حيدر الحيدر - جولة تصيبها الخيبة.. قصة قصيرة

ها هو خريف تشريني آخر يحاول الافلات من دائرة الزمن ، بعد مرور بضع سنوات لعودتي من الأسر، وفي ظل حصار اقتصادي مقيت يحرق بسعيره الأخضر واليابس ، تماماً مثل ثمان سنوات لحرب مضت ، وسنوات حرب قائمة لم تنتهي بعد ، وليس من أملٍ لنهاية لها .
التفتُ حولي يمينا وشمالا ، وانا احبس دموعي كي لا يراني شامت سمحت له نفسه بالشماتة
. وا حسرتي على ما انا فيه اليوم ،
لم تعد الكثير من ادوات البيت ولوازم المطبخ والحاجيات والمقتنيات السابقة تحتل مكانها ، في زوايا واركان منزلي كما كانت في السابق ...
اذ ان معظمها هرولت الى الاسواق مجدداً بغية الحصول على ثمنٍ لها،
بعد ان شح ما نملك من مال لغرض تمشية امور العيش ، وقد سدَّت أثمان بيعها بالرخيص ،
بعض احتياجاتنا الضرورية في بيتنا الشاحب المسكين . ولو لفترة ٍما ..
حاولت ان اجد عملاً ولو بأجرٍ ضئيل .دون جدوى .
صوبتُ نظري باتجاه مكتبتي المنزلية , والتي لم تزل تحتل مكانها امام جدار حائط متهالك ،
وتناولت اصابعي المرتعشة رزمة من عناوينها ، وحملتها منكسراً نحو باعة الكتب في سوق السراي ، لعلي اجد مبتغاي في بيع بعضها .
مررت على اكثر من بائع دون جدوى ، مشيت صوب مكتبة صاحبنا القديم الكتبي الفكه
( المرحوم حسين الفلفلي ) اخبرني احد اولاده : ان سوق الكتاب راكد هذه الايام فلا تتعب نفسك في الدوران ،انها لا تأتيك بثمن ترتضيه .فرضيت بنصحه دون شك وجدل ،
شعرت ان مصاريني الخاوية من الطعام بدأت تتلوى ، حين شممت رائحة ( كبة السراي ) عن بُعد ليس بقريب، عند رأس السوق من جهة المتنبي .
لا باس ليس من حقك ان تشتهي ايها المفلس الحزين !
رجعت بي اقدامي من حيث عنق جسر الشهداء ،
و يا لهول ذلك المشهد الرهيب الذي كان بانتظاري :
طفلة بعمر الورد وهي حافية بثيابٍ مقطّعة رثة ، تبكي وتتوسل بحسرةٍ ومرارة ،
ــ لا تتركيني .. ماما لا تتركيني . واصابعها تشير الى سوق السراي .
لعل امها كتاب مثقل بالأحزان والآلام !
ها هي تُخرج رأسها من بين دكاكين السوق مغبرة الوجه بعباءةٍ بالية ونعلين مترهلين ،
ــ ما ما ... تهرول نحوها ،وتتشبث بثوبها العتيق، فتبعدها وتبتعد عنها !
ــ أهذه ابنتك ؟ ... سألها بعض المتجمهرين عند كل حادث .
ــ لا اريدها .. لا اريدها !
وتصرخ بصوت شاحب حزين ،والله يا ناس ... والله يا عالم .. والله يا سامعين الصوت ،
ليس عندي ما اعيلها ، لعلها تعثر على من يرعاها ،
وتركض دون وعي لعبور الجسر ، والطفلة تصرخ ماما ماما ..
تلتفت الام وتعود بها الى أحضانها ببكاء مرّ وعويل ، وهي تترقب العيون هل من معين ؟
مددت يدي الى جيب بنطلوني ، لم املك الا 25 فلساً أجرة عودتي الي البيت
اهل الرحم كثيرون ... ولكن اين هم ؟
سحبت نفسي من بين جمهرة المتفرجين ، عبرت نفق الجسر باتجاه محلات بيع الاحذية وصولاً الى تمثال الرصافي . كانت سترته النحاسية من غير ازرار ، وهو ينشد :
( لقيتها ليتني ما كنت القاها .. تمشي وقد اثقل الاملاق ممشاها .......)
تلك كانت مشاهدة صادقة لم اجانب الحقيقة في وصفها .







حداد.jpg
أعلى