جعفر كمال - الأديب عبد الفتاح المطلبي التداني بين الذات والتدبير السردي

تقدمة:

يقول الآمدي: "أن خبرُ النص ما أفاد َ الآخر، فهو غير مطردٍ ولا منعكس*" إذن فالنص مهما تعددت ميزاته يبقى جناسه محصورا في دائرة التقدير الدلالي، بما خطه لوح المضامين المحركة لِمّا يناسب ما ينطق به المعنى، من سريان سر يتوخاه علوه، فالعين تحقق، والبصيرة تنطق، والملمس الذكي يكشف، والتوحد للخيال يبصر. كل هذه المناداة تتبارى موسوعتها في لغتين:
أولاهما: أنْ يجري الكاتب وراء سراب المعرفة، فيرى البحر نسيماً فيتوغل فيه، ويلمس الهواء ورداً فيشتمه، ويجلس على الصخر وكأنه حرير، فيكون السمع عنده تارة طنيناً، وتارة رؤية تنشطر على التوهج حتى يبلغ الكاتب فصاحة المتعة، لذلك عليه أن يعرف الفرق حتى يحسن التصرف، وإلاَّ يتيه على درب عُدَّ له.
وثانيهما: أن يكون هو الموجود وهو الملغي، هو الصمت وهو النطق، هو الدلالة وهو الضياع، هو المعنى وهو التشتت، هو عنصر المادة وهو الإيمان، هو الوحي وهو الموحى إليه، هو الجلالة وهو الشيطان، حتى لا يتنفس هواء غيره، ولا يجلس على منبر ليس له، ولا يتناص مع كتاب غيره، ولا يضيع فيما لا يفقه.
وهنا يأتي دور الناقد بتسليط الضوء على دواخل وأشكال وميول وغايات النص الذي هو الكاتب، يَعدُ لاستبصار الحد الذي يكشف به عن مكوناته الخبرية بما ترادفه الحكمة الملازمة للصورة السببية المسندة بفواعلها للخطاب، أي ما يلزم ويغني دور البطل في مسك كل خيوط الحالات المقترنة ببناء المشاهد المفترضة، أي أن تكون المعاني حاكية للآخر، كما أراد الامدي، فالوجه الذي يتجول به الكاتب إن كان معيوناً فهذا نسميه التطبيق، وإن كان مؤارباً فهذا هو ما تعكسه تصرفات الذات المُعَرَفَةِ بخصوصيتها، بمحصول ما تُلتزم بمقاربة الدور المحوري من واقعية سلوك الفرد المقصود بناؤه، على أنْ لا يكون هكذا تصرف يُجردُ أو يَبعدُ متطلبات الأسباب اللازمة لموجبات الأحداث، من قيام يعنى به الفرد سواء كان في مقاربة الأحداث، أو في بسط أبعاده اللغوية. ولتأكيد موقفنا من إظهار ترجيح أهمية ما أبيح به النحو في نص المطلبي، يصار لنا التأكد، ونحن نعالج بما يقتضي به التلقي من إثبات رأِينا بالأمر القاطع في محاور النص، بالتخيير والمفاضلة بين الحكم بجواز فاعلية النص، وبين ما يلزم الناقد من تأويل يحاكي الكشف عن مناطق الخلل والضعف، وما يقابلها بالمحاسنة والقوة، عندما تتحد فيها نظائر مُشَبّه من أفعال يومية قد تكون مفيدة وقد تكون مثيرة إشكالاتها، لكن ما علينا فعله هو اثبات حقائق الأمور التي يجب أن يعتني بها التقدير الذي يراه الكاتب مفيداً ونافعاً، وعليه فتصويبنا يعلل تفكيك عاملين مهمين يشكلان قانونية تشخيص هيكلة مضمون السرد وهما:
أولاً: معرفتنا بصيرورة سبر وفحوى التقسيم.
ثانياً: قدرتنا على معاينة تفريع التَّفهيم المغاير في تقريب النوايا.
يمتاز المطلبي بقوة الملاحظة الهادفة بطبيعتها الايحائية المهيمنة على الواقع الانطباعي المر، الذي يؤسس لعقدة الحكاية المستخلصة من العواطف والانفعالات، المنقبة بأحوال السرد الذي يُفرَزْ من سيرورة البراعة الذهنية، بالواسطة الملبية لتدني الذات من الأحوال المحيطة بها، تلك الأحوال التي تعبر عن الحوار الداخلي الذي تحققه معطيات الأحداث، فتكون فيها الذات إمَّا مستلبة، وأما أنْ تكون ضمن حوار يقظ يصاحب الواقع الذي يحدده المساق السلبي أو الايجابي. كقوله في قصته " خطأ فوق العادة": "صار عيشي وسط البلد مستحيلا مع شحة مواردي ومزاجي الرافض لدعاوى غض البصر، تاركا لإيمانيتي الصغيرة أن تسوقني إلى أكثر ما يخافه الناس." إذن فأهم ما في الأمر يصار إلى أنَّ قدرات الكاتب الحاصلة على مقدارية نظمها السردي، إنما تؤدي إلى توازن يحاكي ملبيات التدوير الناتج عن مفارقات تنشأ من توظيف إيماءات تتصورها مشاعر الفرد، تارة بالتلميح إلى انكسار معين، وتارة أخرى أن يكون المصير غير واضح التكليف في منشده المقرر له، وسببه الخوف من فشل لا يليق بالشخصية المُفعلة، وهذا مما يزيد من حالات القنوط واليأس والقلق، خاصة وأن طبيعة الأجواء تتضمن واقعاً محتدماً، وهو من يبسط يد الدلالة إلى سمتها الواقعية أو المجازية، حتى يشعر القارئ أن الكاتب بسط له صفحات اختلفت ببحثها عن أمور مجتمعية خادعة له، وربما تكون متضادة بطبيعتها أو متناقضة، وعليه نرى أن الموازنة بين دلالتي الرمز التي تكشف عن أجواء المفارقة البينية قد اختفت من سياقات المطلبي بدلالتين وهما:
أولاً: دلالة حوار الكاتب مع شخوص النص على اختلاف آرائهم وسلوكهم.
ثانياً: الدلالة التي تحرك الضمير الإنساني الذي يعرّي الزيف الاجتماعي.
لعل القاص التقديري أيا كان يجد نفسه وكأنه مستلب الحيلة خاصة إذا تناص مع الإلهامين الذين تفوقوا بجعل النص القصصي أكثر متعة، يحاكي ويبسط الحكاية وكأنها صورا معيونة للعامة، يتفرج أو يستقي مما اهملوه أولئك الدالون على حكمة الموضوع المُتَناول، فلو أخذنا مجتمع كالحالة العراقية مهدداً بالانهيار والتمزق الطائفي، واباحة الدم العاصف، والتآمر الخارجي على بلد ملَّ الحروب، ومل الطغاة، ومل الخنق، ومل التجزئة، ماذا سيفعل الإبداعي الذي يبحث في الحالة الإنسانية، بعد كل هذا الخراب. هل سيبحث عن بصيص أمل ينقذ هذا الشعب المسكين من كل ما يحاك له وعليه من اتفاقات إجرامية سواء كانت خارجية أو داخلية من ساسة لا يعون معنى السياسة، فهمهم الوحيد هو السلب والنهب والاتجار الرخيص بحرية الإنسان، إذن من أين نأتي بأميل زولا! أو غائب طعمه فرمان! أو تلستوي! أو الطاهر وطار؟ هي بكائية صادمة بلا شك، هل يعني أن الكتابة عن الحمير أو الدجاج تكفي لأن نجعل من الترميز يلاحق قدرة المعاني على تحقيق معالجة ما نحن فيه من عوز إنساني واخلاقي وأمني؟
وللحق أقول للقارئ. إنَّ هناك توأما من الكتاب يتناجيان، كل منهما على حده يمرر للآخر صورة الإشارة المبهمة، تختلف فيها الفكرة والمغزى والتقدير، أحدهما ثابرَ فاختار المادة للكشف عن النفس البشرية التي هي لعبة من لعب الأغنياء الفاسدين، الذين يشترون حرية الفرد بما يفيض من أموالهم. والصنف الثاني سطحي يرى أن الله هو من يمد الإبداع بالقوة التأويلية، فهو من يعطي وهو من يأخذ، وما النفس البشرية إلاّ تطبيق لهذا الفعل. وهذا ما يرضي النبيين، مع أنَّ فلاسفة المعرفة، زرادشت على سبيل المثال عندما وضع أناشيده "بالغاثا"، وحرر في أدبيات له "الأفيستا" يكون قد وضح أنَّ الرؤية التنويرية تكمن في مكان ما في العقل فقط، وليس للقلب شأن بهذا، كذلك عبر "ماني" على أنَّ حقيقة الإنسان تتمثل في حالتين: احدهما الشيطان ويكون زمنه في النهار، والحالة الثانية هي العرفان ومجدها الزمني يكون في الليل، كون الإنسان ينسى الله في النهار، ويستذكره في الظلمة، أمَّا "بوذا" فقد بسط توحده بالرمز الأخلاقي فأتى بمبدأ القوة الماورائية، ومنها أخذ ينشر تعاليمه في القارة الهندية وفي جنوب شرق آسيا يصاحبه الفيل والكلب، فهو يرى أن الفيل يمثل القوة المقدسة، والكلب يوفر الأمان لصاحبه إذن فهو ملاك على شاكلة كلب. وذهب اليوناني فالنيتوس على أن العرفان يساوي الإلهام لأنه الباعث الحقيقي للكتابة، والعرفان هو من يحقق نجاح المعاني الروحية التي توصلك للآخر بتأثير القوة الإيمانية. وعليه نجد المواجهات أكثرها حدة بين أهل السلطة وبين أنبياء الكتابة، فمن أهل السلطة تجد المال يتعفن في خزائنهم، ومن أهل الإيحاء تكون القوة الإبداعية المادية تسند علمانية التاريخ بعلومها ومجدها ونبوغها.
ومع هذا نجد المطلبي وهو الشاعر القاص، تواصل بخاصية أسلوب الترميز ففعَّلَ المنشد التعبيري في مخاطبة لغز الحيوان، وكأنه يتناص مع كتاب سبقوه بتناولهم الحيوان، سوف نأتي لاحقاً على ذكرها، من حيث كونها خلفية سردية يكون فيها سيرة الظاهر حيوان، وكأنه يوقع على أحداث ذات هزات رمزية تصاحب خطابه، لعله يصل بعذاباته تسلكه بالتمليك العاطفي نحو الحيوان، وغايته ربما تتحد أنه يرحم هذا المخلوق الضعيف، فيكون وكأنه ينجي الغرقى، ويحيي المعدوم، ويقوي الضعيف، بواسطة سلطة العرفان الروحاني المقدس، بمعنى أننا أمام محاباة واقعية تؤسس بالإضافة إلى عوامل تعتني بالمساق الذي يطلبها الخلق السردي، المفترض أن يعمل على توسيع معرفي يتضمن مقتضيات جانب الحياة الذي هو فيه، من خلال تقبل حالتين مختلفتين كل منهما ينسجم مع واقع مناخه، وهما:
أولاً: إدراك مصبات المناخ الواقعي للبطل.
ثانياً: إدراك مدى تأثير الجو المحيط على مساق الحكاية بعمومها.

قصة:
إزار أمي أزرق

يتضح لنا أنَّ الذات الراوية هي ذاتها التي تتصدر ذروة الأحداث، تحركها كما تشاء وتشتهي، لا أسماء تتحرك بأفعالها ورغباتها وغاياتها سوى الاسم وصفته، ولا عناوين تدلنا على معرفة معيشة الفرد وسلوكه ومتبنياه وآماله، ولا غايات مهمة تفيد الفرد والمجتمع، ما عدا التحسر على اللعب مع الأصدقاء الصغار، على ساحة الرمل الرخو الواقعة بين بيوتات حي "الحلفاية" فلا إرادة تذكر سوى تخصيص الصوّر التقليدية تحت واجهة الاتجاه المعني بالصور المعلنة، بلغة تحققها إرادة المتكلم المندفعة بذاتها، أنْ تتحقق ضمن شريط تحركه الذكريات عن حالة مرضية اسمها "الرمد الصديدي". أمّا الاختصار الذي صاحب حياة الأم، فقد تحدد بكلمات محمولة من القول الدارج "أصبر يا ولدي أنَّ الله مع الصابرين"، خاصة بعد أن دثرت ابنها تحت الإزار الأزرق، وذهبت إلى مكان غير المعلوم، أو غير المعيون، لا ندري إلى أين! في حال أنَّ متخيّل الذكريات ذاته هو من يحدد وهم المكان والزمان وما يتفاعل معهما.
أمَّا وإن سلَّمنا بالأمر أنَّ المفهوم مبني على تقديرات الكاتب بقصد لحوق المعاني بجواز رمزها، فهذا يدلنا على أنَّ فحص المضمون يختلف عن الشكل المعمول به على وجهين:
الوجه الأول: إنَّما يُمكن حملُ النص على تدخل أدق وأعمق في جوابات المضامين المركزة على أحقية المشاورة الحسيَّة، تلك التي تستدعي الأشكال المتصورة بوقوع الظرف السلبي على الواقعي المعمول به، بواسطة ما نراه ونلتمسه، في قوله: "من أين جاء رمل الشاطئ الأخضر اللدن إلى هذه البقعة والبحر بعيد"؟ وللتعريف نقول لا يوجد شاطئ أخضر في المنطقة العربية كلها، الشواطئ الخضراء في أوروبا وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، أمَّا إذا أراد الكاتب أن يستخدم المجاز أو التحويل أو المحاياة بالشيء فهذا يعني التجميل لا غير، في حين نحن نتكلم عن الواقعي العيني، وهو بعد الشاطئ الأخضر عن قرية "الحلفاية" ولماذا أحيل التخصيص على أنَّ هذا الرمل من الشاطئ الأخضر؟ لكن لنقول أن رمل الشاطئ الأخضر متصور في نفسه بدلالة متخيله الخاص، فهذا يكون غير لازم للواقع بشيء. خاصة في اختلاف اللوحات المرسلة بعناية ذكية للمتلقي، تلك التي تدفعنا للاعتقاد بأن الفارق الطبقي واقع في المعيون المُدرك الذي يتصوره الكاتب.
الوجه الثاني: الرمز المعني بالتوليدية الدالة على الغاية وتأويل معناها، وقوله: " أثارت الرمال من تحت أقدامهم الحافية" وهذا يطابق إثبات الشيء وتحقيق معناه على الحالة المتردية في بلد هو إحدى أهم بلدان العالم بإنتاج النفط، والفارق هنا صبية يلعبون غير محدد عددهم بينهم واحد اسمه سعيد من طبقة غنية، يلبس جوربين أشبه بثروة حقيقية، والكاتب يبدو هنا مستنفذً الأدلَّة الخاصَّةِ الدالَّة على لزوم الغاية بمعناها، لأن الرمز المشار إليه في مفهوم "الصبر" الذي تطلبه أمه أن يتجلى به على الألم الذي صاحبه للقلة المعاشية التي يشتكي منها، بمقتضى تضاعف انحسار الحالة المادية، لأنه يفسر حالته المرضية على أنها كل واحد بتقدير الانفراد يكون إجماعاً، على أن الشرطية التي وضعها الكاتب لا تعني انتفاء الغاية، التي هي الفارق الطبقي. مع أننا ليس بأدينا منها شيء، إلاَّ ما يرجع إلى النعوت والتصورات الحاصلة في السمع والنظر، فقط من حيث اطباق الأثر علينا.
تعتبر المفاهيم الشعبية عند الناس مصدرا يحرر الأقوال في كل عصر، بتقدير ايمانهم ووجودهم وفهمهم على ما سيكون حاصلاً، خاصة وأنَّ الله منح الوالدين منزلة كريمة، تولي الرحمة والاحسان والعطف على الأبناء، ودعوة "الصبر" تقرب الإنسان من الله، ودليل قول اصْبِرُوا يتمثل في التسوية كقول القرآن: "فاصبروا أوْ لا تصبروا"، وذلك يدل على أنَّهُ شرط يوجب الاحتماء به من شر معين قد يصيب المخلوق، حيث أن مرض التراخوما ومسبباته باكتيريا ضارة ومعدية، تصيب العيون بحميَّة حارقةٍ، وطبعا مثل هكذا إيمان تحدده قناعة تفيد بالظن، والظن كما نعلم ونؤمن، أنه لا يتفق مع العلم بأغلب أحواله، على اعتبار أنَّ الحالة المرضية التي اصابت الراوي هي حالة علمية، وحدود الظن هنا واهمة بحساب افتقاره إلى القرينة المادية، كما في قول القرآن: "الذين يظنون أنَّهم مُلاقو ربهم"، لكن حدود الإيمان عند العامة من الناس سواء كان في الظن، أو في الحقيقة، يعتبر قطعا تتقابل فيه الاحتمالات المستفيضة في الروح لأنه لم يتجرد عن بشريته، خاصة في نحو ومقام صياغتها وصيانتها في المحجوب عنه أو غير المحجوب، ما دام المُخاطب ينطلق من شرط أن لا تكون هذه الصفات مخلةً بالتفاهم الذي يجعلهم قد حققوا الراحة النفسية، خاصة بالتقرب إلى شفاعة الفاعل الذي هو تخصيص العرفان بالخالق بذكر اسمه.
يواصل الراوي لوم نفسه على المصاب الذي هو فيه، فالرمد يتوغل ويستشري في عينيه، ليأكل نعمة النظر، والأم غادرت ولم تعد، والزمن فاعل في حركته المستمرة دون توقف، والمكان قائم في نفسه، والصحبة يلعبون تحت بؤبؤ عينيه. صحيح أن النظر معدوم شبه كلي، لكن السمع فاعل في حساباته المقنعة بالأصول والأحكام، كونه مبنياً على ثقافة ووعي وحدس الراوي، فالمطلبي يعيدنا إلى أسطورة أهل الكهف ناموا فإن لم يستيقظوا من المنام كما قال الجواهري، والبطل الذي لا نعرف اسمه، نام وفي نومته تغيرت الأحوال في قريته، ولما أصبح بعد تلك النومة الطويلة وجد أعمدة الكهرباء قد أضيئت بالمصابيح، وبقيت الأم تزور ولدها تارة في الحلم، وأخرى في الحقيقة كما يظن هو أو يتحسس حقيقتها، تزق قرص النعناع في فمه وترحل، والشتاء يأتي ويرحل كقوله: " غادر الشتاء وحلّ صيف آخر وجفّ النهر وأتى غُرباء كثيرون" وفي هذا يقول مظفر النواب: " وما جيت ونيمنه الثلج والشته كلَّه تعده / وعلكنه للصيف اليجي روازينه السمره شمع*" أمَّا القول البليغ الذي صاحب النص من بدايته حتى نهايته قوله: " صحيح أن عينيّ مرمدتان لكن قلبي الصغير كان يرى، وإن كنتُ ما زلتٌ تحت إزارِ أمي الأزرق" ودليله اعترافه بالأصل أن الولد المصاب بالرمد تربى تحت جنح امه الكريمة والمثل الشعبي يقول" "الكصب لو طال طوله يرجع لأصوله"، وبقي الراوي لم يسأل أحداً حتى أمه والحال يتغير من حول إلى حول آخر، لكنه مازال يتذكر إنه ترعرع وكبر ونظر الدنيا تارة بسمعه وتارة أخرى بقلبه تحت إزار أمه الأزرق.
قصة: المخاضة
الكثير من كتاب القصة القصيرة وضعوا الاحتمال التنظيري بدلاً من الإفهام واقتضائه، حتى أنهم جعلوا من الاشتراك المشهدي يستكين في خانة نائية عن المقصد والتَّشْخيص، المفترض أن يَطلَّعُ بهما الناظر على أصول مسالك النَّظْمُ، الذي يستدعي الإباحة المخيرة لجوابات الشخوص، وما يحيط بها من أحداث لها ميِّزات تجعلها تتحرك ضمن إبانة معطيات تجمع مزايا السرد المُقنِعُ بحججه، وحدوده الذاتية، وبمنال ماهية الموجودات التي تضيف على أكاديمية النص حالة مبتكرة تحرك القارئ إلى أجواء أكثر متعة وتلاقياً، وتلك إفاضة تمتع مفارق الكِلَم فيثمر ريّعها بالإدامة القابلة للاستمرار، لأن القرائن التي تتحكم في النص المقبول قد لا يدركها هذا الكاتب أو ذاك، وإلاَّ لماذا نقول هذا القاص أو الشاعر مقلد، وآخر مبتكر في ذاته، أي أنه يضيف على الفكرة أجواء أكثر حبكة من لدن جاذبتها الخاصة، فتكون لها متعة تجمع ما بين المألوف والاستثنائي، كما هو الحال عند البير كامو في الغريب والطاعون، والمسخ لكافكا، أمّا عند الكتاب العرب فحيدر حيدر في وليمة لأعشاب البحر من سوريا، وتوفيق الحكيم من مصر، ومن العراق برز بقوة مميزة محمد خضير من البصرة، وعبدالوهاب البياتي من بغداد، ومحمود الجنداري من بغداد، والقاص الذي نحن في صدد تناوله عبدالفتاح المطلبي، وهؤلاء الكتاب وآخرين حظوا باهتمام كبير من القارئ العربي، فأصبحوا يمثلون القاعدة الميالة للغرابة المتفاعلة مع الابتكار والمعاينة والنضوج العيني للحالة الإبداعية، التي تستحدث المزايا الفكرية والثقافية والاجتماعية وتبسطها على أسس مقدرات نوعية، كونهم كانوا وما زال البعض منهم يمثلون الأنموذج البليغ لمفهوم العصر ومنجزاته المختلفة، حتى أصبح ممن جاء من بعدهم في العصور التي تلت أقل أهمية، فبعضهم مَنْ قلد، وآخر قد يصل وقد يتوعك.
أختص المطلبي بتفضيل البطل الذاتي في أغلب كتاباته، فأفاضت تداعياته موهبة التلقي من حيث تجليات متخيله، فأصبح النص عنده مقبولاً بجميع حالاته، وبما أن النص عند المطلبي نص ذاتياً نجده يتراوح بين ما هو يبسطُ وما هو يَقبضُ، وبيده المنع والعطاء والتحقيق، بما ارتضى به هو، فلو شاء لأعطى ما لا تطلبه الخلائق الأخرى التي توقفت عليهم الحوائج البنائية، أنْ توسع في اختلاف معطيات الحكاية على ساح منجزها ومقاصدها النفسية، ومن الإشارات المهمة عند المطلبي أنه توجه إلى دراسة الظواهر الحسيَّة المتناقضة في الحي الصغير، ليجعل من خصوصيته تتحكم بفواعل عصره المتضادة، وكأنه يتبنى استنارة مذهب داروين الذي ما فتئ حتى أصبح موضوعا للجدل المتواصل. يدلنا دافيد طومسون إلى: "أن الفلسفة والعلوم شديدة العناية بدراسة ظواهر العصر الجديد، خاصة في اكتشاف علم النفس والاجتماع وجعله أساساً علمياً جديداً عند داروين، وفرويد، وتاردو، وكليم*" وفي قصة المخاضة يدلنا المطلبي إلى أنَّ أساس الحوار الذاتي غير المعلن بأحواله لم يعد مرضيا له في حال من الأحوال، وقوله: "ساءت أحوالي، وصار عيشي وسط البلد مستحيلاً مع شحة مواردي ومزاجي" المنشأ المقصود بهذه المحاكاة تروم المعيشة ضمن فلسفة الحدود الطبقية، فالشكوى المؤسسة للمُثَبت المقرون كلامه بالواقعي يكون الحكم به في المزية التي يستودها الكاتب نفسه، لا بالمظلومية أمام الآخرين، وغايتها العطف على القائل، لأن الهاجس المعنوي قد يتبنى الظن من حدوث شيء ما يؤذي النفس البشرية، وأن كانت هذه النفس لها في ذلك شأو تموضعه الحالة المادية. وطبعا هذا التخصيص يندرج ضمن مستوى التحصيل المعنوي الثقافي.
إذن فبيان الشكوى التي هي اشبه بقطب الرحى بجميع كتاباته الأدبية، نجد أفكاره تصب بما ستولده الذات من معايير تتأثر بفاعل نفسي يبسط خصوصيته المتشائمة، وهو تعبير مادي يكشف عن أولئك المصابين بالقلق أو الاكتئاب أو الانكسار، الذين يقعون في دائرة مغلقة تنتجها تفاعلات تقبض على آمال الرؤية الجمالية، وتجعلها منحسره في مخاض قسري يصيب تجليات النفس بوحدانية مغلقة خياراتها بالشك والخوف والهزيمة، فإنّا إذا نظرنا إلى طبيعة الحالة المعاشية وجدناها تخبر المشاعر بالضياع والذهول، وبتقدير آخر فإن تلك المشاعر كانت وما زالت تعبر عن ألم يعتصر قلب الشاكي من أحواله المادية، والظالم في مثل هكذا أحوال هو النظام الاقتصادي للبلد، فالكاتب يحلل حالته بالنقد والمعالجة في قوله: "الرافض لدعاوى غض البصر لإيمانيتي الصغيرة بقوة الاشياء، أن تسوقني إلى أكثر مما يخافه الناس، وهو أن تجد نفسك بين ليل وإصباحهُ على شفير الفقر والعوز." يريد المطلبي دق جرس الإنذار لأن يعالج هذا الأمر على أن لا تتسع حالة الفقر، لكنه لم يعط الحل المطلوب للمساهمة في محاصرة العوز، ولا حتى توقعه بتغيير الأحوال المعيشية إلى الأفضل وهو مبطئ ومتأخر، لأنه يعترف بأن صبحه دفعه أنْ يجاور الحيوانات "الحمير" وهذه حالة حياتية جديدة ارتضى بفعل ضغط العوز أن ينتقل للعيش في غرفة صغيرة، لأن من كان في نور يعيش فإنما يتوقع الظلمة تطل وتطول مدتها، وأظنه أراد أن يقول: نحن في ظلام دامس ولسنا في أول الإصباح.
"في اللحظة تلكَ عرفتُ كم انني كنتُ ظالماً بانحيازي إلى إخوتي البيض والآن علي أن أقنع إخوتي من حمير الزريبة السود بالثورة على ظلم القوي ذلك الذي لا يتوخَى العدلَ بسلوكه بيننا وبين إخوتنا البيض، الحقيقة أنني كنت متحمسا لقضايا الحمير السود بما أملك من روحٍ ثوريةٍ سابقة الأمر الذي لم أكنه يومَ كنت أطل عليها من نافذة غرفتي بيد أن الحمير السود بدت حميراً فقطْ وكما عهدتها دائماً لا تتعاطف مع مشروع مقاومة الظلم الواقع عليها ووجدتني حمارا ثوريا وحيدا بين حميرٍ اعتادت بؤسها وأدمنته إلى حد اللعنةِ وهكذا كان علي أن أواصل ما تبقى لي من حياة بجسد الحمار الأسود متذكراً الأيام الخوالي التي قضيتها متأملاً من غرفتي المطلةِ على زريبة الحمير ومتمنياً أن يُطل على الزريبة أحدٌ ما ليراني كما أنا حماراً من بين حميرٍ كثر." إذا قلنا أن المطلبي لا يقبل الزيادة في الحياة، فالحياة عنده واحدة لا تتفاضل بطبيعتها، وهو لا يرغب أن يتساوى مع الحاصل في حياته، وهذا يناسب ما يعطي الفضل من حقه، وإلى هذا ذهب من قال عنه: "أرْبَيْنَ" لأن هذا التقدير يكون حكماً مهموزاً بتشبيهه، وكأني به اعتمدَ ما تحقق عند أهل المعرفة، إذا أبان لنا الكاتب معنى: أنا أرتفع بك إلى مصاف الحيوان، فذلك الموقف الجريء جعل التمييز البشري "الذات" ترابط الدليل والمدلول بواقع قد يكون حاصلاً حقيقياً للبعض من الناس، لأن حقيقة التسامي من كونها عرفانا خاصاً، تجعل المتجلي إليه بطبيعة الحال يكون مختلفاً بتصرفاته، وما يرمز إليه المطلبي بالحقيقة والمحقق فهو يختصر العلة والشرط بتطبيع دلالي مشكوك في قبوله، يقول ابن عربي: "مثل هذا لا يليق بالذات لكن تقبله الألوهية من وجه تردده*" بهذا المعنى فيما نرى في قصة "المخاضة" بغرابتها وبعدها عن الواقع بنبرة مرثاته الشرقية المطوعة بقدرة تحقق تناصا أو ما يقارن ملحمة "كتاب الحيوان للجاحظ*"، وهو ما يقربنا من شأن تلك المواقف التي يطرحها المطلبي للتحليل، خاصة في مسعاه إلى الترميز وكأنه أبلغ المشرف على القرار الاقتصادي بمهمازه وجرأته لأن يكون الحاكم عادلاً، لذلك اختار أنْ يجعل من الحيوان يرتقي الى مصاف الإنسان، بعكس ما فعله الغرب مع الكلب والقطة، وما فعل العرب مع القطة والبقر والغنم والحصان والطيور باستثناء الغراب، لكنه غير وارد عند العرب في شأن الحمير، وبما أن القاص كان ثورياً ضد التقاليد المعقدة والمقيدة لحرية وكرامة الإنسان، وهو ما دعاه لأن ينسق ثوريته بحاصل جنس مختلف عن جنسه هو، ففعل تلك الثورية بمصاحبة قبوله للحمير، فيما هما مخلوقان مختلفان متضادان، فلا يجوز أن يكونا مجتمعين وهذا أغرب وأطرف، فهو يرى أن عَيْشَهُ مرضي بما يعتقد، مع أنه أي الكاتب يتألم حين يجد نفسه وهو يفضل الحمار الأبيض على الحمار الأسود، هذا لأنه اعتبر التفضيل ظلماً، وهو هكذا كونه لا يرضى للإنسان أن يكون عنصرياً على اساس التمييز، بوارد قناعة أراد بها الكاتب أن يكون العقل راضيا بما يؤمن، وكل هذا يندرج ضمن توليفات يريد بها الكاتب أن يدلنا بقوة مجازه أنَّ تفاعلاته صادقة، وكأنه يقول ما معناه منعتني عزماتي من التّلوَّمِ، أي أن الإنسان الفقير حين يعايش الحمير يود لو أنه يسعف ويعتني بها لألفتها وسلوكها المطيع لأوامره، حتى إذا كانت هذه الأوامر بالعصى.
