الاخضر داز-اين - جسد الفينومينولوجيا

اعادة توظيف الجسد كغيريّة محتملة:
** موقف الفينومينولوجيا (هوسرل-ميرلوبونتي)
-الفينومينولوجيا: "فينومان" تعني الظاهرة أو الشيء كما هو وكما يظهر... phénoménologie
لوجي " تعني علم أو دراسة إذن فالفينومينولوجيا هي علم بالظواهر أو دراسة الظواهر
وهي مذهب فلسفي متمرد على المناهج التقليدية من حيث التمشّي ومن حيث المقصد. من ذلك أن النظر في "مفهوم الجسد" مثلا لا ينفصل عن طبيعة منحى الفينومينولوجيا ككلّ . كيف ذلك ؟؟
لقد نجح هوسرل في كسر عزلة الكوجيطو الكلاسيكي لديكارت (أنا أفكر أنا موجود) ، جاعلا من تجربة الوعي الحقيقي تكون ”وعيا بشيء ما“ أي أن التفكير لابد أن يكون قاصدا لشيء ما أو يذهب نحو وجهة معيّنة وهي الموجودات والظواهر، فما كان ديكارت يعتبره انجازا أصبح عند هوسرل عملا منقوصا أو "وعيا خاويا من كل دلالة" فما معنى "أنا أفكر" إن لم يكن تفكيرا في شيء ما . لهذا رأى هوسرل وكل الفينومينولوجيّون "أنا أفكّر وأفكّر في شيء ما ، إذن أنا موجود". وهو كوجيطو فينزمينولوجي مبشّر بدور مباشر للأنا وللذّات في عملية الوعي بالعالم ..
فالفلسفة الفينومينولوجية دشّنت انفتاحا للذات على تجربة العالم الذي هو قبل كلّ شيء مليء بالذوات التي بدورها تسعى إلى الانفتاح لتلتقي بالذوات الأخرى إمّا بطريقة مباشرة أو عن طريق الموضوعات . فالجسد الذي سيحاول موريس ميرلوپونتي تحيين الهيكلة الظاهراتية له.
و ذلك بتجاوزه لمفهوم البينذاتية، الذي يعني علاقة تداخل الذوات فيم بينها في تعالق وتواصل متشابك ومتداخل الى ما لا نهاية، الذي دافع عنه أستاذه هوسرل..
و استبداله بمفهوم أكثر حميمية و أكثر واقعية هو مفهوم البينجسدية أو البين-جسدانية ، الذي يستحضر علاقات متشابكة ومتداخلة للاجساد في تعالق الى ما لا نهاية، و ذلك أوّلا: نظرا للإحراجات التي يمكن أن تحاصر مفهوم البينذاتية المعرّضة دائما لخطر اللا تواصل و الموضعة من طرف الآخر عن طريق النظرة كما هو الشأن بالنسبة لفلسفة جون پول سارتر أو عن طريق عدم الاعتراف بذاتية الآخر كما هو الشأن بالنسبة للتصوّر الهيڤلي أي عندما، كما يقول ميرلوبونتي: « ينسحب كلّ منّا داخل طبيعته المفكّرة ويضحي كلّ منّا نظرة لا إنسانية بالنسبة إلى الغير و إذا أحـسّ كلّ منّا بأفعاله لا من حيث أنّ الغير يستعيدها و يفهمها بل من حيث هو يلاحظها كما لو كانت أفعال حشرة و هذا ما يحصل مثلا عندما يسلّط عليّ نظر شخص مجهول» ( موريس ميرلوپونتي ـ كتابه: ظاهراتية الإدراك ـ ط ـ ڤاليمار ـ ص414) .
الجسد الخاص:
لأنّ تصوّر موريس ميرلوپونتي للجسد قد سعى إلى تجاوز كلاسيكيات التفكير الفلسفي الدارسة لمنظومتيْ الوعي والجسد على شاكلة انفصالية وثنائية(كما هو الحال عند أفلاطون/ ابن سينا/ وديكارت/ وغيرهم من الميتافيزيقيين) تكون بمقتضاها الذات مُقيمة في الجسد ولديها قيمة أفضلية عليه لتتحوّل المعادلة لديه من أنا لديها جسد إلى أنا متجسّدة ومتداخلة تداخلا ليس بقابل للفصل أو التفاضل مع الجسد. فالجسد الخاص هو كما يحدده حين يقول( موريس ميرلوپونتي):” إذا كنّا ندرك بالجسد، فإنّ الجسد… بمثابة الذات التي تدرك“ (في كتاب: المرئي واللامرئي )، نظرا لأنّ المفهوم القديم للنفس أو للوعي لا يمكن أن يدرك في معزل عن الجسد والجسد بمفرده الخالي من الوعي لا يدرك هو الآخر لأنّه مجرّد جثّة فهو جسم لا أهمية له .
لذلك يميّز هذا الفيلسوف بين الجسد الموضوع الذي هو مجال الدراسة العلمية في المختبرات التشريحية والجسد الخاصّ المتفاعل مع مفهوم الوعي الذي يجعل منه ذاتا متجسّدة وجسد مذوّت الذي به: ”تتعارض تجربة الجسد الخاص مع الحركة التأمليّة التي تخلّص الموضوع من الذات والذات من الموضوع والتي لا تمنحنا إلاّ فكر الجسد أو الجسد في الفكرة لا تجربة الجسد أو الجسد على حقيقته“ ( موريس ميرلوپونتي ـ فينومينولوجيا الإدراك ـ ط ـ ڤاليمار ـ ص231)
الخلاصة:
إنّ الحقيقة الفعليّة للجسد وفق هذا التصوّر هي الحقيقة المؤكّدة للجسد الخاصّ كإنيّة متجسّدة فاعلة ومنفعلة ”فيّ“ و بمشهد العالم الذي يكون طابعا في أجسادنا و مطبوعا بها وذلك هو المعنى الحقيقي للبينجسديّة التي هي علاقة وجودية بين أجساد العالم التي تتقاطع و تتداخل وفق جدلية الرائي و المرئي ـ اللامس و الملموس ـ المصَافح و المصافَح....
اللاوعي كغيرية حميميّة:
مدخل
لئن حاولت الفينومينولوجيا الاشتغال على ثالوث الوعي ـ الجسد ـ العالم تأسيسا لعلاقة بينذاتية و بينجسدية بين الإنيّة و الغيريّة و فكّا للحصار الذي لازم تاريخ الوعي طيلة تاريخ الفلسفة فإنّ مدرسة التحليل النفسي مع قطبها الدكتور سيڤموند فرويد كانت قد اشتغلت و في نفس الفترة تقريبا على ثالوث آخر هو ثالوث الهوـ الأنا ـ الأنا الأعلى ـ هذه البنية المميّزة للجهاز النفسي التي ستؤسّس علاقة لا واعية في مجملها مع الغير لينقلب الوضع من بينذاتية و بينجسدية واعية بالآخر إلـى “بينجنسية" لا واعية يتحوّل ضمنها الغير إلي مجال للرغبات و النزوع الجنسي المكبوت إن لم يكن مجالا للعدوان و العنف الناتج لا عن ممارسة واعية بل عن عُقَد مُضمرَة في الخزّان اللاشعوري للإنسان الذي يمكن أن ينفلت من دائرة الرقابة الفردية ليصبح شحنة تدميرية أو إبداعية يمكن أن تستهدف الغير كما يمكن أن تنقلب بصورة عكسية على الذات نفسها.
ب ـ أهمية اللاوعي:
يعتبر مفهوم اللاوعي من المفاهيم الرئيسية المعاصرة التي أنتجها حقل علم النفس التحليلـي في القرن العشرين مع مؤسّس هذه المدرسة الطبيب والمحلّل النفسي النمساوي سيڤموند فرويد وهو أيضا من المفاهيم النقدية الكبرى التي سعت إلى تجاوز التوجّهات العقلانية في الفلسفة مثل الديكارتية وكذلك التجديد في حقول علم النفس والعلوم الإنسانية لذلك يرى فرانسوا شاتلي أنّ اكتشاف قارّة اللاوعي وبلورة هذا المفهوم نهائيّا مع فرويد يُعدّ الحدث الرئيسي الذي ميّز عصرنا و كاستتباع لهذا التعليق يمكن أن نصف سيڤموند فرويد بكريستوف كولومب علم النفس المعاصر نظرا لأنّه أزاح النقاب على الجانب الخفي الكامن وراء تفكير الإنسان و سلوكاته التي كنّا نعتقد فيما مضى أنّها نابعة عن إرادة حرّة و إنيّة واعية ذات عقل محقّق لسيادة ”الأنا“ ليكتشف أنّ هذا العقل المزعوم ليس سيّدا حتّى في بيته بل هو مجرّد خادم مطيع لسيّدين اثنين هما ”الهو“ و ”الأنا الأعلى“ حيث أصبح مفهوم النفس الكلاسيكي منقسما إلى ثلاثة عناصر يُسمّيها فرويد ببنية اللاشعور / اللاوعي أو الجهاز النفسي التي يمكن أن نفهمها أكثر بالنظر إلى هذا التحديد:
الهــــو:
ـ جانب خاضع لمبدأ اللذّة.
ـ الجانب الخفيّ في الشخصيّة.
ـ الجزء المرتبط بما هو بيولوجي و غريزي.
ـ خزّان للطاقة الليبيدية أي الطاقة الجنسية التي توّلد الرغبة في إشباع الحاجة الجنسية.
ـ المبدأ الموّلد لنزوتي الحياة والموت لأنّه محكوم بالنزعة الإيروسية ( نسبة إلى إيروس اله الحب في الميثولوجيا الإغريقية) والنزعة التاناتوسية ( نسبة إلى تانتوس إله الموت عند الإغريق)
ـ ترمي نزعة الحياة إلي إشباع الرغبة الجنسية و ترمي نزعة الموت إلى العدوان تجاه الغير فنتحدّث عن ما يُسمّيه فرويد بالصادية أو إلى الرغبة التدميرية للذات فنتحدّث عن المازوشـية.
ـ لا يُعدّ ”الهو“ خزّانا للرغبة فقط بل هو أيضا رقعة امتصاص للعُقد النفسية التي تبدأ في التشكّل منذ الطفولة المبكّرة مثل عقدة أوديب التي تتشكّل لدى الطفل كنتيجة لتعلّقه الجنسي في المرحلة الفميّة بأمّه وغيرته الغريزية من الأب الذي يحتلّ مكانة المنافس في موضوع الرغبة العاطفية لدية و التي يقابلها لدى الإناث عقدة إيلكترا.
الأنـــا:
ـ جانب خاضع لمبدأ الواقع.
ـ الوجه الظاهر للشخصيّة.
ـ في حالة توتّر و قلق مستمرّين لأنّه بين مطرقة ”الهو“ و سندان ”الأنا الأعلى“ الشيء الذي يجعله خادما لسيّدين في الآن ذاته.
ـ الأنا تدرك و تخاف و تدافع و تقاوم و تخضع.
ـ يحدث أن يفشل ”الأنا الأعلى“ في كبت رغبـــات” الهو“.
الأنا الأعلى:
ـ جانب خاضع لمبدأ الواقع.
ـ دوره مواجهة الرغبات ونزوات الحياة أو الموت ومنعها من التسلّل إلى سطح ”الأنا“
ـ يمارس وظائف الضبط و الحكم و الاتّهام و التجريم و الإشعار بالذنب و الخطأ و الخطيئة و بتعبير أدقّ هو عنصر يمارس الرقابة الذاتية على الأنا.
ـ هو الجانب الثقافي و الاجتماعي و التربوي و الديني.
ـ يرجّح فرويد في كتاب " الطوطم و المحرّم" إنّه قد نتج بسبب الجريمة الأولى التي وقعت لدى القبائل الطوطمية وهي جريمة قتل الأب من طرف أبنائه الذين منعـهم الأب من ممارسة الجنس مـع جميع نساء القبيلة اللائــي انفــرد بهنّ لذاته ولكن بعد قــتل هذا الأب أحسّ الأبناء بالذنب فقامت العديد من الشّعائر التكفيريّة عن ذلك الذنب مثل ظاهرة الختان التي هي ممارسة رمزيّة تحمل طابعا جزائيا بالأساس.
الخلاصة:
لقد أكّد فرويد من خلال نظرية اللاوعي أنّ الإنسان هو كائن غريزي بالأساس تحكمه عُقد الجنس و العدوان بطريقة لا واعية و لاعقلانية حتّى و إن تظاهر بالعفّة و الأخلاق و الاعتراف بالغير فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون إلاّ حيلة من حيل الأنا الظاهرة التي يسعى الإنسان بها أن يُخفي ما يدور داخل لاوعيه العميق الذي يستمدّ جذوره من الصّدمات الطفولية التي تسعى دائما إلى اختزان التجربة الخصوصية للفرد و امتصاص تاريخه و زمنيته الملتصقة في حميميتها بحضور الغير داخل أفقها و تأثيره إيجابا أو سلبا في توازنه أو لا توازنه النفسي الذي قد يتحوّل إلى حالات مرضية متفاوتة التعقيد و من هذا المنطلق يكون للبعد الكرونولوجي و التاريخي ضلعا واضح المعالم في مسألة الإنيّة و الغيرية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى