عبد المنعم رمضان - «لعب مع ماريا»..

في أثناء وقوفي الطويل أمام ماريا، خرجتْ من قلبي شجرة توت خضراء كنت أحلم أن أصعدها في طفولتي، ولم أستطع بسبب خوفي من الصعود، وها أنذا الآن أحاول أن أغالب خوفي وأطارد ماريا حتي أعلي غصن، علمني الآباء وعلمتني الأم وعلمني الشعر كله أن اللغة إما أن تكون كلامًا أو تكون نظامًا، وأن القواميس هي مثال النظام، لأنها عامة ومجردة، أما مثال اللغة، مثالها الأول عندما تكون كلامًا، فهو الشعر، الشعر الحميم الشخصي متعدد النكهات، قرأت ماريا، قصيدة عبد الرحمن مقلد، بإحساس يفوق بعض خيباتي المتتالية التي أصابتني بالملل، التي أصابتني بالرغبة في أن أعترف أمام كُـتبي وأمام وجهي في المرآة وأمام زوجتي وابني وأمام ما يقارب السبعين من عمري وأمام كل الآخرين، أن أعترف بأنني مللت التجريب والمهارة، مللت قصيدة النثر بعدما أصبحتْ تحيطني من كل جانب، كأنها محض مَسٍّ، كأنها محض عكارة، وأصبح ضجيجها يفوق ضجيج القصيدة الموزونة.
كما أن تقاليدها صارت مع الوقت أضيق من تقاليد الأسلاف، وعلي الرغم من أنني مازلت أنتظرها كَبُشْرَي، إلا أن الأكثر إيلامًا، أنها أصبحت عند البعض وكأنها تسكن مرغمة داخل لغتها العربية وتنتظر لحظة فرارها إلي لغة أخري، فهي طموحة تريد السكني في الأدوار العليا، الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والخليجية... والعبرية، لأن انتقالها إلي إحداها أيسر من انتقال سواها، العموديّ والتفعلية، في السبعينيات كنّا نزهو ونعتبر لسان شوقي لسانًا عامّا، ونقول له: اذهب بعيدا عنّا يا عم، فعندما لا تكون اللغة كلامًا لا يكون شعرٌ، يكون تقليدٌ.
كنّا نعتبر لسان شوقي لسان تقليد، حتي لسان أحمد حجازي في لحظة تالية اعتبرناه لسان تقليد، وأكثر منه لسان أمل دنقل، ومثلهم المغنية أم كلثوم التي قلنا لها: اذهبي بعيدًا عنا يا أم.
سأعترف إذا استطعت، أنني الآن، الآن الآن، أحنُّ إلي بعض الموسيقي، إلي بعض الكلام الذي يعقبه صمت، والصمت الذي يعقبه كلام، وهذا يوجد بجلاء أحيانًا في بعض قصائد النثر، اقرأوا نشيد الأنشاد، اقرأوا مواقف النفري، اقرأوا المفكرة الريفية، سأعترف أيضا بأنني بسبب انقيادي وراء صوت أمي وأنا طفل، بسبب انقيادي الآن وأنا عجوز سأعترف بأنني مللتُ السياسة، خاصة سياسة الشعر، وتمنيت لها أن تغيب عن القصائد، أن تسقط منها، أن تخجل وتختفي تحت أحذية المارة، أن تصبح ورقة ملوثة مصيرها اللازم سلة المهملات.
مللتُ حتي الشعراء الذين سبقوني وهُمْ هُمْ، والذين زاملوني وهُمْ هُمْ ، مللتُ الجحيم الأسود جحيم شعري وهو هو، وتمنيت أن أستريح وأمشي وراء شخص ضعيف خائف يمشي ببطء خلف حلمه، ولا يملك إيجاده إلا بالهرب منه إلي ألعاب الأطفال، هذا الشخص كان ظلي، وعلي الرغم من أنني مللتُ ظلي أيضًا، إلا أنني تبعته، وعندما رأيته يتشبث بماريا، اخترت أن أتشبث مثله، بعدها رأيته يتشبث مع ماريا بصيد اللغة من أقرب مكان يصل إليه اللسان، فحاولت أن أفعل، كانت ماريا طفلة صغيرة يتسع عالمها ليصبح أرحب من عالم الكبار حولها، دمية ماريا وسمكتها وأراجوزها وأغنيات ضفدعها وبطتها وسرب طياراتها الورقية وبنادقها، كلها معًا كانت تلعب لعبة الحرب.
في قصيدة ماريا، في قلب القصيدة، الحرب لعبة، حول قصيدة ماريا، حول تخومها، الحرب إبادة، القصيدة تمكر وتضعنا في نطاق الاثنين اللعب والإبادة، القصيدة تخشي أن نندمج، وتتمني أن ننحاز، حتي إذا انكسر جسر قصيدة ماريا وامتزج العالمان اللذان أصبحا يمثل أحدهما الآخر، الخارج برؤسائه البشعين ذوي النفوذ والسطوة ذوي الجهامة، والداخل برئيسته الطفلة الهشة ذات الفطرة والطهارة، ذات الروح، وأحدهما لابد أن يهزم الآخر، أحدهما لابد أن ينهزم، ولكن لحظة قراءة القصيدة هي لحظة الفصل، لحظة البراءة، لحظة انتصار حرب ماريا، علي حروب السياسة والسياسيين البشعين والدين والطبقات والأشكال والأنواع.
إياك أن تعتقد أنها لحظة مغشوشة، فشيخوخة عالمنا التي تهددنا بقسوة، تهددها طفولة ماريا برعونة وبهمس عفوي، تصبح القصيدة هكذا مفتوحة علي داخلها بطفولته وعلي خارجها بوحشيته، وتصبح الطفولة أو ماريا هي قارب خلاص وحيد فيما لو أنها ترأست العالم، فيما لو أنه انتبه إليها المتنبي وبودلير ورامبو، ولو أننا نسينا الوزن واللاوزن، ونسينا أنفسنا، وجلسنا نتعلم من ألعاب ماريا، لعبة أن نكون أو لا نكون، جلسنا نقرأ بصوت عال ما يساعدنا علي الهروب بعيدًا عن قصيدة العمود وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وقصيدة البياض والأنواع الأخري.
جلسنا نقرأ بصوت عال ما يساعدنا علي الإبحار قريبا من الشعر واللاشعر، ماريا لا تعرف كل هذه المزاعم، تعرف أكثر الإبحار قريبًا من أعماقنا، لذا أظن أن ماريا، وعلي الرغم من بعض الهنات، من بعض الزلل، من بعض اللجلجة، سوف تصعد معي شجرة التوت الخضراء التي لم أصعدها في طفولتي، وسوف معًا نهز الأغصان ونسقط الحبات بألوانها المختلفة، علي رؤوس الشعراء الذين أتمني لها أن تشاركني فيهم، أدونيس وأنسي الحاج وسعيد عقل ومحمد الماغوط وسعدي يوسف وفؤاد رفقه وشوقي أبو شقرا والسياب وصلاح عبد الصبور وميشال طراد وصلاح جاهين، وإذا همست ماريا بينما هي تلعب باسم عبد الرحمن مقلد سآمرها أن تنتظر حتي يأتي بأخواتها وذريتها، ولمّا يفعل، سنسعي كي نكتبه هكذا: والجواهري وبدوي الجبل وسليم بركات وسركون بولص وعباس بيضون ومحمد علي شمس الدين ونزيه أبو عفش وقاسم حداد وأحمد طه وعبد الرحمن مقلد... إلخ إلخ إلخ.

ماذا يا ماريا
لو أنكِ أصبحتِ رئيسةَ هذا الكون
لو بدلت جيوشَ العالم بجنودك
واخترت الدُميةَ قائدةً
والسمكةَ مسئولةَ قوات البحريةِ
والأرجوزَ رئيسَ الحرس
وغني »الضفدع»‬ مارشالَ الحرب
ما لو أعطيتِ الجُند بنادقَ من خَرزٍ
وتبادلنا اللهوَ الكونيَّ
هنا في الغرفةِ
وأدرنا المعركةَ
قذفنَا نحو الأعداء
قنابلَ من عَلَكٍ
ورصاصًا من ماءٍ
ودفعنا »‬البطةَ» في الصف الأول
وتساقط سربُ الطياراتِ الورقية
ماذا لو طاوَعنا الأعداءُ
وخرَّوا صَرعي
وأعادُوا الكرة وسقطنا
نحتبسُ الأنفاسَ
ونضحكُ بهدوءٍ
كي يحتفلوا بالنَّصْرِ
وينكسرَ الحزنُ الدائمُ
في قلبِ أبيك
لو أصبحتِ رئيسة هذا الكونِ
وناديتِ الشعراءَ من الشُباكِ
لكي نتشاركَ في هذا العرسِ
وتتسعَ الغرفةُ بالإنشاد..
مثلا
يُسْمعُنا المتنبي »‬شدويةَ مدحٍ»
في عينيك
ويبارك رامبو
مركبك النشوان
يواسينا بودلير بباقة أزهار أخري ..
ماذا يا »‬ماريتي» الحلوة
لو دوامَ هذا الفرحُ..
بقيتُ قويًا ومعافًا
في البَيْتِ
طولَ الأيام المقبلة
لم أخرجْ لتقابلني النظراتُ القاسيةُ
ولا العرباتُ المُسرعةُ
ماذا لو أصبحتْ الغرفةُ كوني الكاملَ
وانتظرَ الموتُ لأقصي زمنٍ
لأظل هنا في البيت
أراقبُك
وأعبثُ في خُصلاتِ الشعرِ الأصفرِ
أركضُ كالقِطِّ
أقلدُ أصواتَ الدِيَكَةِ
أحضنُ دُميَتَكِ
وأشكُوكِ لها
وأنوحُ
وأنصبُ فخًا
أسقطُ كالصَّيادِ الخائبِ فيه
ولا أتعلمُ في المرةِ تلو الأخري.


* هذه المقالة منشورة في كتاب «الشهيق والزفير» للأستاذ الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان، الصادر عن «منشورات المتوسط»، بعنوان «لعب مع ماريا» عن قصيدة «ماريا» ضمن ديوان «عواء مصحح اللغة» الصادر عن «منشورات الربيع»
--------------------------


تعليقات

أعلى