إيهاب الحضري - الفزع..

من جديد يتفوق الواقع على الخيال، ويبدأ فى تشكيل مشاهد لم تخطر على أذهان الروائيين وكتاب السينما، الذين كثيرا ما كتبوا عن الرعب وصوروه، لكن دون أن يتخيلوا المأساة التى يعيشها العالم حاليا، ويتقوقع فيها الجميع على ذواتهم، وتصبح الحدود سدودا حقيقية، تنغلق لتمنع الحركة، وترتفع أسوار الخوف لتتحول الدول إلى سجون ضخمة، بينما يتداول مليارات البشر بدأب صورا تجعل مساحات الفزع تتزايد.

فى كتب التاريخ حكايات عن أوبئة اجتاحت العالم، وأفنت الملايين من سكان الكوكب، تحدثت هذه القصص عن الرعب الذى ارتبط بالفناء، لكنى أعتقد أن الماضى كان أكثر رفقا بأبنائه، حتى لو التهم أحد أوبئة القرن الرابع عشر ثلث سكان أوروبا، فالخوف القديم ظل مرتبطا بحكايات شفهية متواترة، غير أن الحاضر يمنح الرهبة سطوة أكبر، لأن الصور تتجسد أمامنا، عبر ضحايا يتساقطون تباعا، ومدن تتحول إلى مساحات خاوية، بعد أن هجرها الجميع حتى الأشباح، وهو مشهد غيرمألوف فى عالم كان يعانى من صخب مزمن.

بدأ الأمر فى منطقتنا العربية بدعابات لا تشير إلى إيماننا بالقدر، بقدر ما تُعبر عن عدم إحساسنا ببشاعة الموقف، وعادت السخرية المصرية لتحتل الصدارة، لكن سرعان ما تحولت النكات المتتابعة إلى صرخات خائفة، وهجمات على محال الأغذية لتخزين عتاد مواجهة المجهول، ونشط أثرياء الحرب لحصد المزيد من الأرباح، حتى نسى البعض خوفهم مؤقتا، وأطلقوا نكتة تقول إن هناك من يستطيعون استغلال الموقف دائما، حتى أنهم لو علموا أن يوم القيامة بعد ساعات فسينشطون فى بيع المصاحف والأناجيل!

إنه زخم من ردود الأفعال المتناقضة، لا يبالى البعض لأنهم يعيشون حياة بمذاق الموت، بينما يشعر آخرون بفزع حقيقى، ووسط هؤلاء يعيش آخرون حالة شبيهة بتلك التى تنتابهم حين مشاهدة فيلم رعب. إنه الخط الفاصل بين خوفين: حقيقى ومصطنع، لكن ألا تتسارع ضربات قلب مشاهدى الأفلام رغم إدراكهم أنهم يعيشون حالة مُختلقة، كثيرا ما يتماهون معها إلى حد الإحساس بالخطر؟ يؤمن الجميع بأن الموت قادم لا محالة، لكن كلا منا لا يشعر بالقلق منه إلا إذا فوجئ بأنه يحلّق فى مداراته القريبة، قبل ذلك نظل نتعامل معه كمتفرجين حتى نكتشف أننا اقتربنا من دور البطولة، فندخل دائرة الهلع. نتابع صور شوارع إيطاليا الخاوية، وقد ننسى سبب فراغها، وتفتننا جمالياتها حين جلوسنا فى عربة مترو مزدحمة، يجعلنا صخب ركابها نشعر بالأمان الزائف، ونأخذ من العولمة المفقودة تطبيقاتها الباقية على قيد الحياة، ولا نتعلم الدرس إلا بعد فوات الأمان، عندما نتأكد- بعد غفلة- أن العالم لم يعد قرية صغيرة، بل عددا غير نهائى من مستعمرات بشرية تنغلق كل منها على نفسها، فى محاولة لصد فيروس هزم كل الحدود المُصطنعة.

ما يدور حولنا ليس جزءا من رواية” الطاعون” لألبير كامى، ولا” العمى” لساراماجو، بل دراما واقعية نكتب أحداثها بحيواتنا المهددة بالانقراض، وهى حالة تفتح أفقا ممتدا لإبداع مستقبلى، قد يكتبه مبدعون عاشوا الكارثة المرشحة للتنامى، كى تظل الأجيال الناجية تتداول قصصهم حتى وباء آخر!!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى