أمل الكردفاني- مشغول جداً..مسرحية من مشهد واحد

المنظر:
غرفة بها سرير على اليمين ومقعد في المنتصف يتجه نحو الجمهور..على يساره طاولة عليها جوال وأوراق وكوب مياه غازية كرتوني فوقه أقلام..

يجلس رجل في أواخر الثلاثين من عمره..متراخي الأطراف..

يرن الهاتف، فيضغط الرجل بتكاسل على زر بالهاتف:
الرجل: ألو..
الصوت: نحن شركة الهاتف الجوال..ويبدو أن شريحتك غير مسجلة يا سيدي..
الرجل: إن السيد مشغول الآن..لديه اجتماع مهم..
الصوت: حسنٌ..سنتصل به لاحقاً..
(يضغط زر الهاتف فينغلق الخط)
الرجل: إنني أجتمع مع نفسي..ليس هناك أهم من أن أجتمع مع نفسي..وأنا اسرق هذه الدقائق لكي أجتمع بها...فأنا مشغول دائماً..
(اتصال آخر)
الرجل: ألو...
صوت٢: مرحباً..أريد وجبتين..الاولى سمك فيليه والأخرى دجاج بروست بالفلف الحارق..
الرجل: آسف..لا نعمل اليوم..نحن مشغولون ..
صوت٢: ولكن كيف هذا..إنني..
الرجل: (يقاطعه) قلت لك مشغولون..(يغلق الخط)..دجاج بروست..سمك فيليه..ماذا يعني هذا..إنه يعني أن هناك كائنات حية تأكل كائنات حية..يمكنني فتح مطعم...هذا مفزع..على أية حال إنني مشغول جداً مع قضية الشريحة غير المسجلة...
(يرن الهاتف..فيضغط على الزر)
صوت٣: (أنثوي) حبيبي..اشتقت لك..
الرجل: أنا كذلك ولكنني مشغول الآن..سأتصل بك لاحقاً يا حبيبتي..(يغلق الخط)..(يتحدث لنفسه) من ذا يهتم بالحب عندما تفكر في المال..مطعم يبيع للكائنات الحية كائنات حية أخرى ليأكلوها..جيد..إنه نوع من أنواع الحب القاتل..تماما كحبها لي.. تريد أن تأكلني..
(اتصال)
الرجل: ألو..
صوت٤: مساء الخير..سيتم قطع الكهرباء لعدم دفع الفاتورة يا سيدي..
الرجل: السيد مشغول الآن..
صوت٤: سنضطر لقطع الكهرباء..
الرجل: (الرجل يغلق الخط)..آه...تماماً كالحب...هو عقد إذعان...من قال أنني يجب أن أخضع لعقد إذعان لمجرد أن الحكومة الفاسدة تمنح عقوداً احتكارية لشركات خاصة كي تربح هي وأتعرض أنا للإذلال والمهانة..لست تافهاً لهذه الدرجة..نعم سأضطر للدفع في النهاية بعد الانتهاء من مسألة الحب هذه...
(صوت طرقات على الباب)
(ينصت الرجل بغير اكتراث)
(يستمر صوت الطرقات ويتصاعد)..
الرجل: من؟
صوت٥: أنا جارتك في الشقة المقابلة لك..
الرجل: مشغول..مشغول الآن..
صوت٥: قلقت عليك لأنني لم أشاهدك منذ ثلاثة أيام..
الرجل: قلت لك مشغول..لدي حسابات أقوم بها.. إلى اللقاء..(يهمس لنفسه) تحاول أن تظهر اهتماماً زائفاً ..ماذا لو طلبت منها دفع فاتورة الكهرباء..هل يا ترى ستثبت أنها مهتمة بجارها أم تؤكد أنها متطفلة وتبحث عن الخبر والاشاعات..ولكن..ما شأني بذلك..فأنا مشغول بمسألة فاتورة الكهرباء هذي..
(طرقات على الباب)
الرجل: من؟
صوت٦: نحن عمال الكهرباء..
الرجل: أنا مشغول الآن..
صوت٦: ولكننا سنقطع الكهرباء..
الرجل: قلت مشغول...مشغول..
صوت٦: حسن..ولكن تكاليف إعادة الكهرباء ستكون أكبر مما لو دفعت الفاتورة الآن..
الرجل: قلت مشغول...إذهب..(يحدث نفسه) تهتم بجيرانها..حسنٌ..الحرباء المتلونة...العقربة محبة الدسائس والمؤامرات..(يظلم المسرح، مع ضوء باهت جداً يظهر هيكل الرجل فقط)..لقد قطعوا الكهرباء..لكنني مشغول ولن استطيع توفير زمن للذهاب ودفع الفاتورة..والآن أنا مشغول مع هذا الظلام..لقد ظل يلهمني دائماً..منذ الطفولة وأنا مشغول..مشغول بالظلام....ففي الظلام قضايا متناقضة جداً...الخوف من الأشباح...وأمان الحب عند العشاق...(يقهقه)..الوحدة والوحشة (يقهقه) الحزن والله...يا إلهي..كم هذا الظلام مغرٍ بالتأمل..ولكنني مشغول الآن..فعندي اجتماعات كثيرة أكثر أهمية من تأملي للظلام..دعني أرتب الأولويات..ها..حسن...اجتماع مع نفسي...هذا اجتماع لم يأخذ وقتاً طويلاً للأسف، أذ أنني انشغلت باجتماعي مع شركة الكهرباء واجتماعي مع المرأة التي تحبني ثم اجتماعي مع شركة الكهرباء لهيكلة ديوني ثم اجتماعي مع جارتي طويلة الأنف ثم اجتماعي النهائي مع شركة الكهرباء والذي انتهى بغير اتفاق وتم قطع الكهرباء..بعد كل تلك الاجتماعات..لدي اجتماعات أخرى..مع بائع اللحوم والخضروات.. والسوبر ماركت..واجتماع مع بائع السجائر..واجتماع مع جهاز الصراف الآلي.. إنني أمقت الاجتماع مع الكائنات غير الحية..فهي لا تفهم بسرعة..مصممة لتكون غبية وتظل غبية...تنفذ فقط سلسلة من الأوامر بلا تفكير ولا تحليل..كم هذا ممل..خاصة وأنا مشغول جداً..لا أجد وقتاً لحلاقة ذقني..عمل إضافي آخر...انشغال آخر..لم آكل منذ ثلاثة أيام بسبب أنني مشغول..لم استطع حتى الذهاب للحمام لأتغوط واستحم...ياااه..مشاغل أخرى تقع على عاتقي...ألا يمكن تأجيل كل ذلك والتفرغ لعيش الحياة والتمتع بها..آه..كم نسيت..كان من المفترض أن أذهب وأجدد بطاقتي الوطنية.. وإلا فلن احصل على مزاياي كمواطن..ولكن ما هي تلك المزايا؟ لا أعرف حقاً.. لا.. أنا مشغول أكثر من اللازم..مشغول أكثر مما يجب.. وهذا غير إنساني..إن كرامتي تمتهن...كرامتي تُداس على الأرض..وللأسف أظل مشغولاً طوال حياتي...أنا في أواخر الثلاثين..ولم أتفرغ يوماً واحداً لممارسة اللعب والترفيه...مشغول مشغول مشغول..حتى في اليوم الذي كان من المفترض أن أكون فيه مشغولاً بعقد قراني..لم أتمكن من الذهاب بسبب انشغالي بأشياء أخرى ولم أتزوج...مشغول مشغول مشغول..لا لا لا..يجب أن أتوقف فوراً عن لعب دور الضحية..يجب أن أعترف بتقصيري..وبأن إرادتي كانت حرة حينما بعت نفسي للشيطان..شيطان الانشغال المستمر...
(اتصال)
الرجل: ألو..
صوت٧: لماذا ترد عليَّ بهذا البرود..ألا تعرف رقمي؟
الرجل: أنا مشغول ياعمي عندي اجتماعات مكثفة..معذرة إلى اللقاء...(يغلق الخط)..ألا يرى أنني مشغول..هذه الاجتماعات التي لا تتوقف...إنهم أشخاص غير منتجين ولذلك لا يفهمون معنى أن تكون مشغولاً باستمرار...
(اتصال)
الرجل: ألو..
صوت٨: عذرا سيدي...أنا مدير شركة الكهرباء اخبروني أنهم قطعوا عليك اجتماعاتك والكهرباء كذلك..و..و وأريد الاعتذار لك..مؤكد أن مسؤولياتك عظيمة..
الرجل: (بتواضع) لا بأس لا بأس.. لا زلت حتى الآن في اجتماعات متواصلة..أنت تعرف الوضع والتحديات التي نمر بها..
صوت٨: بلا شك سعادة الوزير بلا شك..
الرجل: اسمح لي إذن..(يغلق الخط)..سعادة الوزير؟!!! يحسبني وزيراً..ومتى كان هناك وزير مشغول كانشغالي هذا؟ هناك وزراء لا يعرفون طريق الوزارة لأنهم لا يعملون شيئاً..لا أعرف ماذا يفعل وزير البيئة مثلا؟ عن أي بيئة يتحدثون..هذه القاذورات ؟ أم وزير السياحة؟ أي سياحة؟ إن الأجانب الذين يزورون هذه البلد هم العاملون بالمنظمات الإنسانية والصحفيون الذين يأتون خصيصاً لالتقاط صور الفقراء وأضلعهم تخرج من صدورهم لكي يدبجوا بها مجلاتهم المعطرة...وزير؟ يا لهذا المدير الأحمق؟ لكن كيف يعرف .. وهو أساساً لو جرب حياتي الغارقة في الاجتماعات والمشغوليات لما امتلك الوقت الكافي للإتصال بي؟ اللعنة..اللعنة..
(يعود الضوء)
الرجل: أعادوا الكهرباء..وقطعوا اجتماعي مع الظلام...
(اتصال)
الرجل: ألو...
صوت٢: آسف سيدي لأنني لم أطلب طلبية الدجاج البروست والسمك الفيليه بشكل مهذب لم أقدر محلكم الفخم التقدير المناسب..إنني أشعر بحقارتي فعلاً..
الرجل: يا سيد..قلت لك نحن مشغولون...(يغلق الخط)... لماذا شعر باحتقار نفسه...لو كنت أخبرته بأن الرقم غير صحيح لما كبدته كل ذلك الشعور بالشقاء...(اتصال)...ألو
صوت٣: حبيبي...أنا نادمة ..نادمة لأنني لا أعرف التوقيت المناسب للاتصال بك..
الرجل: لا بأس ولكنني لا زلت مشغولاً..
صوت٣: أريد ان اقول لك فقط..أنت رجل غير عادي..لم أدرك ذلك إلا الآن..الرجل: (يغلق الخط) ..لماذا لم تدرك ذلك إلا الآن؟!!!..شيء غريب...ولكنها أساساً كالجميع..لا تفهم قيمة الانشغال...وحلحلة المشاكل بالاجتماعات المتواصلة...التفاوض ولا شيء غير التفاوض (صوت طرقات على الباب..يتجاهلها قليلاً ) أوووف..من الطارق الآن..
صوت٥: (بارتباك) أسفة يا جاري المحترم...لقد..لقد أعددت لك وجبة فقط..أعرف انك أعزب ومشغول دائماً...ولذلك قررت صناعة وجبة يومية لك..
الرجل: ضعي الأكل قرب الباب..فأنا مشغول ولا وقت لي للدردشة الفارغة..
صوت٥: (بارتباك أكبر) آسفة آسفة...أرجو أن تعذرني..فأنا لم أكن اعرف أنك ضابط كبير في المخابرات...
الرجل: حسنٌ..اذهبي الآن..
صوت٥: وداعاً..
الرجل: ضابط مخابرات...؟!!! ومتى كان ضباط المخابرات مشغولون مثلي؟ متى كانوا يجتمعون لحلحلة مشاكل أمن الدولة...إن كل جواسيس دول العالم أصبحت موزعة في كل شبر من أرض هذا البلد...ضابط مخابرات..هة..اللعنة كم أساءت لي..
(طرقات)
الرجل: من؟
صوت٦: آسفون يا سيدي الوزير..لقد أعدنا الكهربا بتوجيهات مباشرة من السيد المدير..
الرجل: شكراً...غادروا فوراً..مشغول جداً أنا...(تُسمع اصوات أقدام فني الكهرباء وهو يغادر) (يغمض الرجل عينيه)... هذا يكفي...تعبت من الاجتماعات...الجوع...هذا الباعث الذي تتمحور حياة الإنسان حول إشباعه.. ماذا لو لم نكن بحاجة للأكل..كان ليتوفر لنا الكثير من الوقت لننجز كافة اجتماعاتنا...آه..تذكرت.. لقد أحضرت الجارة العقربة طعاماً أثناء انشغالي بأحد الاجتماعات الهامة...سأحضره (ينهض بصعوبة ويخرج من يسار المسرح ثم يعود حاملا الطعام..يبدأ في الأكل ببطء..يأتي صوت طرقات..يصيح) ليس الآن..أنا مشغول..تعال في وقت لاحق...(تتوقف الطرقات) سيكون هذا إجتماعي الأخير هذا اليوم...فالاجتماع مع الطعام أفضل خاتمة يختم بها المرء يومه المزدحم جداً...

(ستار)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى