مرسي عواد - في محبة العربية و( نزار قباني).. كلمةٌ مهمَّةٌ "جِدًّا"

كثيرًا ما يتحرَّج البعضُ من استعمال كلمةٍ ما في نصٍّ شعريٍّ لشيوعها على ألسنة النَّاس حتَّى في كلامهم اليوميّ، متذرِّعين بمسكوكات " المعجم الشعريّ" و"شرف اللفظ،" كما كان يقول أجدادنا. وقد يحدث أيضًا أن يبتعد الشاعر عن الكلمة لأنَّها التصقت بمعجم شاعرٍ شهيرٍ وكأنَّ الأخير هو الذي نحتها. وهذا وذاك ما نجده في مفردة "جِدًّا."
فالكلمة شائعة على ألسنة العامَّة حدَّ أنَّ الكثير يظنّ أنَّها ليست فصيحةً. الطريف أنَّ الأمر وصل إلى درجة أنَّ أديبًا ومثقّفًا-لغويًّا كبيرًا "جِدًّا" افتخر أمامي بأنَّه لم يستعمل هذه المفردة كتابةً ولا حديثًا طوال حياته. وجزم أنَّ هذه الكلمة جديدة على العربية الفصيحة وأنَّها لم تردْ في شعرٍ إلَّا في عصرنا هذا الذي وضع الدارج موضع الفصيح. ولأنِّي أجلس منه مجلس التلميذ من الأستاذ، قلتُ له لقد اقترنتْ الكلمة باسم (نزار قبَّاني) فصار كل شاعرٍ يستعملها بعده متَّهمًا بأنَّه يتكئ على معجم "شاعر الياسمين." وهنا تشعَّب بنا الحديث إلى الشِّعر والحب... والحب والشِّعر.
رُحنا نصافح (قبَّاني) ونتسلَّل معه إلى الغرف السِّرِّيَّة نرى قطرات الماء تتساقط من شراشف-قصائده الملقاة هنا وهناك. وجلسنا إلى (ابن ربيعة) نسأله كيف كان التحوُّل من خشونة البداوة إلى نعومة لغة الحضر. ودخلنا إلى مجلس (ابن الملوّح) نتمسَّح بعباءته ونسمع من أصحابه عذريًّا عذريًّا. ونزلنا بطاح (عبس) نسأل عن أعذب السُّود لفظًا وأعفّهم عشقًا وأشجعهم... حقيقةً لا مجازًا. وهكذا... هكذا إلى أن رجعنا إلى الأمير (الكِنْديّ) الجادّ اللاهي لنقف طويلًا عند سؤاله التعجُّبي لـ (فاطمَ). فقال عنه صاحبي: "كان شيطانًا... شاعرًا وإنسانًا." قلتُ: رحم الله أبناء (كِنْدة) كانوا عُشَّاقًا وكانوا أهل لغةٍ وشعرٍ.
ثم قلتُ: وكان من بين هؤلاء عاشقٌ آخر، ابن سادات (كِنْدة)، مثله مثل (امرئ القيس)، لقَّبوه بـ (المقنَّع الكِنْديّ). قيل لأنه كان لا يُفارِق سلاحه، وقيل لأنه كان وسيمًا فلا يضع عنه لثامه اتِّقاءً لسهام عيون حاسديه، وقيل لأنَّ القناع كان سمة السادات. وكان هذا (الكِنْديّ) شاعرًا أمويًّا، عَشَّاقًا كأجداده، لكنَّ عمَّه رفض أن يزوِّجه بابنته بعد أن أضاع (الكِنْديُّ) مالَه وكثرت ديونه بسبب سخائه وكرمه، فأنشد قصيدته الأشهر التي منها:
"يُعاتِبُني في الدَّينِ قومي وإِنَّما = ديونيَ في أشياءَ تُكسِبُهم حمدا"
فتذكَّر صاحبي الأستاذُ القصيدةَ وأكمل معي إلى أن وصلنا إلى البيت الذي يقول فيه:
"وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي = وبين بني عمِّي لمختلِفٌ جِدَّا"
فقلتُ له: أجزم أنَّ عمَّ (الكِنديّ) أصرّ أكثر على موقفه بعدما سمع الرجلَ يخوضُ فيه، لا سيّما وقد استعمل كلمة "جِدًّا" التي لم ترد في شعرٍ إلا في عصرنا الحديث.
فضحك صاحبي وضحكتُ... جِدًّا جِدًّا جِدًّا.


__________

# مرسي عواد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى