د جاسم خلف الياس - قراءة نقدية في نص “ حلم خارج السياق” للشاعرة حسناء بن نويوة

استكمالا لمقارباتنا النص الأنثوي سنتناول اليوم نصا للشاعرة الجزائرية حسناء بن نويوة بعنوان (حلم خارج السياق). يقول الأخضر بن السايح: (النص النسائي مشحون بطاقة توتر عالية، فيه خرق وتجاوز وانزياح لكثير من الرموز المستمدة من الجسد. هذا الجسد الذي ينفث بركانه، وصواعقه مزلزلة على الورق. تسفر بعد الهدوء، جملا سردية تحمل العلامات والدلالات والرموز ما يحتوي عالم المرأة الشاسع المجهول) لا نريد أن نناقش مصطلحات النسائي والنسوي والأنثوي في هذه المقاربة، فقد تناولناها في مقاربات سابقة، ولا تخدم هذه المقاربة في شيء، إنما نذكّر: إن كانت الجمل السردية تحمل من العلامات والدلالات والرموز ما يحتوي عالم المراة، فما بالنا بالنص الشعري المؤثث بها؟ وكيف ستؤدي فاعليتها في هذا النص؟
نبدأ هذه المقاربة بالعلاقة البنائية بين العنونة والنص، وكشف كيفية اشتغالها، فالعلاقة بينهما ليست اعتباطية، وإنما فعل قصدي؛ أي هو علاقة تخارج وتداخل في الآن نفسه. وبعيدا عن الإغواء التجاري فيما يخص عنونة الكتب، وقريبا من الإغواء القرائي الذي يخص عنونة النص منفردا نستطيع القول: أن العلاقة البنائية بين العنوان (حلم خارج السياق) والمتن النصي علاقة تواصلية، أي بمفهوم جان كوهين للعنوان فإنه (يمثل المسند إليه أو الموضوع العام وتكون كل الأفكار الواردة في الخطاب مسندات له، إنه الكل الذي تكوّن هذه الأفكار أجزاءه)
ولا يهمنا إن كان العنوان قد اختير بعد إكمال النص أو وضع العنوان ليكون النص تاليا له، ولكن الذي يهمنا هو الإغواء القرائي الذي ساير اللغة بمستويبها القاموسي والإشاري. ولأننا أمام نص شعري يقوم على المجاز والتخييل، فلابد من وضع الحقائق موضع تساؤلات على الرغم من شفافية اللغة التي شكّلت كلا من العنوان والمتن. تصف الشاعرة (الحلم) بالوقوع خارج السياق؟ ولا ندري لحد الان هل السياق هو السياق النصي (المتخيل) أو السياق الواقعي (الحقيقي)؟.
وهنا يضعنا العنوان أمام ممارسة تأويلية لا تكتفي بتمظهرات الحضور، بل تتفاعل مع حالات الغياب؛ وبهذا نكون أمام فعل كتابي ينحاز إلى الملتبس والمختلف.
لندخل إلى المتن النصي وندع مقاربتنا تراهن على الابتكار والكشف والإضاءة.
تقول الشاعرة ( حسناء نويوة) في مفتتحها النصي:
( جئت إلى الدنيا عارية أرتجف
كبرت فعلّمني أبي الكلام
تكلمت قالوا:
صوتك عورة
جربت أن أصمت قالوا:
صوتك وزر)
في هذه الثنائيات الضدية تتجلى فاعلية بنية الحضور/ الغياب، وهنا نتساءل هل الذات الشاعرة تتكلم هنا عن حسناء التي كتبت النص تحديدا؟ أم عن الأنوثة المقهورة والمستلبة بشكل عام؟ وهل تريد تقويض هيمنة الذكورة؛ لتثبت أنها خارج دائرة الاتهامات؟ فماذا ستفعل لكي تحقق رغبتها في التحول من المفعول به إلى الفاعل ما دام صوتها عورة وصمتها وزر؟ تفعّل الذات الشاعرة قوتها التخيّلة، وتبتكر لها تقنية على الرغم من أنها ليست بجديدة، ولكنها تبدو هي الأفضل في تقديم رؤيتها واهتماماتها؛ لتفجر طاقاتها المحظورة في الخارج، والمطمورة في الداخل، وهي تقنية (الحلم) وهنا تسعى الشاعرة إلى تفعيل اشتغالها الشعري باتجاه قدرتها على جعل إبداعها متميزا، ومتضمنا توظيفات فنية مستفزة. فماذا فعلت؟
(كي لا يشعر بي أحد تسللت إليك حلما
أتسابق والزمن لالتقاطك في أبهى صورة)
عبر التداخل السردي/ الشعري تبدأ الذات الشاعرة بالمراوغة عبر التسلل إلى رغباتها ودهشاتها في فيض من الانفعالات والمشاعر والأحاسيس التي تمتلكها؛ لتمازج بين لذتي (التشكيل والتدليل)، ثم تضعنا في عتمة نصية جديدة عبر (أبهى صورة) ولا ندري ما هي الصورة التي اختارتها لتكون بهية؟ فما زلنا نجهل هذه الصورة الاستثنائية مثلما راوغت جهلنا في (خارج السياق). ولكن هل ستبقى الذات الشاعرة مصرة على البقاء في قلق الخارج دون الولوج إلى حميمية الداخل؟
بالتأكيد لا، فالانفعالات بدأت تعلن عن نفسها بقوة، واستيهاماتها في الحلم أخذت تراود رغباتها وهواجسها، وفعلها الشعري أوشك على الانفتاح والانفلات، واقتربت كثيرا من استحضار الذاكرة للصور التي أثارتها وأغرتها عبر الفعل (كان):
(ليلتها كان الحلم سخيا وأنت تلهب جسدي
كنت حينها أكثر رغبة بالحياة وبك
أسمع نشيدك العالي
وأعضاؤك تسعل داخلي)
بهذه الحميمية الايروتيكية تصور لنا الشاعرة حسناء ليلتها وهي تمارس صهيل الرغبة المنبعثة من الجسد؛ كي تعلن عن المخبوء في الأمكنة المغلقة. والمناطق المحظورة والمطمورة. فالذات الشاعرة لم تستطع التخلص من نجوى جسدها وهو يعاني الحرمان، إذ استيقظت رغبتها واستنشقت رائحة الشهوة، وبعثرتها التأوهات بعد أن تضوعت رائحة الماء المقدس في الداخل. ولكن سرعان ما نكتشف هذا الوهم الايروتيكي إن جاز التعبير وهي تصف عجزها عن التفاعل كما يفترض أن يكون في هذا الفضاء الحميمي الآسر:
(في السرير كنت تلح علي أن أكون امرأة متوحشة
طالبتني بالمزيد من النشاط والحيوية
وهمست لك:
مهلا علي فأنا خاملة عن المضاجعة منذ وقت طويل
حتى أنني لم أتلق دروسا إضافية
عن كيفية ترويض رجل شرس كذئب)
هكذا فتحت الذات الشاعرة مغاليق نصها وكأنها تمارس كتابة (الميتا - شعر) في بناء يعتمد على الوهم والموارابات الشبقية والعلامات التي تقود إلى التدليل وفق مرجعيات البناء ذاته. وعلى الرغم من طغيان لغة النثر في هذا المقطع إلا أن الشعرية الصافية ظلت تكابد انوجادها في نسيج النص، وتتعامل بشفافية مفتوحة على الأجزاء والكل في الآن ذاته.
وتستمر الذات الشاعرة في وصف شحناتها المتدفقة والمتوهجة عبر تداعياتها الذهنية وتكرار فعل الدوران الذي منح النص إيقاعا عاليا في التشكيل والتدليل، كيف لا وهي بمنتهى الرغبة تصغي لداخلها الأنثوي، وتوجد معه؛ من أجل الوصول إلى أفق لذوي ما زال يتدفق بكل حرارته من الذاكرة:
(بمنتهى الرغبة الطافحة رأيتك
وأنت تتمرغ في وجدي
تدور.. تدور.. تدور
وتدور
ونبضك يدور
وشغفك يدور
والرعشة تدور
ولعبة الأجساد تدور)
هذا الدوران الذي هيمن على السردي/ الشعري ما هو إلا صدى الداخل الذي ما زال هو يدور أيضا، وهذه الحركية المتتالية ما هي إلا نبض الوجدان المتدفق في لحظة الانبهار العاطفي باحتمال الوقوع في دائرة الجنون المتعالي على الواقع الذي استلب شهوتها، ودليلنا على ذلك الخمول الذي وصفته تلك الذات في المقطع السابق.
في تلك الليلة، وذلك الحلم تتجاوز الذات الشاعرة التابو الجنسي غير آبهة بما سيحصل لها؛ لذا لم تعد تفكر بالجحيم، فتقول:
(ليلتها لم أفكر بالجحيم
ولا بالحشود التي سترجمني
ولا ببريق السيوف التي ستقتلني
فقط كنت أتأمل صخب أرواحنا الشبقة
يحيلنا جسدا واحدا)
هل كل ما حدث مجرد حلم تخيلته الذات الشاعرة أم هناك قرينة تدل على أن هذا الفعل الايروتيكي حدث في الواقع الحالي؟ تقول حسناء:
(ليلتها لم أفكر بالكورونا وهي تتجول خارجا
فقط فكرت أن أذهب معك إلى البعيد
لا شيء كان أكثر من حياة عندنا من:
ريش الوسائد المتطاير
الصرخات الصادحة
التنهيدات في الأعماق
الحرب الناشبة
الحنين الدامي
اللحم النيء
الصدر الشامخ
الارتعاش المحموم
الوخزات المتطرفة
الزفرات المنهلة
الهواء المشروح
الشراشف الفضفاضة
الشعر المنسدل
الكدمات الزرقاء
الظاهر المتضرع
الباطن المنمنم
الاستدارات الملتوية
الغمغمات اللاهثة
اللهفة المخلوعة
أطراف الليل الحارقة
الشوكولاطة المقضومة
الورد المنثور
الفوطة المبللة
وجسدينا في انصهار)
بهذا الاشتغال الشعري الذي تماهى فيه الواقع الفيزيقي مع الواقع النصي حتى لم نعد نميز إن كانت كل هذه التوصيفات واقعية أم متخيلة في زمن الكورونا الذي ما زلنا نعيشه الآن بكل الرعب من المجهول. فالوهم المرجعي (الكورونا) هنا يحيلنا على العالم الواقعي وهي بلغة (سيرل) إحالة مزعومة.
وتختتم الشاعرة حسناء نصها بمختتم وظفت فيه اللازمة القبلية (ليلتها) وهي تتوخى في ذلك زخم الإيقاع الشعري من جهة، والتأكيد على الدلالة من جهة ثانية، وتقودنا في مراوغة شعرية ذكية إلى انفصال نصي وتخييب أفق توقع القارئ، فكل ما حدث لها في هذا المتخيل الشعري هو المعادل الموضوعي لخيبات الحياة التي سحقت انسانيتها:
(ليلتها وأنت تنحازُ لي
وتمسحُ على رأسي
وأنا أتأبط زندك
وأنت تُسقطني في كأسك وتشربني على مهل
ونظراتك تتقاطع مع نظراتي
رحت أفتح لي نافذة أخرى أكثر إتساعًا من نوايا البشر
أبلُّ مخيّلتي بالسؤال وأتملى:
ليت كلّ الحياة كأنت
ليت كلّ الحياة كهذا الحلم الجميل!.)
بهذا الاختتام النصي تعلن الذات الشاعرة عن الانشطار الذي نعاني منه، والتشظي الذي مزق حياتنا، وأحالنا إلى التمني والرجاء، لعلنا نحصل على الحياة كهذا الحلم الجميل.
وخلاصة القول: أن الشاعرة حسناء بن نويوة أبحرتنا في عالم أنثوي حميمي؛ لتكشف لنا بشكل مذهل شاعرية الأشياء التي تحيطنا، وهي تنقلنا من لذة الحلم المترعة بالرغبات والهواجس تعبيرا عن الذات إلى دائرة الحياة بكل ما فيها من قسوة واستلاب تعبيرا عن العالم. وبلغة ثانية تنقلنا من الذات إلى العالم، وقد أجادت في هذا النص الشعري/ السردي الذي تدفق بدلالات تؤكد ثبات الحاجة إلى الآخر في كل ما ورد في صورها المتلاحقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى