صابر رشدي - جميلات كاواباتا اللواتى سحرن ماركيز..

إذا أردت أن تقرأ رواية ماركيز ( ذكرياتي عن عاهراتى الحزينات ) فلابد لك من قراءة رواية أخرى، وهى ( الجميلات النائمات ) لكاواباتا، حتى تعرف إلى أى مدى لم يستطع الأول أن يحقق نجاحا مناسبا لاسمه الضخم، وماهى الدوافع التى أدت به إلى كتابة هذا العمل.
إن جابرييل جارثيا ماركيز الساحر الكولمبى الشهير، الذي لاتعوزه الموهبة والخيال المجنح، خانه ذكاءه للمرة الاولى، وأوقعه عشقه لكاواباتا وعمله البديع فى مأزق كبير، فبدلا من إكتفاءه بالمقدمة التى وضعها للرواية وصاحبت ترجماتها الى كل لغات العالم، ظل طوال الوقت يحمل رغبة دفينة فى إنجاز عمل مشابه لها تعويضا عن عدم صدور هذا النص الذى فتنه وسيطر على ذائقته، من أصابعه هو التى تجيد العزف على الألة الكاتية ببراعة منقطعة النظير.
إن عقد مقارنة سريعة ستبرز بالطبع عمل كاواباتا، بدءا من العنوان، مرورا بكل أحداث الرواية حتى نهايتها، فكل شئ منطقى، مترابط، ولا يتعارض مع هذا الحس الشفيف، الراقى، للمجتمع اليابانى الذى يحافظ على هذه المشاعر، ويستر مثل هذه الخطايا على نحو يتفق تماما مع تركيبته النفسية وتراثه العريق. أما فى كولومبيا ، هذا المجتمع العنيف، الذى يعج بالحريمة وحروب العصابات، فمن الصعب توافر الشاعرية التى بثها كاواباتا فى ثنايا سطوره، فغلفت الرواية بآسى إنسانى يجبر المرء على التعاطف مع مايحدث. فعمر البطل يناسب مثل هذه السقطات الإنسانية، فهو فى منتصف السبعينيات، لقد استطاع السرد الهادئ، والعميق ، والتكثيف، وسهولة النقلات التى لاتخلو من الدقة والتركيز أن تسبغ على العمل أجواء خاصة به ومبررة، فكاواباتا كاتب عبقرى ، له عالمه الخاص، وأسلوبه النابع من ذاته، من مجريات حياته التى لاتنتج غير هذا الاداء وسيلة للتعبير.
أما العم ماركيز، الكاتب الفذ ، والروائي العظيم، الصديق الأقرب إلى قلب وحواس كاتب هذه السطور، فقد استسلم تماما لسحر وغواية الجميلات النائمات، وظل تحت هذا الآسر لفترة طويلة، وراح مدفوعا بالعشق والمحبة والافتتان، يحاول التخلص من شباك هذا الهوس، والتعلق الشديد، الذى لم يبارحه رغم مرور السنين، لكنه فى النهاية قام بتخليد كاواباتا على المدى البعيد، واضعا عمله هذا فى بؤرة الاهتمام الدائم، فقد كان يفتعل الاحداث إفتعالا، ويلجأ إلى آليات سرده لبناء عمل لايتناسب مع إمكانياته الجبارة، خاصة وأنه أحد سادة السرد الروائى الحديث، وبطله كان رقيعا ومبتذلا، لايثير التعاطف، وهو يقارب المائة عام، مكانه الطبيعى دار للمسنين والعجزة، يحتاج إلى الترميم ككيان معطوب، إنه أحوج الى الراحة، وإجترار صور الماضى البعيدة، ربما أعانته على تمضية ماتبقى من أيام فى هدوء مناسب لوقار هذه المرحلة.
لم يوفق ماركيز فى تجاوز عمل كاواباتا، أو تطويره على نحو أفضل، رغم أن معظم أدواته كانت تعمل بكامل طاقتها ، البناء، والسرد ، واللغة الرائعة، الغنائية الشهيرة التى دفعت به إلى المقدمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى