ميلود لقاح - قصيدة الهايكو العربية بين القبول والرفض

هل تثبت قصيدة الهايكو العربية حضورها؟ أم أنها مجرّد موجة عابرة؟
قصيدة الهايكو العربية بين القبول والرفض

كلما ظهر شكل أدبي جديد كَثُر حوله الجَدل، واختلف فيه طرفان مُناصر بدعوى التجريب والتجاوز ومُعارِض بدعوى أن الشكل الجديد استُجلِب من ثقافة أجنبية لها خصوصيّاتها التي لا تناسب ثقافتنا. فقد ظهر الشعر الحر في نهاية الأربعينات وتصدّى له الشعراء التقليديون ونشبت بينهم وبين عدد من النقّاد والشعراء الروّاد معارك أدبية أشهرها تلك التي حدثت بين عباس محمود العقّاد وأحمد عبد المعطي حجازي الذي لم يتحمّل نقدَ عملاق الأدب العربي فهجاه بقصيدة عَبَّر سنة 2008 عن ندمه واندفاعه في ذلك الردّ القاسي.

وحجازي نفسه تصدّى - بعد ذلك بسنوات - لقصيدة النثر، ورفض اعتبارها شعراً إلى جانب عددٍ من الشعراء التفعيليين والعموديين، وألّف سنة 2008 كتابه "قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء" بعد أن هدأ أوار الحرب بين المُدافعين عن قصيدة النثر والمُعارضين من شعراء القصيدة الموزونة.

وفي السنوات القليلة كَثُر الحديث في العالم العربي عامة والمغرب بخاصة عن شكل شعري يُدعى "قصيدة الهايكو" الذي استهوى عدداً كبيراً من الشعراء أغلبهم شباب.

وبالرغم من أن هذا الشعر الياباني الأصل كان موضوعَ اهتمام شعراء ونقّاد منذ الستينيات إلا أنه في السنوات الأخيرة أغرى عدداً من الشعراء الذين كتبوه بحماسٍ كبيرٍ أثار حفيظة شعراء ونقّاد آخرين لم يتردّدوا في نقد "الهايكو العربي" نقداً لاذِعاً وساخِراً أحياناً؛ استدعى مناصريه إلى الدفاع عنه وتخصيص مهرجانات ومُلتقيات له مثل"المُلتقى الأول لشعراء الهايكو بالمغرب" الذي نظّمه (بيت الشعر في المغرب) في كانون الأول/ديسمبر 2017 في مدينة إفران؛ جمع 25 شاعرَ هايكو تحت شعار "الهايكو مغربيّ أيضاً"، في إشارة إلى محاولة توطين هذا الشكل الشعري الوافِد من أقصى آسيا.

ولمعرفة وضع "قصيدة الهايكو" في المشهد الشعري المغربي، استطلعت الميادين الثقافية آراء شعراءَ ونقّادٍ.

يقول الشاعر عبد العزيز أبو شيار "يصعب عليَّ كثيراً اعتبار "الهايكو العربي" قصيدة، لأن مُصطلح "القصيدة" له مدلوله في شعرنا العربي وهو الذي أصَّلهُ النُّقادُ منذ إبن قيبة وقدامة بن جعفر... أما أنْ أعدَّ ثلاثة أسطر وضعتِ الثقافةُ اليابانية قواعد كتابتها فهذا ما لا أقبله، إنها محاولة استنبات شكل شعري أفرزته حضارة أقصى آسيا في تربة عربية لها مميّزاتها اللغوية والحضارية. فلا داعي لتحميل أدبنا ما لا يتحمّله. هذا وأقدّر كل الجهود التي يبذلها كتّاب "الهايكو العربي" لكنني، بصراحة، أرى أنهم لم يقدّموا نصوصاً جديرة بالاهتمام ولا أرى أنهم سيوفّقون".

أما الشاعر مصطفى المسعودي فيرى أن الانفتاحَ على كل تجارب الإبداع الإنسانية دونما حواجز ضرورةٌ، لاعتبار أن ثمة مشتركاً إنسانياً "يمتد لكائنات شتّى في الطبيعة هو المتمثل في استشعار جمالية الأشياء ودهشتها ثم تَمثل الرغبة في التعبير عن الشعور نفسه"، مضيفاً "ومن هنا يكون الاطّلاع على التعبير المُغاير في منظومة مُغايرة فتحاً جمالياً في حد ذاته ومدخلاً لإغناء التجربة الذاتية في فرادتها، تأسيساً عليه أعتبر أن الانفتاح على تجربة يابانية مثل الهايكو مبادرة لها وجاهتها ضمن التحديد السالِف".

لكن المسعودي يشدد أن اعتبار الترجمة النثرية "الركيكة" شعراً عربياً أو حتى بديلاً للشعر بجذره اللفظي العربي "مجرّد عبث، ومن هنا أيضاً تشدُّدي شخصياً في توزيع عنوان الشعر على ما يُكتَب هنا وهناك، وألاحظ بالفعل مَيْل كثير من المغاربة لكتابة خواطر تحت عنوان شعر الهايكو، ولكن بصراحة لا أرى في معظم ما أقرأ غير نثر مُبستر بارد ركيك وفارغ من جمالية معنى الشعر، وأحياناً يصل الأمر قاعاً ضَحِلاً في الإسفاف والرداءة والاستسهال".

ويضيف "تعبير الإنسان الياباني وغير الياباني بالكلمة عن الجمال تحكمه أمور شتّى في مقدّمتها معنى اللغة عند الشاعر الياباني نفسه، ومعنى جرس الكلمة، وأكثر من ذلك معنى الفلسفة الدينية اليابانية بصفةٍ عامة، فاللغة غير اللغة وشتّان ما بين مفهوم البيان والمجاز والجرس الموسيقي في العبارة العربية ومعنى التكثيف اللفظي بصيَغ أخرى عند اليابانيين".

هذا الكلام له ما يقابله عند الشاعرة مريم لحلو، حيث عَبِّرت عن رفضها لما تُقابل به قصيدة الهايكو من نقد مُعترفةً بمُعاناة هذه الشكل الشعري الوافِد في الوسط الإبداعي المغربي، حيث تقول:"للأسف الشديد تعاني قصيدة الهايكو من كثرة المُنتقدين (المجانيين) من دون دعم نقدهم لها بدراسات نقدية جادّة، لكنَّ وجود مُحتضنين ومُتابعين لها من الكتّاب المغاربة الكبار الذين لهم وضعهم الاعتباري في خريطة الثقافة المغربية يجعلها تقاوم كل أشكال الإقصاء والتهميش".

أما الشاعر والناقد عبد الدين حمروش فيرى "حركة الهايكو" بعين التفاؤل وأن تزايد شعراء الهايكو في المغرب يجعلنا نقرّ بوجود هذا الشكل الشعري الجديد وبحركية شعرية شابة اختارت الهايكو عنواناً لها، إذ "من الجدير بالانتباه أن جميع شعراء الهايكو المغاربة هم من الشباب. والآن، إضافة إلى الفصيح والزجل، التفعيلي والنثري، أخذنا نتّجه إلى الحديث عن تيار شعري خاص بالهايكو. عدد النصوص الصادرة، في إطار ما يُدّعى أنه هايكو، إضافة إلى عدد الشعراء المُتزايد، يدفعنا إلى الإقرار بوجود هذا التيار الشعري، الجديد على الممارسة الشعرية المغربية. اليوم، هناك حركية شعرية شابة، عنوانها: الهايكو. وعلى الرغم من اندراج نصوص من "الهايكو" المغربي في إطار قصيدة النثر، في جانبها المتعلّق بما يُسمّى شعر "الشذرة"، بحكم الافتقاد إلى الثقافة اليابانية التي هي أصل الهايكو، فإن النقاش النقدي العام (ما كتبه سعيد الباز وسعيد منتسيب تمثيلاً) الذي ما فتئت تثيره نصوص الهايكو له أكثر من فائدة. وأولى الفوائد، أنه بدأ يرفع الحجاب عن شعر الهايكو المغربي: في ما يخصّ ثقافة الشاعر فيه، بموازاة مع عناصر شعريته المفترضة. ولعلّ ما قام به "بيت الشعر في المغرب"، من ناحية تنظيم لقاء خاص بشعراء الهايكو، جزء من هذه الدينامية الشعرية، التي أخذ يؤسّس لها شعراء الهايكو المغاربة".

هكذا تثير "قصيدة الهايكو العربية" ما أثارته سابقاً أشكال شعرية جديدة من نقاش يشتدّ أحياناً ويهدأ أحياناً أخرى. ويتجنَّدُ أنصاره لإثبات مشروعيّته بإبداعه والتنظير له، وتنظيم مُلتقيات كبرى يُدعى إليها أكبر عدد من كتّاب هذا الشكل الوافِد من أقصى آسيا.

فهل سيصمد هذا الشكل الشعري في وجه مُعارضيه ويثبت حضوره وضرورته كما أثبتتها الأشكال الأخرى، أو هو مجرّد موجة عابرة؟ وهل تستطيع "قصيدة" من ثلاثة أسطر أن تستوعب قضايا الإنسان وتطلّعاته؟ وهل ركبها الشعراء الجُدُد فقط لتحقيق اختلاف شكلي؟ الزمن كفيل بالإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى