نبيل عبد الفتاح - الشاعر والمترجم (محمد عيد إبراهيم)* تجلي الجميل

إنسان فرد موهوب وجاد في عمله، أدرك باكرًا أن عالمه هو الإبداع والعمل الثقافي المنظم في دأب واجتهاد واقتدار، وذلك في تغاير مع بعض الأساطير الشائعة حول الكتابة والكتاب، والشعراء الغاوون، حيث الغرابة، ومحمولاتها وبعض من سلوكياتها التي تمد هذا النمط من الصور الغرائبية حول الشاعر والكاتب، وانتهاك المألوف من أنماط الحياة السائدة في القيم والأخلاقيات الدينية والوضعية التي تهيمن، وتصيغ حياة الجموع، وتهندس سلوكهم وإدراكاتهم، ووعيهم المحاصر ضمن الهندسات الأخلاقية والدينية المسيطرة، وطموحاتهم ونزواتهم. محمد عيد الصديق الغالي –الراحل المقيم- مبدع أدرك عن وعي موهبته، وخياراته الحرة في الانخلاع عن المدارس الشعرية التاريخية الكلاسيكية والحديثة، وأنها غير قادرة على استيعاب موهبته ورؤاه وعالمه وصوره وتراكيبه وتجاربه وأسئلة عصره ووجوده. من ثم أختار الإبحار فى فى فضاءات واسعة في سعيه إلى معرفة عالم جديد مفتوح على الشرط الإنساني الجديد والمختلف، وعلى عمق الألم الإنساني ودواخله الفردية الكونية وخروجه السافر عن لاهوت الشعر المسيطر على حياتنا.
محمد عيد الجميل ذو الروح اليقظة والعقل الخلاق شاعر استثنائي بين موهوبين من مجايليه والأجيال اللاحقة من شعراء قصيدة النثر فى مصر وعالمها العربي. استثنائية ارتبطت بعالمه الشعري الخاص ولغته وقاموسه واستثنائية تكوينه الأدبي الجمالي واللغوي التي تنطلق من المعرفة والدأب والمتابعة للإنتاج الأدبي المصري والعربي، والأهم متابعته الدؤبة للإنتاج الإبداعي الروائي والشعري العالمي في اختياراته المتميزة، وبعضها غير معروف لدى الكثرة الكاثرة من المثقفين والمبدعين.
الصديق الشاعر والمترجم والمثقف الكبير محمد عيد إبراهيم اتسم بالطابع الريادي في مبادراته الترجمية الشعرية والروائية والنقدية التي لوهلة تكشف عناوينها عن ذائقته الرفيعة وحساسيته الخاصة ومنها قصة حب للكاتبة آن سكستون، ونهايات للعظيم ديرك والكوت، والهايكو ورحلة حج بوذية يابانية، وديوان الشعر السويدي، وجمهورية الوعي "مختارات شعرية"، والنمر الآخر أشعار بورخيس، وسبع قصائد لبول أوستر. عوالم شعرية متعددة ترجمها ببراعة إلى العربية، على نحو يكشف عن انفتاح وأنشغاف واطلاع على عوالم رحبة من الإبداع الشعري الكوني. دور المترجم القدير لم يقتصر على الشعر، وإنما امتد إلى الرواية حيث ترجم للعظيمة "توني موريسون جاز"، و فالس الوداع ل"كونديرا"، وفنانة الجسد ل"دون دبيليو"، وجوستين ل"الماركيز دو صاد"، وبنت مولانا ل"مورل مفري"، وجنوب الحدود.. غرب الشمس ل"هاروكي موراكي".
من ترجمة الإبداع إلى ترجماته النقدية المتميزة الخلاص بالحرية، الضوء المشرقى، ونبوءات دافنشى، ومقدمة لقصيدة النثر، ودورة ما بعد الحداثة لإيهاب حسن. إنتاج الشاعر والمترجم الكبير الإستثنائي محمد عيد إبراهيم، كاشف عن هذا التكوين الثري متعدد المصادر والأدوات والرؤى والأخيلة، وهي أبعاد نادرة التحقق في تكوين وتشكلات جيله والأجيال اللاحقة من الشعراء والمترجمين.
من هنا استثنائيته مع بعض مجايليه وبعض الموهوبين في تشكيل الأجيال اللاحقة. لاشك أن هذا التكوين المتفرد شكل أرضية خصبة وخلاقة رفدت إبداعه الشعري في دواوينه،
فحم التماثيل، الملاك الأحمر وخضراء الله، والسندباد الكافر، وعيد النساج. من هنا لعب دوراً متميزاً في جماعة "أصوات الشعرية" التي كانت مع مجلة إضاءة تعبيراً عن هموم ومكابدات جيله.
وشارك محمد عيد فى إصدار مجلة (الكتابة السوداء)، حركية إبداعية ونشاط فاعل في إطار حركة قصيدة النثر، وترجمت أعمال له إلى عديد اللغات الأجنبية. محمد عيد لم يكن شاعراً ومترجما كبيراً، وإنما ناشطا فاعلاً في العمل الثقافى.
عمل محمد عيد مستشاراً لمجلة (تيوليب الشعرية الأمريكية)، ولمدونة (باتاي).
التكوين المعرفي المتعدد المصادر والروافد اللغوية والثقافية العربية والإنجليزية، أدت إلى انفتاح عقل الشاعر والكاتب القدير في اختياراته للترجمة في الرواية لتوني موريسون وكذلك ميلان كونديرا وآخرين من الذين شكلوا جزءاً رئيساً من السرديات الروائية الجديدة فى الأدب العالمي والكوني أي ترجم لبعض من بناة العالم وفق تعبير باتاي.
ساهم هؤلاء وغيرهم في صياغة اللغة والأخيلة والأستيهمات والكتابة المغايرة التي أسست لعوالم فذة وخاصة، وإنسانية حاملة لهموم الإنسان الوجودية ومصيره وآلامه وإحباطاته ويأسه وملله وعزلته وأشواقه وصبواته. كتابة مختلفة حملت وحولت تفاصيل حياة الفرد/ الإنسان في الوجود إلى مادة تخيلية للسخرية، وعجز الإرادة وفتور الهمة لفضح الحياة الاستعراضية المشهدية والآلية في العالم الحديث والمابعديات، حيث الخوف والاسترابة والعجز والتغير إلى ما بعد الإنسانية.
مادة سردية وتخييلية هتكت أنماط الحياة الاستهلاكية المفرطة وطابعها الآلي، وسطحية المشاعر وخواء الحواس ومخاتلات الوجوه الباردة وزيف علاماتها.. الخ.
اطلاع محمد عيد إبراهيم على هذه المتون السردية والنقدية أسهم في رفد شعريته وذائقته بقاموس ثري من المفردات والصور والتراكيب والمجازات والألوان والأساطير غير العادية ساعد عليها ثقافته البصرية، واهتمامه الخاص بعالم التصوير التشكيلي خاصة الأبيض والأسود وتجليات النور والظل والرماديات وما بينهما من تمايزات وتداخلات وفراغات.
ثقافة خاصة جعلته مثل المترجمين الكبار رسولاً بين الثقافات عبر الإنجليزية إلى العربية في ترجماته التي تميزت بالجدة في الترجمات الشعرية على صعوبتها، وكذلك بانفتاحه على الجديد والمتغير، واكتشافاته لشعراء غير معروفين لدى الجماعات الشعرية العربية وغالب المثقفين المصريين.
من ثم كشف عن روح ولغة وصور وآخيلة جديدة واستثنائية رفدت المخيلات الشعرية بما هو خارج المألوف التخييلي السائد خاصة والكوت، والأجيال اللاحقة فى المشاهد الشعرية الكونية وتعددياتها الثقافية.
حياة حافلة بالعمل الجاد ولإبداع والترجمة، شكلت ما يمكن أن نطلق عليه وعليها تجلي الجميل -استعارة من عنوان كتاب- تجلي جميل، "هانس جورج جادامر" تجديد "روبرت برنا سكوني"، وترجمة ودراسة وشرح "د.سعيد توفيق"-
حيث كان محمد عيد الموهوب المنتج يوزع الجمال وتجلياته للجماعة الشعرية والأدبية والثقافية المصرية وفي العالم العربي. شخصية ودودة اتسمت باللطف والذكاء والهدوء والتوازن والروح النقدية. شاعر عرف الحياة والدنيا من خلال متابعاته وأبدع وأنتج في هدوء وتراكم ومحبة لشعره وعمله، ومن ثم سيظل حاضراً من خلال دوره ومنجزه، وروحه الجميلة الوثابة، في عالم قصيدة النثر، وبين محبيه وعارفي فضله.
عمت مساءً أيها الصديق المقيم في روحنا مولانا محمد عيد إبراهيم.

نبيل عبد الفتاح : الباحث في التاريح والقانون الدولي


(*) من صفحة مجموعة/ أنا الآخر 2 "محمد عيد إبراهيم"
أعلى