حكمةُ التجارة وأجرُها The Wisdom of Trade and its Wages - ترجمة: ب. حسيب شحادة - جامعة هلسنكي

في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها خليل بن شاكر بن خليل بن مفرج المفرجي (أبراهام بن يششكر بن أبراهام مرحيب همرحيبي، ١٩٢٢-١٩٨٩، شيخ صلاة، شاعر ومفسّر للتوراة، نشر تفسيرًا كاملًا على التوراة بالعبرية السامرية) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٨-١٢٤٩، ١ أيلول ٢٠١٧، ص. ٣٨-٤١ هذه الدورية التي تصدُر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدةٌ من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدُر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة نسَمة، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضْل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتْسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

”عملُ الآباء علامةٌ للأبْناء

عندما كبُر ابني حلقتُ ذَقْني، ومنذ الآن أصبحتْ كلّ الأمور المتعلّقة بإعالة بيتنا في يديه. آمُل لك أن ترى في بنيك أيضًا علاماتِ أعمالك. أُتابعه أحيانًا، كيف يُجري المفاوضات، الأخذ والردّ مع الزبائن وأشعُر بالهناء والغِبْطة. إنّي مسرور لأنّه قادر على تدبّر أموره، وأتذكّر فوق كل شيء، كيف كانت تلك الأيّام البعيدة والرجال الذين رحلوا عن هذا العالم، ونحن كلّ الذين عِشنا معهم، وأولائك الذين وُلدوا بعد رحيلهم، علينا أن نتعلّم منهم دروسًا وعِبَرًا كثيرة جدّا في شؤون التجارة والمفاوضات.

عند انطلاق الإشاعة

بدون أيّة مقارنة بين أين كنّا وأين كان هو؟ إنّي أتذكّر الشيخ الأمين بن صالح (بنيميم بن شلح) صدقة الصباحي (الصفري) والد صديقي راضي (رتسون) صدقة الصباحي. أتعْلمُ أنّ شغف السامريين بمعرفة ما عند جيرانهم ليس وليدَ اليوم أو البارحة. يريدون دومًا معرفةَ مِقدار ما للجار من مال وممتلكات، ليجتهدوا أكثرَ ولجَني أكثرَ ممّا عنده، هذا جزء من طبيعة الإنسان، من غريزته، ومن المعروف أنّ غريزة قلب الإنسان رديئة منذ صِباه. وعندما يُخفقون في تقليد الجار أو الحصول على ما لديه، يُصبح الجارُ موضوع النميمة والسمعة، ويبالغون بالأساس بما يملِك؛ إذا كان عنده مائة يقولون ألفًا، وإن كان ألفًا قالوا عشرة آلاف وإن عشرة آلاف ردّوا مائة ألف؛ وهكذا دوالَيْك تكون الطريق للوصول إلى الملايين التي لا وجودَ لها عنده. ولكنّها تدور على ألسنة المخلوقات.

هنالك مَن لا يغفِرون للأمين صالح الصباحي حقيقة توفّر القرش في جيبه، في زمنٍ عاش فيه معظمُ السامريين بدون أن يجدوا كِسرة خبز. إنه، لم يحصل على المال، لا سمح الله، بالخُدعة والاحتيال أو بالخطأ. لا، إنّ كلَّ ما كان بحوزته كان قد حازه باستقامته وبفطنته في التجارة. كان الأمين على علْم بأنّ الناس يُبالغون بمقدار ممتلكاته.

القَِرْض

قبل أن أقُصّ عليك قصّة حكمته في التجارة، أحكي لك عن حادث صغير متعلّق بعَلاقةٍ ربطته بجيرانه. طلب ذات يوم من الكاهن ناجي بن خضر (أبيشع بن فنحاس) أن يُقرضَه ثلاث ليرات؛ دُهش الكاهن من الطلب قائلًا ”أنت يا الأمين بحاجة لقرض، وكلّ المخلوقات تُحصي ثروتك الضخمة؟“. هزّ الأمين بن صالح رأسه وقال ”إنّي بحاجة لقرض حقًّا، ودعِ الناس يقولون ما في بالهم، لم يوكّلني الله لمحاسبة ما يتفوّهون به“.

لبّى الكاهن ناجي طلبَ الأمين بحماس؛ ذهب وأحضر له كلّ ثروته، ثلاث الليرات التي طلبها. وعرف الكاهن ناجي أن لا خشيةَ في عدم سدّ الأمين هذا الديْن. بعد عدّة أيّام، استدعى الأمينُ الكاهنَ ناجي وأعاد له الدين. فحص الكاهن ناجي الليراتِ ووجد أنّها مختلفةٌ عن تلك التي أعطاه إيّاها؛ إذ أنّه كان قد وضع عليها علاماتٍ لأنّه أحسّ بأنّ الأمين يمتحنه. ضحك الكاهن ناجي وعلّق ما علّق للأمين، فضحك الأخير وقال ”إعلم أن الشخص الذي يبالغ الناس في مقدار ماله، محتاج أحيانًا للقرض“.

إذا كنتَ تظُنّ أنّ الأمين بن صالح قد نشر بهذه الطريقة الإشاعاتِ حول ثرائه فإنّك على خطأ. قصّة الكاهن ناجي انتشرت وحلّقت مرفرفة من بيت لآخرَ، وفي كلّ مكان امتدحوا كثيرًا الكاهن لكشفه النَّزْر من غِنًى هائل مزعوم لدى الأمين.

إلْباس العروس أقاربها وقريباتها

كثيرة هي القِصص التي تدور حول مصدر مال الأمين، وكيف جمعه لإعالة أُسَر إخوته وأولاده. زياراته لسوريا ولبنان كانت كثيرة؛ ومن هناك أتى بقصّة قصيرة، تُظهر ذَرّة من قوّة المفاوضات التي امتاز بها الأمين بن صالح الصباحي. في ذلك الوقت كنتُ يافعًا ولكن بسنّ مكّنتني من أخذ انطباع راسخ بخصوص حادث علّمني درسًا كبيرًا في مِشوار المستقبل.

ذات يوم، مرّ بحانوت الأمين بن صالح الصباحي ثلاثة قرويين. ألقى الأمين نظرة فاحصةً نحوهم ولاحظ بحسّه التجاري المُرْهَف بأنّهم يطلبون شيئًا قد يكون متوفّرًا لديه. توجّه إليهم ببشاشة وسألهم من أين أتوا وإلى أين هم متوجّهون. وعندما ذكروا اسم القرية، قفز الأمين نحوهم وحيّاهم، والفرح يشِعّ من وجهه، كأنّه عثر على إخوة ضائعين لم يَرهُم منذ عُقود من الزمان. وحينما اندهش القرويّون من فرحه، أخذ للتوّ بإرسال تحيّاته لمسنّين من قريتهم ربطته بهم علاقاتٌ في صباه، عندما كان يُرافق أباه صالحًا بن حبيب (حوڤڤ) الصباحي في تجواله من قرية لقرية لبيع الأقمشة للقرويين.

سُرّ القرويون بلقاء الأمين وهو بهم. وسُرعان ما أشار الأمين للفتى بإحضار ثلاثة فناجين من القهوة إذ ضيوف حلّوا عنده في الدكّان. بعد تبادُل الحديث عن القرية، وحول الوضع العامّ الذي شهِد آنذاك أحداثًا دموية، سألهم الأمين عن غاية زيارتهم لنابلس، إذ أنّه ليس في كلّ يوم يتكبّد القرويّ مشقّاتِ السفر إلى المدينة الكبيرة، بل يكون ذلك لمناسبة حادث خاصّ.

”نريد أن نشتري كِسْوة لعُرس كبير سيتِمّ بعد أسبوعين في القرية؛ إلّا أنّنا لم نجِد تاجرًا يؤمِّن لنا طلبَنا بسعر معقول؛ كلّهم يطلُبون أسعارًا عالية. نُريد أن نشتري قمحة ولكن التجّار عزموا على ”تشليحنا“ وهم يطلبون سِعرًا عاليًا جدًّا للمتر الواحد. لن نسمح لأحد بخداعنا“.

الأمين التاجر البارِع

إذا سألتني ما المقصود من ”كِسْوة“، لأجبتك بأنّها بمثابة خِزانة قماش كبيرة، لإلباس جميع أقارب العريس والعروس، وهذه عادة قام بها القرويون، وما زالوا حتّى يومنا بمناسبة فرح كبير مثل العرس. وما هي ”القمحة“؟ إنّها صِنف فاخر من قماش خيط منه فستان العروس [قُماش من الصوف قمحيّ اللون]. وكان من المعروف بأنّ مصدر أفخر ”قمحة“ هو من سوريا من صُنع محمّد الحبار، الذي كان يطبَع اسمه على جهة القماش الثانية، كما أنّ الصوف الإنجليزي هو الأعلى جودة.

”وما كان عرْض زملائي التجّار لكم؟“ سأل الأمين. ”إنّهم يطلُبون ثلاث ليرات سِعرًا لكلّ متر!“، أجاب الثلاثة بصوت عال. لم يتوفّر لدى الأمين في دكّانه حتّى سنتيمتر واحد من هذا القماش بسبب ثمنه العالي، ولكن ذلك لم يمنعْه من أن يقول لهم: ”حقًّا إنّ السعرَ الذي يطلبونه منكم مرتفع، إنّي أستطيع أن أحصُل على القماش من أجلكم بسعر ليرتين وثمانين قرشا للمتر“.

”أحقًّا؟“، ردّ الثلاثة والفرح بادٍ على وجوههم وأضافوا ”إذا كان الأمر كذلك، فلتحلّ بركات الله على رأسك“. ”إنتظروني قليلًا ريثما أُحضِر قماش ”القمحة“ من المخزن“، قال لهم الأمين. بالطبع، لا وجود لمخزن ولا يحزنون ولكنّ الأمين أراد ألّا يفوّت الفُرصة. استدعى أخاه واصفا بن ممدوح (آشر بن صلح) وطلب منه أن يذهب بسرعة إلى التاجر الكبير توفيق عرفات، الذي كان يبيع لجميع تجّار نابلس، وإحضار لَفّة من قماش ”قمحة“. والأمين عرف أنّّه لن يحصُل على القُماش من عرفات بأقلَّ من سعر ليرتين وثمانين قرشًا للمتر.

قاس لهم الأمين عشرات الأمتار من قُماش ”القمحة“، بينما هم يحسُبون في عقولهم، مقدار التوفير الكبير الذي جنوه بعُثورهم على هذا التاجر الساذج، الذي يبيعهم القُماش بعشرين قرشًا لكلّ متر، أقلّ من سعر أي تاجر في نابلس، وهذا التوفير في تلك الأيّام كان عظيمًا. وفي النهاية سألهم الأمين في ما إذا كانوا بحاجة لبِطانة فاخرة للـ ”قمحة؟“؛ بَلى، أجابوه؛ وقف الأمين للحال وقاس لهم قُماش حرير للبطانة. وبالطبع كان سعر هذا القماش أغلى من أيّ مكان آخر. وهكذا باعهم الأمين مراييلَ وأقْشطة ومحارم حرير لكلّ نساء القرية، ملابس بيضاء من قُماش أو نسيج، ملابس داخلية وخارجية، جوارب طويلة، قُماش لصدريات رجّالية ونسائية.

فرِح الثلاثة بهذه الصَّفْقة، وعاد الأمين وكرّر وأكّد لهم، أنّ مثلَ هذه البضاعة التي بحوزته، متوفّرة فقط في الأسواق الفاخرة في بيروت والقاهرة. وأخيرًا قُدّم الحساب فدفعه القرويون للأمين فرحين في داخلهم على ”اللقِيّة“ الكبرى التي صادفتهم. ومن البدهي، أنّ خبر هذه الصفقة الكبيرة قد ذاع في كلّ سوق التجّار؛ خبر ”الكِسوة“ التي تمكّن الأمين من بيعها شاع من فم لفم. استغرب كلّ التجّار كيف نجح الأمين في جذب القرويين البُخلاء إليه والفوز بثقتهم.

مرّ القرويون في السوق وهم محمَّلون برِزَم القُماش؛ تاجر واحد فقط، حلمي الشاهد، أوقفهم وأدهشهم بسؤاله: هل ”الشروة“ كانت حلوة في نظرهم؟ هَرع أحد القرويين وأرى التاجرَ فاتورة الأمين، تفاصيل كلّ الشراء. تفحّص حلمي الشاهد الفاتورة، ابتسم وقال: حقًّا إنّكم مشْترون بارعون من أبرع تجّار نابلس، سيروا بسلام وليكن الله معكم.

وسُجِّل في الفاتورة أربعٌ وعشرون ليرة ذهب، بمثل هذا المبلغ يُمكن إعالة عائلة نابلسية لمدّة عام“.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى