدع له نهجاً في الصياغات وله أحياناً قاموسه ومزاجه الشعري الغريب علينا أو عما نألف، فأكيد لن تكون سهلةً قراءته الأولى وستكسر غربته الألفةُ من بعد. وفعلا ألفنا قراءة شعراء استغربناهم من قبل.

تبقى ملاحظة أخيرة، أو تساؤل غريب : هل هذه مشكلة الشعر المعاصر وحده أم لازمت الشعر في الأزمنة؟ تساءلَ ماثيو آرنولد مرةً : لا جملة في "الملك لير" لم أعد قراءتها مرتين أو ثلاث .. وفي العربية، ونحن قراءتها وهي لغتنا ونحن مدمنو قراءة شعر ولغة يمكن ايضاً ان نسأل: لماذا تشغل رفوف مكتباتنا الشروح؟ وهل من يستغني عن شرح المتنبي وأبي نؤاس وأبي تمام ولا أقول ابن عربي؟

ختام الحديث، وقد كان خاطفاً موجزاً لمسألة تطول: نحن قد نفهم القصيدة المتهمة بالصعوبة وقد يفهمها غيرنا وسواه، ولكن الخشية دائماً من ضياع البعد الأهم، البعد الآخر فيها، ومع البعد الآخر روح الفن...


* عن جريدة المدى
أعلى