قصة:
العثور على بنجامين

في قصة العثور على بنجامين، يلتقي الراوي "الذات الراوية" ب"جورج أورويل" واسمه الحقيقي إريك آرثر بلير، في المقهى الكائنة في مركز مدينة بغداد، لم يتوقع الراوي هذا اللقاء المفرح، احتفى ببلير وكأنه ملاك نازل عليه من السماء. فهنا ثمة موازاة رمزية تُولد إحالة الزمن الماضي بكل معايشته إلى حقيقة حاضرة، خاصة في توليد المكانية الصريحة المشار بها إلى "مقهى حسن عجمي" التي أراد بها الكاتب أن يكمل استقامة جريان الوجوه بتمثيلها المُعايش للواقع، بمراتب تُحادِثُ المعرفة المحصنة بالخلق الحاصل بمجريات الأحداث التي أصبحت تدور حول شخصية الضيف، وبسبب التنويع المختلف في سياقات الكاتب المعروفة بذاتيتها المحضة، نجد أنَّ تَرادف المساق أنتقل إلى مُحالٍ باعتباره أتصف بالدليل الذي يُعَرفُ نفسهُ بنفسهِ، فيكون الوجود الْمُحْكَم يبتعد عن كونه يتمم شرح الصورة كما هي في شكلها وحركتها، دون دفع الْمُخَيَّلاَت أن تتأثر باللزوم الذي يقتضي تَحكيم الحبكة من مكننتها بواسطة تخليص مراتب الشخصيات من مباشرتها، وذلك بالسعي لأن يكون الإيثار يشد من قوة الحدس اللازم للحكاية، وبهذا كأنه يظهر ضعف المقابلة المنظورة لمجريات تماسك التَّدْليس السردي لأنْ يشد القارئ لمتابعة مقنعة، وهو إبعاد التَّداني التقريري من التدبير المفترض أن يوافق مجنسات السياق. خاصة وأن الشخصية الغائبة الحاضرة "بلير" يعتبر من الوجوه الأدبية البريطانية المعروفة والمحبوبة، كان وما يزال يمثل الاعتبار الذكي الواضح، سواء كان في الرواية أو الشعر وحتى النقد، اعتبره النقاد البريطانيون أديباً متعدد المواهب، كونه تَمَثَلَ بصفات جلاليه أهمها تميزه بنقاوة العقل المتمدن، والروح الطموحة، والقلم المشذب، العادل الناضج، والمحق النقي، صاحبَ الحقيقة الناطقة في سلوكياته. ومن أجل هذه المعارف الإنسانية يبدو أن بلير يمثل الذات القابضة على بسط المدرك الفاصل في حياة المطلبي، فهناك أبطال أشبه بالإمام المبين الذي يقف على كل التطورات المثيرة في شخصية الإنسان بمراء نظرته الثاقبة، فننظر إليه وكأنه يُكتَشَفْ من حيث تجليات بصيرته، بمحصلة تعريف قياس المفاهيم الخاصة به، لذا فهو مرغوب التعرف عليه للحصول منه على القوة الروحانية الخالقة لمد الآخر بثقافة ربما تكون منقولة، وربما لأنه ينفع لاستغاثة يرجوها الآخر منه كالعلم والمعرفة وفتح لغز الأساطير، وما إلى ذلك من بسط وحل أمور مشوشة تتناقض في داخل ذاتها.
لو افترضنا جدلاً أن الراوي لج بالطلب لرؤية بلير في بلده ترى هل سيصل إليه بهذه السهولة، بالتأكيد لا، وهذا الاعتبار مهم في سر التجلي عندما ألتقى الدليل بالروائي الانكليزي بلير. خاصة بما ولده لقاء البهجة من سرور عارم في نفس القاص من فرح وقوله:
" تَلبَّسني السرور والانفعال فبدوتُ مرتجفا وأنا أصافحُهُ"
لماذا كل هذا التشريف في اللقاء؟ هل هو في الرهبة المقدسة بالتأثير المعلن في حضرة الضيف؟ أم في الباعث الذي يؤسس لقوة الشخصية الغربية، أم أنه في انتشار روايات بلير وخاصة رواية 1984؟ فلو كان الراوي يحسب حساب الحضارة المؤثرة في الكيان الثقافي لما وجب الداعي لتحقيق هكذا تمييز بدون عناء. كان التلاقي هو أشبه بنزول الحالة المعظمة في نفسية الراوي، ومكان اللقاء كان في بغداد، فهل قبر بلير يسع بغداد والمقهى، قد يرد به الضيف ويراد بها واقعية الزيارة غير المحسوبة، ربما هو الكرم العربي الذي يفتح أبواب الوهد بالعطاء والمحبة، وإذا عكسنا الصورة وذهب القاص المطلبي إلى لندن ترى هل يستقبله بلير بذات الحفاوة، وبهذا يرد الدال "القاص" على المسمى "الضيف بلير" أم أنه سينظر إليه عن بُعد ويلقي التحية بهزة خفيفة من رأسه؟ ومع هذا هل الفرق يعني اختلاف الإبداع أم اختلاف رفعة النفس؟ لأن اللقاء حدث في الحضرة الذاتية في مقال السيد الراوي، فهل يكون الحلم الروائي يعبر عن دلالة تنوع الكاتب الانكليزي؟ خاصة وأنَّ بلير عاش في القرن العشرين الذي أرخ لأهم الثقافات الانكليزية، فهل يعني أن الكاتب الأجنبي هو الأفضل في جميع الحالات من الكاتب العربي؟ وإن كانت رواية الكاتب العربي على أحسن الصور وارقى المراتب، إذن لم لا يكون اللقاء مع هذا الإمام النذير مجرد تعارف وينتهي الأمر؟
لنتعرف على البطل الفاعل بنجامين، ترى من يكون؟ خاصة وأنَّ الاِسْم يحتمل دلالات صعبة التأويل، لأننا أمام ظاهرة لا هي بالاجتماعية ولا هي بالخيالية، حتى أننا لا نعلم إذا كان بنجامين اسما أو صفة! لكي نعتمد بتحليلنا لتلك الشخصية على أدوات تُبَسطُ المشهد بمقبولية ناضجة، وبالتالي نوجه نقدنا على أن يفتح أبواب سر العنوان، بروح دلالية تتفاعل مع هذه المفارقة، نقدمها ليس كما هي فحسب، بل نمنحها عطاء رؤيتنا وموقفنا، نحقق في مباعث المعنى وجواباته وأصوله، وما يصدر عنه من مفهومات محاميد تنزل علينا بمنزلة شمولية تتجاوز شخصيته، وقضاياه الكبرى، وطموحاته الجامحة، من واقع علاقات ربما تعددت مقاصدها وأهدافها بالكون والعالم ومحبيه، خاصة وأنَّ جورج آورويل "بلير" الضيف على بغداد وتحديدا في مقهى حسن عجمي جاء من لندن يبحث عن بنجامين، قال لا يجب أن يكون بنجامين مغترباً عن وطنه وترابه، فتكون الذات منفصلة من الجذر، وإذا كان هكذا، فيفترض أن يعاد إنتاج تلك الذات إلى اصلها، كذلك لا يمكن جعلها ملحقا هامشيا بثقافة الآخر، إذن على بنجامين أن يتذكر دوماً إنه ينتمي إلى ثقافة ذات حضارة بعينها، وأن إدامة هذه الحضارة لا يمكن أن تكون بأي شكل من الأشكال إلاَّ بتعزيز الانتماء إليها، عبر حوارات تتعدد أهميتها بوجوده هو، فهو شبيهنا وشريكنا، وربما يختلف بأفكار مقيدة بنطقها وبصفتها، وإذا كانت هويتنا تختلف عن هوية بنجامين فهذا لا يعني أنه غير مصاحبٍ لنا، أو نسخة مشوهة عنا، مهما يكن فهو رؤيتنا إلى المستقبل.
لاشك أن المطلبي تفاعل مع الحدث المثير بنوعيته ذلك الحدث الذي جاء من أجله بلير، بتقدير تمثلت به غاياته يظنها الكاتب إفاضة حسن نية، وهذا مما دعاه أنْ يحترم سلطة قيَّم التأثر الواقعة في ذات نفسه، بوازع المتحقق الذي آلف وجه منشد البحث، ربما غفل عن الوجه الخفي المنطقي الذي تلمسه بعفوية وشعر به بواسطة التأويل الغافي، خاصة وأن لهذه الشخصية نجاعة تحقق المقدار الذي يراه الراوي على درجة عالية من الأهمية، بمستوى الغفلة التي أرادها الزائر أن يضع مضيفه بها، مع أنه ما فتئ يعبر عن اعتزازه بالضيف، ويثني على قدومه من بريطانيا، وبما أنَّ المبحوث عنه هو غير معلوم سوى أنه بنجامين، لكن ربما أصبح التقدير واضحا، وأننا أمام إشارات كادت أن تكون مفيدة وواضحة، وبما أنَّ الضيف أخذ يتصف بالأخلاقية حين جاء يبحث وينشد متألما بإنسانيته عن بنجامين، خاصة بعد أن وجد الضيف مضيفه ضائعاً في لجة الاِسْم فضل أن يوضح المقصود، قال الضيف: "الحقيقة أن الأمريكيين ضالعون في الأمر، وربما هم مصطحبوه معهم للشبه الكبير مع اخوته حمير المنطقة" كان المُضَيّف ينتظر اللغز الذي كان يحيره، إذن فالمبحوث عنه حمار، والمسبب بضياعه هو دخول المُحتل الأمريكي للعراق ! ولكن الضيف على قناعة يضعها في كفه إنه سوف يجده، ربما في زريبة أو حفرة عفنة أو في سفارة أوروبية مما يجعل التقدير واضحاً، فقد يكون المشبه به حمار، على شاكلة "سيموزا" حين اختفى ولم يعد، بعد أن كان أهم طغاة عصره.
وبسؤال طارئ سأل الراوي صاحبه الضيف: "لكن كيف تميزه من بين جميع جنس الحمير؟" أجابه الضيف بمزية مؤدبة ومقنعة: " كيف لا وأنا الذي صنعته ووضعته في حقل جونز منذ البداية." إذن الإنكليزي هو الذي جاء ببنجامين ووضعه في حقل السيد جونز، لاشك فالاستعارة هنا فاعلة وواضحة وضوح ميلان قوز قزح، فهم من أوجدوه والأمريكان غيبوه في 2003، بعد أن استوفوا حقهم، ترى ما حسابات الراوي في هذه المخاتلة؟ ربما لغة الضيف غير مفهومه بالمقدار الذي يطلبه الدليل، ولكن بهذه الحالة ماهي المكانة اللائقة التي يجب أنْ يتصرف على أساسها راوي الحكاية؟ هل الجمع في هذه الحالة ملاحظ بين الفيض الذاتي، والفيض الإرادي؟ أو أنَّ التشريف الذي جاء من أجله الضيف إنساني مجرد من الغايات! وإذا كانت غاية الضيف نزيهة إلى هذا الحد هل يقتنع القارئ المثقف بهذه اللطافة؟ خاصة وأن الضيف بلير بكى بدمع صامت، ولكن لنفترض أن الراوي قبل بما جاء من أجله الضيف، ترى هل الكاتب باعتباره يمسك بملقحة خيوط النص يكون واعيا وساقياً لأفكار الضيف بالرضا والاستحسان؟
ومع كل ما ورد من شكوك تهيأ الجميع للبحث عن بنيامين، وفي نفس الدليل شك كبير له وجهان، وجه به يسأل الرضا كي يقتنع بما يقابله من حقيقة لا تُظهر عن الوجه الحقيقي الذي جاء من أجله الضيف، ووجه آخر يمثل الوجهة الخاصة التي جاء من اجلها الضيف مندوباً لبسط نواياه، وهي التي تمثل الحقيقة، وقد تكون مستترة، لكن لا غبار عليها وهي موازاة تطبيعيه بين الحمار والحاكم العراقي، تلاقح صفات جيناتها السياسية بالخاصة الإرادية المعنوية، أو أنَّ المُتَشابِهَيَّن التقيا بلزوجة المكان، فالحمار يعرف جيدا مكانه في الذهاب والاياب وأين يضع قامته الثخينة، والحاكم العربي مغرم حد التيم في كرسي الرئاسة لا يفارقه إلاَّ إلى القبر، فجاء الضيف لبغداد دون إذن أو علم مسبق من قبل الحمار ليعطي الأوامر له ويعود، على أساس البيت بيتنا وليس فيه راعٍ غيرنا.
وهكذا يستمر البحث عن بنجامين وفي الطريق تكون المفاجأة هي سيدة الحل، لافتة معلقة على بوابة فخمة ربما هي كلية الطب البيطري تقول: "اهلاً وسهلاً بالضيوف" يتنفس الفريق الصعداء فيمنحون رؤياهم طابع الثقة باليقين، ربما الحل يوجد خلف هذه البوابة المذهبة، خاصة وأن الاستثناء الذي ميز المكان هو الاهتمام بتزويق وشنشنة الحبال بألوان مختلفة، وعلى مرتفع البوابة يوجد علم الدولة يرفرف فشلاً بفعل ما يحصل في تنظيم الاحتفال، ربما لأنَّ القائم على تنظيم هذا الاحتفال امرأة حاصلة على رتبة "عميد" فخرية من ابن عمتها أو ابن جدتها، أو خليلها.
أفاض الراوي من علمه على قدر ما أوجده من مطابقة غنية في جمع الشبيهين المتناقضين بالاستعداد للقبول، فظهرت لهذه المجانسة ما يحسب لها أحكام تعددها، فيكون المقصود هو حقيقة افاضة لا حقيقة اختيار، لأن قرارات السلطة القائمة في المكان المأهول بقيادات أجنبية موضوعة من حكومة الزائر، لذلك نجده يقول: "راح السيد أورويل يجمع تفاصيل ضرورية لكتابة التعليق". أي أنَّ الزائر جاء لبغداد مكلفاً لا زائراً يقوم بمهمة إنسانية يبحث عن غشيم بليد لا يقود نفسه، أم أنهُ جاء ليكتب عن ما يجري في بغداد، يقول نيتشه: " هناك فئات شديدة الخصوصية عميقة الفكر، هي تلك الفئات التي أبت إلا أن تفتح الستار وتتحرر من أي قيد زائف، أشخاص أبت إلا أن تواجه نفسها وحقيقتها، تواجه الإنسان بكل ما له وما عليه، تواجه ضعفه وقوته، تواجه طبيعته وشذوذه." ترى هل هذا الفهم أتصف به وعينا، أم أنه هو واقع لحكام جاءوا من نطفة الحرام؟
جعفر كمال
=
هامش:

6- الآمدي: اقرأ كتاب الإحكام في أصول الأحكام.
1-اقرأ البقرة 46
2- اقرأ الطور ص16
3- اقرأ مظفر النواب قصيدة يا ريحان ، المجموعة الشعرية ، للريل وحمد.
4- ابن عربي، رسائل ابن عربي الجزء الثاني.
5- طومسون: اقرأ كتاب حول تاريخ العالم 1914 - 1940 ، ترجمة حسين كمال أبو الليف.
6- نيتشه، وهو فريدريك نيتشه، كتاب هذا هو الإنسان.
7- كتاب الحيوان للجاحظ، يعد أول كتاب جامع وضع في علم الحيوان، وقد سبق الجاحظ أكثر من كاتب في هذا المجال أمثال الأصمعي، وأبي عبيدة، وابن الكلبي، وابن الأعرابي، والسجستاني.
http://basrayatha.com/?p=10244 قصة إزار أمي أزرق
المخاضة قصة المخاضة.
العثور على بنجامين قصة العثور على بنجامين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى