ضحى أحمد الباسوسي - المحطة.. قصة قصيرة

جليسة وحدتها على شاطيء بحر مهجور، معروف لدى الجميع بتدرج ألوانه المختلفة، جميلاٌ، لكنهم يخافون الأقتراب منه بسبب مزاجيته وتقلباته، يكفيهم فقط استراق النظر اليه من بعيد. اقتربتُ منها عدة خطوات ثم جلستُ بجوارها مُبقية على مساحتها الشخصية بيني وبينها، أثَارَ الفضول حواسي اتجاهها حين لاحظتُ صورة مُتزاحمة الأشخاص بالقرب منها، مُلقاة على رمال الشاطيء ذات اللون الرمادي الداكن، ألتقطتُ الصورة بحجة أنني وجدتها لأُعطيها إياها، وبهدف إشباع فضولي، مددت يدي إليها بها، لسؤالها ” أين أنتِ من هذه الصورة؟! كيف لي ألا أراكي معهم بداخل تلك الصورة الجماعية؟! أليسوا هم اصدقاء مُقربين؟!” تمتمت فتاة شاطيء البحر المهجور بكلمات وتركيباتٍ لجُمل غريبة، شاخصة النظر إلى البحر مُتأملةً أمواجه التي تذهب وتجيء، مستمتعةً بهدوءه المتناغم مع ترنيمات موجه لتصنع سيمفونية من وحي الطبيعة تُساعدها على الإسترخاء. قالت “أترين هذا البحر، أنا أشبهه تماماً، كلانا مهجور، و نَمدُ الأخرين بمنظر خلاب جميل لنساعدهم على الإسترخاء، وأن كل شيء على ما يُرام، لكن كلانا مُحمل بالأنتفاض. أنا أعي تماماً كيف هو الشعور بالألم وخاصة ذلك النوع المُتكرر على مدار مُعايشتي لتلك الحياة، ذلك الألم الذي لم استوعبه إلا بعد فوات الأوان، أعلم جيداً كيف لكِ أن تقتربين من أشخاص، أن تُشاركيهم أدق تفاصيل حياتك وتكونين معهم كلما احتاجوا إليك. أدرك تماماً معنى أن تقتُلين نفسك من أجلهم فيضمنون وجودك لأنهم اعتادوا على أخذ الكثير منكِ، أما أنتِ فقد أعطوكي القليل، يختفوُن عنك لحظة قد تقصرُ أو تطول لكنكِ تلتمسين لهم العُذر مرة، اثنتان، مرات عديدة، ولكنكِ أبداً لا تبعُدين، هم على يقينٍ تام بدوام بقائك معهم، وإنه غير مسموح لكِ بالإبتعاد عنهم، فلا يُراعي أحد منهم سلوكه أوتصرفاته تجاهك، لا يُلاحظ أحد مبلغ اذاهم وجرحهم لك، لأن توقعاتكِ فيهم كانت أكبر بكثير من إنقباضة قلبكِ تجاههم، كنتِ تُسامحين، وتغفرين كثيراً جدا، لأن مكانتهم عندكِ كانت أكبر بكثير من مكانتكِ عندهم، كُنتِ دائمة الحضور بحياتهم فقط لتنفيذ رغباتهم، مجرد أداة للوصول بها إلى ما يريدونه، حتى تبدأين بالتلاشي والإختفاء، ولا يتم مُلاحظة بهتانك هذا إلا عند نفاذ أفكارك من عندهم، فيعودون إليكِ دون أن يُدركوا حجم الأذي الذي سببوه لكي. لكن وقتها لن تكوني كما كنتِ في السابق، لهذا أصبحتُ هكذا متواجدة حول الجميع أربت على قلوبهم، أستمع إليهم، أنصت لما يُزعجهم، لكنني لا أسمح لأحد بالأقتراب مني. كما ترين أصبح من النادر اقتراب أحدٌ مني، لأني على دراية تامة بكيف للمرء أن يحتاج لوجود من يُنصت إليه… أتعلمين شيئاً، لم أكن على وفاق تام مع تلك المقولة المشهورة (فاقد الشيء لا يُعطيه). أرى أن المرء الذي يفتقد لشيء يمكن ان يُعطيه وبكثرة، يُصر ويعمل جاهداً على أن يحصل الجميع عليه حتى لا يشعرُ أحد بما شَعَرَ به وبما يفتقده. هاجمني الشغف والفضول قلت لها “لكن كيف تفعلين هذا؟! كيف تتحكمين في تلك المسافة بينكِ وبينهم؟!. الا تحتاجين احياناً إلى شخص قريب منك تحكين له عن تفاصيل يومك، عما يُفرحك ويُسعدك وعما يُحزنك ويؤرقك، شخص ما يسمعك وينصت لتنهيدات روحكِ ؟! كيف لكِ أن تقتربي من الجميع وأنتِ لا يوجد أحد بقربِكِ؟!”. خرجت الأسئلة مني فجأة دون أدنى تفكير، اعتراني شغف المعرفة، شعرتُ بأنني مسئولة عنها وتحتاج مُساعدتي. كانت يداها ترتعشان وعيناها لا تكفان عن الحراك هنا وهناك، شعرتُ بصوتها يرتجف، أردتُ لحظتها لو ان كان بإمكاني الإمساكُ بكف يدها، لكنها سحبتها مُسرعة قائلة “لا أحتاج إلى أحد، قد أكتفيت من الأخرين، أكتملت عندما أبتعدت، استوعبت الدرس وحفظته عن ظهر قلب”. أخذتْ نفساً عميقاً، تابعت مُرددةً “احياناً أرى الجمال في البُعد، فيه دفىء ولمسة إشتياق، في البُعد نفحة إهتمام، ويدٌ تُمد لك في الخفاء لا تعلم من هو صاحبها، وما السر وراءها. أرى في البُعد حالة أمان وإطمئنان، أمانٌ في أنك لن تؤذي أحد، لن تُشعِرُ أحد بأنك مؤقت، لأن وجودك بالفعل بعيد، ولكن روحكَ حارس لهم في أي وقت وحين. في بُعدك إطمئنان بأنك لن تتأذى أبداً منهم، لأنك لم تعتد على وجودهم الدائم في حياتك، لن تُجرح وتُعاتب ولن تُفكر وتتسائل. أختطفها شرودها مني مرة أخرى لثوانٍ ثُم نَظَرت إلي وكانت عيناها تلتمعان بشدة قائلة “أكتفى بالهَامش يا أيتها الغريبة!!، أكتفي به وبمُراقبة الأشياء والأشخاص دون أن تَمُدِ يدكِ أكثر من اللازم، هكذا ستكونين متصالحَة أكثر مع ذاكرتكِ. إياكِ وأن تكوني تلك المؤقتة بين الدائمين، عابرة السبيل التى يجدونها هنا وهناك. فلا تقتربِين حد التمسك، ولا تبتعدِين حد الفراق، كوني دائماً فى “الوسط”، ولا تسمحِين لهم بأن يجعلونكِ تتأملين فكرة تواجدكِ بينهم فتحتارين، ولا تعلمين مدى حقيقة وجودكِ معهم”. كانت تنصحني بقوة، بصدق وبخوف شديد لدرجة أنني شعرتُ في نبرة صوتها بأنين روحها وصُراخها المكتوم وعُمق الألم الذي يكمنُ بداخلها. كلما تحدثت أجدها تصف نفسها دائماً بال”مؤقتة”، تلك “المؤقتة” التى يلجىء إليها الجميع فقط لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا وحدهم برهة من الوقت، وعندما يعود “الدائم” إلى حياتهم، فجأة ودون أي مُبرر أو سابق إنذار يتم إبعادها عن الساحةِ، كالمُعتاد وبشكل “مؤقت” يتم نسيان وجودها، لذلك تعلمتْ أن تحترم المسافة بين هذا وذاك، تَعلمتْ حتى أدرَكتْ أنه لا يجب أن تترك فرصة لأحد أن يستغل وقتها من أجل إشباع وحدته “المؤقتة”، بينما لم يهتم أحداٌ ليلحظْ وحدتها” الدائمة”. كانت تقول “أنا و المحطة” سواء نستقبل فيها هذا ونودع منها هؤلاء. صرير أفكارها لم يتوقف، أستسلمت له، أصبحت لا تُبالي، لم تعد تكترث لبقاء أحد أو رحيل أحدهم، تأقلمت مع فكرة “المحطة” حتى وصلت لتلك النقطة، نقطة اللاشعور بأنه لن يصيبها يوما ألم الفقد وحُزن الرحيل والشعور بالخذلان. هكذا رأت في بُعدها إكتمال وفي وحدتها أُنسٌ وراحة بال.


أعلى