د . مصطفى الضبع - "بيانو" صفاء عبد المنعم

واحدة من بنات القاهرة ، ممن أصابتهم حرفة الكتابة عن موهبة عرفت طريقها للتحقق بداية الثمانينيات (مجموعتها الأولى 1984) ، مما يعني رحلة من الكتابة عمرها يتجاوز الثلاثين عاما، تشارك جيلها الكتابة ، وتشارك تلاميذها أحلامهم ، وتشارك الحياة الثقافية كثيرا من أنشطتها ، تعمل بالتدريس غير أنك تراها خارج العمل واحدة من مثقفات جيلها اللواتي راهن على الكتابة فقط : إبداعا للقصة القصيرة والرواية ، أو بعض الدراسات التي تميل فيها إلى مكاشفة الثقافة العامة وخاصة الشعبية منها ثم الكتابة للأطفال وهو تنوع نجحت الكاتبة من خلاله أن تبلور تجربة لها قيمتها على مستويي : الكم والكيف ، منجزة تجربتها في هدوء القديسات وحرص أصحاب الرسالات و دأب الأمازونات (المحاربات في الأساطير اليونانية ) .
صدر لها عدد من الروايات، منها :
من حلاوة الروح – رؤى للنشر- القاهرة 2002.
ريح السموم – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2003.
قال لها، يا إنانا – نفرو للنشر – الجيزة 2008.
في الليل لما خلي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2008.
و عدد من المجموعات القصصية ، منها :
حكايات الليل 1984.
تلك القاهرة تغريني بسيقانها العارية 1990.
أشياء صغيرة وأليفة 1996.
بنات في بنات 2000.
بشكل أو بآخر 2009.
أنثى الخيال 2011.
سيدة المكان 2014.
الألعاب الخطرة 2015.
ولها في الدراسات الشعبية كتابان :
أغاني وألعاب شعبية 2004.
داية وماشطة .

البيانو([1])

" لسعت النار كفيها . زمجر العجوز صارخا : أرفعى البيانو جيدا .
كان عليها أن تحمل بيانو العجوز من الدور الأرضى إلى الدور العلوى صاعدة به السلم وهى مرهقة ومتعبة وبيديها لسع النار من أثر الحريق .
كان البيت ..بيتا خرافيا . بناه العجوز فى منفاه الطويل سابحا فى أحلامه خالقا أسطورة حول عزله من الخدمة بعد مدة دامت سنوات وسنوات .
كان القلب مهجورا مثله . هجرته العشيقات الرشيقات الطيبات .وأتت الخادمة الصغيرة لرفع البيانو والصعود به إلى العلية الفوقية لوضعه بين الأثاث الفخم والذى كان يحتفظ به قبل سنوات عزله وناداها من حنجرته المشروخة : يا بنت احملى البيانو جيدا ولا تدعيه يسقط منك .
ما كان على البنت إلا أن تبذل قصارى جهدها صاعدة . والبيانو يفلت من بين يديها . وفى كل مرة يناديها : يا بنت . ثم يشعل البايب ويجلس مسترخيا ناظرا إلى صعودها وتوقفها وأخذ نفسها.
العجوز الذى دجن البيت وجمع أثاثه لمدة دامت سنوات وسنوات يحاول أن يشعل البايب ولكن الدخان نفد .فنادى عليها صارخا :يا بنت اتركى البيانو واحضرى الدخان من المكتب .ركنت البنت البيانو على درجة السلم ونزلت مسرعة .
خطت نحو المكتب ثم خرجت حاملة الدخان و أعطته له .وضع دخانه وأشعل ناره وجلس مستمتعا . والبنت تواصل صعودها"
يبدو النص للوهلة الأولى هادئا ، بسيطا لامع السطح ، غير أن القراءة الثانية (المتأنية ) تلك التي تتغيا الكشف ، تضع صاحبها أمام مجموعة من العلامات القادرة على طرح السطح اللامع والوقوف على عالم يتسع بقدر الجهد المبذول في إدراك التفاصيل أولا والربط بينها ثانيا ، وعلى مستوى الشخصيات الفاعلة يطرح النص نوعين من الفواعل :

بشر (البنت – العجوز ) .
أشياء (البيانيو – البايب ) .
على مستوى الصوت يبرز فعل العجوز الراهن مختزلا في صوته (كان فعله في الماضي الجمع والتخزين فحسب ) في مقابل الفعل الذي ينسب للبنت التي تلتزم الصمت تماما منفذة أوامر العجوز ، العجوز صوته قادم من الماضي يستثير فعل البنت ونشاطها في تنظيم العالم وترتيب تفاصيله وإصلاح الأشياء التي لم تعد صالحة كما كان عليه الأمر من قبل .
فعل البيانو ليس مطروحا على الوعي في مقابل فعل البايب ، البيانو صوت معطل عن العمل يفسح المجال لتصدر صوت العجوز الآمر ، فقط هو يشغل حيزا من فراغ في مقابل البايب الذي يمسح أحزان العجوز أو هو بمثابة الفعل المساعد لتحمل الزمن
البيانو متكرر ثماني مرات يتصدرها العنوان ، البايب يتكرر مرتين ، فإذا كان البيانو قوة ضاربة على مستوى الحضور اللغوي فهو قوة معطلة على مستوى الحضور الفني (مساحة الفن داخل النص بوصفه العنصر الوحيد الذي يشير إلى درجة من درجات التذوق ) مما يعني أنه مساحة مهجورة (وخاصة أن النص لا يتضمن أية إشارة إلى فعل سابق للبيانو أو إشارة إلى مساحة من الإنجاز السابق.
يتكرر الفعل " كان " في القصة ست مرات مؤكدا على ماضوية الرجل غير المنتهية ، المستمرة باستمرار الأحداث المسرودة والباقية ببقاء عالم الرجل وسكونه في مقابل فاعلية البنت للدرجة التي تصبح معها نارا لم يشعلها الرجل .
النار تحيط بالبنت إحاطة لها دلالتها تتوافق مع إحاطة النار بالنص عبر دائرية يدركها المتلقي في حركته بين العلامتين متميزتي الموقع (أول القصة وآخرها ) ، أعني : النار الفاعلة " لسعت النار كفيها" – "وضع دخانه وأشعل ناره وجلس مستمتعا" .
نفاد الدخان يعني نفاد رصيده من المتعة ، إن العلامات المبثوثة عبر النص بوصفها علامات لغوية أولا وسردية ثانيا تفرض علينا أن نعيد النظر – عند نقطة بعينها – في ذلك الوعي السردي بمجموعة العلامات المطروحة على وعي المتلقي لاكتناز حزمة من الدلالات حول الرجل العجوز والبنت بما بينهما من فارق في الوعي وفي التجربة ، الرجل يفارق وعيه عبر الدخان ، عبر متعته الخاصة والبنت تفارقه صاعدة إلى الاجتماع بالبيانو لتصبح القسمة مختلفة بعض الشيء ، افتراضيا الرجل ممتلك البيانو في مقابل البنت أمر منطقي لتشكيل قوة ثنائية ضد بنت خادمة ، لكن البنت مع البيانو في مقابل العجوز قسمة واقعية ليستقر الوضع هكذا : العجوز في الأسفل مع زمنه قابعا في مكان الحريق ، والبنت في الأعلى تواصل صعودها للبيانو استكمالا لمهمتها السيزيفية غير أن الصخرة هنا مختلفة إذ يكون عليها الصعود بالبيانو صعودا يفارق واقعيته إلى الصعود المجازي .
"والبنت تواصل صعودها"
ولا يتوقف النص عن طرح فتوحاته المتفجرة خلف سطحه اللامع ، فالنص يستثمر طاقة الضمائر (نكتفي فقط بضمير الغائب الظاهر ) ليضعنا إزاء مناظرة بين قوتين / الشخصيتين : العجوز – البنت تكاد تكون متوازنة على مستوى الكم : سبع مرات ضمير المذكر (منفاه - أحلامه .....إلخ ) – والعدد نفسه بزيادة ضمير واحد للمؤنث (كفيها – صعودها .......إلخ ) كاشفا عن ذلك الصراع الخفي بين مجموعة من الثنائيات : الذكر / الأنثى – العجوز/ الشابة – الغني / الفقيرة – الأعلى / الأسفل – السيد / الخادمة – السليم / المصابة – الآمر / المنفذة وهكذا تتضام هذه الثنائيات كاشفة بدورها عن أبعاد الشخصية / الشخصيات ، ولتخلق مجالا لتشكيل مكونات الكون : الكائن الحي في ذكورته وأنوثته – الأشياء في ديناميكيتها (حركتها) لا استاتيكيتها (سكونها ) فالنص ( أي نص ) إن لم يكن قادرا على إخراج الأشياء الجوامد من سكونها إلى حركتها لا يعول عليه ، فالأشياء خارج النص تكون قابعة في حالة قد لا تتعدى تشكيل جغرافية المكان ومدار اهتمام من يراها ، لكنها في سياق النص تتحول إلى كتلة من الدلالات المختلفة ذات الطبيعة الجمالية وعندها لا نكون منشغلين بأشياء النص قدر انشغالنا بنص الأشياء عبر وظائفها المختلفة ، وقد أجادت صفاء عبد المنعم العزف على البيانو مرتين : مرة يقوم بها السارد خارج النص باختيار العنصر المسرود ، ومرة داخل النص بإجادة تحريكه ووضعه في نسق سردي له طبيعته الثقافية التي تحول البيانو من كونه عنصرا مقصودا لغيره ( لإنتاج الموسيقى ) إلى عنصر مقصود لذاته لكونه دالا على كثيرا من المعاني المطروحة عبر النص ، محققة أقصى نتائج تشكيل الدلالة النصية ، فالبيانو بهذه الوضعية أصبح عنصرا لغويا وعلامة سردية داخلة في نسيج النص اللغوي تمهيدا لدخوله في النسيج الدلالي .
يضاف إلى ذلك أن البيانو في النص يتحول إلى مجرد علامة اجتماعية دالة على زمن عابر لرجل يعاني الزمن ، والبيانو يصعد مع الفتاة والرجل نفسه قابع مكانه لا يصعد ولا يتحرك ، فهو رجل ثابت دلاليا في مقابل حركة العالم ممثلا في الفتاة والبيانو الذي يصعد ليقبع في المخزن مقيما توازنا مع استكانة العجوز (يقبع الرجل في الأسفل والبيانو في الأعلى ) ، البيانو أمانة تحملها الفتاة كقدرها السيزيفي (البيانو هنا صخرة سيزيف التي يكون عليها أن تحملها صعودا لإقامة توازن من نوع آخر توازن أسطوري في مقابل أسطورة الرجل التي أقامها حول واحد من أحداث حياته : " خالقا أسطورة حول عزله من الخدمة بعد مدة دامت سنوات وسنوات" أسطورة الرجل مزيفة لا يؤمن بها غيره ، إنها كذبة أطلقها وعاش فيها ، في مقابل أسطورة الفتاة ( الحقيقية ) ، هو يمارس أسطورته قولا وهي تمارسها فعلا ، هو يمارسها على نفسه فقط وهي تمارسها على العالم في صعودها السلم الذي يأتي بمثابة العلامة الدالة على مستويين :
مستوى صعود الفتاة صانعة فارقا بينها وبين الرجل .
مستوى تأخر الرجل وعجزه عن الصعود في الوقت الذي تصعد فيه أشياؤه مما يجعله – في حال – عزلته فردا في عالم مفرغ من أدوات صناعة الجمال ، وإنتاج البهجة .
إن الرجل في إصراره على وضع البيانو في الأعلى – بعيدا عنه – لا يرغب في حمايته بوصفه من ممتلكاته وإنما لأنه يريد تفريغ عالمه من كل صوت غير صوته (طوال القصة لاصوت غير صوت الرجل والفتاة نفسها لا صوت لها بالمرة على مدار القصة ولو حتى زفرة ألم تعبر عما تعانيه )
رمزيا يتحرك الدال من البيانو إلى البيت إلى الرجل ، الأول ينتمي لعالم الرجل المزيف ، والثاني يرمز للعالم الذي تحرك فيه الرجل حركة قوامها الزيف حين " دجن البيت وجمع أثاثه لمدة دامت سنوات وسنوات " معتمدا تقنية النمل حين يجمع غذاءه ، فقط يجمعه محتفظا به كما هو (خلافا للنحل مثلا ) ثم يأتي العجوز معلنا في رمزية دالة على خلل العالم الذي يخلو من عنصر الشباب / الذكورة ، فالعالم يغلب عليه طابع التأنيث / الأنوثة ، فإذا كانت مفردات العالم المطروحة نصيا أربعة : البيانو – البايب- العجوز – البنت ، فالأول والثاني ينتميان لعالم الجماد والثالث والرابع يمنتميان لعالم البشر غير أن العجوز خارج نطاق الخدمة وليس منظورا منه المشاركة في الإنتاج فهو علامة على ماض لن يتطور بأي حال من الأحوال إذ يعيش في أسطورته الزائفة ، تبقى البنت بمفردها تتحمل عبء صناعة المستقبل المنظور مما يعني خلل العالم حين يقوم على عنصر واحد ، وهو ما يفتح بابا للجدال حول فاعلية النص في تشكيل وعي متلقيه منبها ومحذرا باثا إشارات الخطر التي تحل محل صوت البيانو ، فالمتلقي الذي اعتقد في البداية أو أهل نفسه لسماع صوت البيانو حين يصل للنهاية عليه أن يكون مؤهلا أيضا لسماع ماهو مغاير أو خلاف ما توقع .
إنه نص يليق بكاتبة من الوزن المناسب لموهبة مخلصة لفنها ، مخلصة لما أدركته من خبرات الكتابة ، فالبيانو في النهاية ليس هو بيانو النص ، فقد تأكد للمتلقي في النهاية أن البيانو هو النص الذي عزفته الكاتبة ، فقط عليك أن تقرأ العنوان البيانو وتتخلى عن فكرة أن العنوان فقط مجرد علامة لغوية تشير إلى البيانو الذي يتحرك في المجال الحيوي للنص ، هنا لابد أن أؤكد عليك حقيقة سردية : البيانو النصي مجرد رمز لاحقيقة له إلا في خيالي وخيالك ونحن نقرأ النص ، لكن النص من حيث هو بيانو ليس رمزا بل هو حقيقة واقعة ماثلة أمامك بدليل أن الكاتبة وهي تعزف لا تقبل منك دور المستمع وإنما دور العازف المشارك تعزف هي نغمتها وتنتظرك حتى تستوعب نغمتها وتعزف نغمتك الخاصة، شريطة أن تكون مدركا لقواعد العزف كما خبرتها الكاتبة .


[1] - نشرت القصة في موقع القصة العربية أول مارس 2009.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى