إبراهيم محمود - الكتاب المهدور من الكاتب المقهور

لطالما فكرتُ في الكتاب الذي يرتقي إلى مقام " الهدية " وهو يحمل توقيعاً من كاتبه، وفيه اسمه، وبضع كلمات، تطول أو تقصر، لشخص، يحمل اسمه هو الآخر، تتقدمه بضع كلمات تعلي شأنه، حيث يستباح سريعاً. لنكون إزاء علاقة مركَّبة سيئة إلى أبعد حد، لا تعود فيها الهدية هدية، ولا الكاتب كاتباً فعلياً، ولا المهدى إليه جديراً بحمل هذه التسمية.

تكمن مأساة قائمة للكتاب هنا، في مجتمع معرَّى من الداخل، نظراً لوجود تزييف في المسألة:

الكاتب مزيفاً، لأنه لا يدرك حقيقة تصرفه واقعاً، وهو يقدّم كتابه المطبوع حديثاً، تحت اسم " الهدية " وكله نشوة، لأنه سيقول سريعاً، لقد نفد كتابي، وما يترتب عليه من اعتداد بالنفس، ولكنها نفس مقهورة دالة على استلاب الذات بالذات، إلا إذا كان هو نفسه دخيلاً على الكتابة، معتمداً على سرقات أو حالات " لطش " ليحسَب في عداد الكتاب، دون تخيل ما يمكن أن يحصل له، وربما كان تخيل ما يحصل له، منشوداً، كي يتم تداول اسمه، ولو فضائحياً، فالمهم هو أنه قد بات يحمل اسماً، أو من خلاله يمكنه الدخول في المواجهة، لنكون إزاء مجموعة تستفحل مع الزمن، طالما أن هناك " عملة " تشق الطريق أمام هؤلاء، حتى على صعيد الدعاية، والعامل في الدعاية بالمقابل، وحتى الناشر كذلك ...الخ.

" المهدى إليه " مزيفاً، لأنه لا يمتلك أي اعتبار فعلي للكتاب، والذي يتم بدافع من الكاتب، وربما يكون هو الطالب، لتجد كتابه المهدى إليه، مطروحاً في مكان آخر: للبيع، ووقاحة هذا التصرف، أو حتى في مكب " زبالة " أو زاوية مظلمة، أو قبو رطب، يقرضه النسيان الغادر.

الكتاب مزيفاً، لأنه منزوع من أي اعتبار، أي الحق في أن يأخذ موقعه في المكان الذي يُسمّيه، حيث يُرى، ويقدَّر في التعامل معه.

الكتاب هنا يحمل صفة " المهدور " وشاهد عيان على كاتب، غير معني بأمره، بما أنه هو نفسه طارح نفسه خارج سياقها القيمي، أو الجدير بتسميته كاتباً.

نحن إزاء مجتمع هو الآخر لا يخلو من علامات تزييف، وانقلاب على صفته، علامته الفارقة بالذات: المجتمع. إنه ليس مجتمعاً، بما أن صفة الاجتماع، تعني التقارب، والتشابك الودي، والتنفس في جسد واحد تعاونيّ بأعضائه، في مواجهة هذا المرئي والصادم، إنما هو التنافر لا التضافر، التفكك، وليس التآلف من الداخل.

ذلك يترجم مدى سوء التصرف في العلاقات بصدد الكتاب، ومدى الاستخفاف بالأسماء والألقاب. إذ لو أن أحدهم، في المضمار المذكور، فكَّر في الزمن الطويل الذي استغرقه مسعى البشرية، ليتحقق شرط الاجتماع، من خلال الكتابة، ومن ثم، لولادة الكتاب الذي مثّل ثورة في حينه، حيث أصبح في مقدور المعنيين به، أن يشكلوا جماعة مثالية في مدينة " فاضلة " ويستهفون الفاضل في علاقاتهم، فلا يعود للخوف من مكان، جهة النسيان المتخوَّف منه، أو غير المفكَّر فيه، فالكتاب يتولى المهمة الكبرى و" المقدسة " هذه، عدا عن كونه، أعظم وأفخم تعبير عن وشائج قربى من نوع خاص جداً بين " أهل " الكتاب.

بالعكس، نجد أن الكتاب هذا، بدلاً من تعميق العلاقات بين معلوم باسمه: بدءاً من الكاتب نفسه، إلى مجهول باسمه، وقد أصبح عو الآخر معلوماً، من خلال ثبْت اسمه وتاريخ الإهداء، والكتاب الذي يدخل مجالاً دلالياً..بدلاً من كل ذلك، إذا به شاهد مذبحة يومية، أو على مدار الساعة، في تأكيد خاصية المدينة " الفاسدة المفسِدة " بعلاقات كهذه.

كل طرف، يمارس دوراً فضائحياً، سرعان ما ينكشف أمره، إجمالاً، من خلال مكان معين، وفي زمان معين:

بالنسبة للكاتب الذي يحمّل محفظته، جعيته، نسخاً من كتبه، متنقلاً من شخص إلى آخر، وحتى مع أشخاص لا أبغض إليهم من الكتاب، وربما يحملون كرهاً للكاتب نفسه، دون إظهاره، فيدفع نسخة موقَّع عليها مسبقاً، مع اسمه، ولا يستغرق الموضوع ثوان، حين يسأل عن الاسم " من يهدى إليه "، وربما بنوع من الفرض" خذ اقرأ ، هذا هو كتابي الجديد "، وقد لا ينتظر منه تعليقاً، أو جواباً على سؤاله عن الكتاب، لأن مخطط الكاتب هذا، وما أكثر أنواع هذا الكاتب، هو في كيفية الانتهاء من كمية نسخ كتابه الجديد، واستبقاء عدد محدود جداً، للاستخدام عند اللزوم. وقد تجد من يتخلص نسخته عينها، ليعلن بنشوة مضاعفة هذه المرة: حتى نسختي الوحيدة " راحت ". كما لو أنه " هذا الجلاد الذاتي الفظيع " والدخيل على مجتمع " الكتاب " هو ذاته مشارك في عملية التآمر بينه وبين نفسه، على الكتاب، وإشهار الكراهية له، وهو في عماه القيمي، إذ يزعم أنه حرّم حتى من نسخته الوحيدة، التي كان عليها أن تزين مكتبته، أو واجهة معينة في بيته، لإعلام من يريد منه أن يعلم، ما آل إليه أمره، وصفة مظلوميته، إذ لوحق حتى في نسخته جرّاء إلحاح معين، فيكون له ، ربما ، سبق في هذا الجانب، ليتسنى له التفاخر الصريح الفصيح ووسط محترفي الكتابة، ما جرى معه، فكان ما كان.

من المؤكد أن لا شيء أذل أو أكثر من مهانة، حين يجد الكاتب نفسه كتابه الذي يسميه بخط يده، أو ربما يحمل ختمه الخاص، ومعلومات ذاتية، واسماً آخر، هو طرف في عملية التآمر تحديداً، في مكان يعزّز صفة الهدر فيه. أو قد تجد مجموعة من الكتاب، بعناوين مختلفة، في مجالات مختلفة، يسند بعضها بعضاً، لنكون إزاء " فصيل الإعدام " للبيع، أو للتشهير بكتابها، لحظة تناول أي منها، ورؤية " العورة " المعروضة، وما في ذلك من " شنآن " قوم ، وهنا يشار إلى البائع نفسه أحياناً، وهو لا يتردد في الدعاية لما يقوم به، على أنه يمتلك مجموعة ضخمة من كتب الإهداء، ليس لعمل دعاية لكتابها، وإنما ليبيعها، إنما في الصميم، وهو في قرارة نفسه، يدرك مدى الرخص الذي يساق باسمه الكاتب.

وهنا، لا ينبغي نسيان، أن كاتباً، وتحت طأة دافع معين، هو الالتزام بحقيقة الكتاب، ووجوب إيصاله إلى من يقرأه، فيحدد أسماء معينة، يرسل إليها نسخاً من كتبه تحت اسم " الإهداء "، ولكنه قد ينبري معبّراً عن منافحة كبرياء، على أنه يعيش ضغطاً نفسياً، وإحراجاً ممن يلوحون عليه، وبغياب من يمكنهم أن يقولون له : كذاب، كذاب، كذاب، أنت من فعل ذلك !

ولا شك أن وضعاً كهذا جدير بالدراسة على أصعدة مختلفة، يتم تناول كل طرف، وكل طرف، هو الآخر، مجموعة من الأسماء والمسميات، حيث ليس كل الكتاب الذين يدخلون في تنافس غير مسمى، أي غير معلن في الزمان والمكان نفسهما، يحملون الصفة الكتابية، والموضوع الكتابي عينه، إنما يتفاوتون. وربما كان لنوعية من هؤلاء موضوعات شيقة، ضمن كتب جديرة بالنظر فيها، لما فيها من جدة وحتى ابتكار هنا وهناك، سوى أن طريقة التعامل تفقد الكتاب قيمته.

نجد هنا، أن كل طرف يرصد الآخر: متى يظهر للكاتب كتاب جديد، ليبدأ بتوزيع نسخه، وهو يظهر في أمكنة مختلفة، وعند أشخاص ذوي مواقع مختلفة، وحتى في الشارع، أو في الحديقة، أو الساحة، أو في مناسبة معينة، يتملكه شبق التوزيع، وبعد أيام يختفي، ليعاود الظهور، مجدداً، وهو يفسّر ذلك أنه يقوم بعمل شاق، ولهذا يختفي عن الأنظار.

كلٌّ يسيء الظن بالآخر، تجاه صلة وصل، هي شارة فصل، على أرضية التعامل عبر وسيط يضحى به بمزيد من الاستهتار والضعة بالمقابل.

لقد شاهدت أمثلة كثيرة من هذا النوع، وفي أمكنة مختلفة، لا بل لدى أشخاص هم كتاب لهم بصمتهم الكتابية، لكنهم في هذا الجانب، ينحدرون إلى الدرك الأسفل من الاعتبار الذوقي للكتاب، والقحة في الرد السريع، ووضع الكتاب في المكان الذي يسمي هذا الاستخفاف، والإساءة إلى كاتبه: وعاء ضخم، أو سلة مهملات ضخمة، أو زاوية تتراكم فيها الكتب، كما لو أننا إزاء رؤوس مقطوعة، لتشهد على طريقة تعامل الشخص الفاعل والمفعول " فيه" بالمقابل.

هذه الطريقة التشهيرية في الانتقام الذاتي، تحمل علامة مريعة من التعبير عن مجتمع لم يدشَّن بعد، ليكتشف حقيقة أمره، أي ليستحق شرف تسميته مجتمعاً، ويقول التاريخ فيه كلمته، والمدنية تقول كلمتها هنا ، كما ينبغي لها أن تكون.

ومن المؤكد أن هناك من يشدد في التعامل مع خاصية " الهدية " ومع الآخرين وهم كتاب معروفون، فيحرص في ألا يهدي كتابه، ولا بأي شكل، لعله على علم بالمجازر اليومية التي تتم في هذا الحقل " الكتابي "، سوى أنه قد لا يجد مفراً من أن يهدي نسخاً من كتاب له، إلى من يشددون على فعل " الإهداء " وكأنهم يوقعون به، وهذه المرة، ليس لعرضه في مكان معين، أو إتلافه بطريقة معينة، وإنما للتشهير فيه، أمام آخرين، حين يلتقون معاً، في بيته، أو خارجه، ولسان حاله يقول: هذا هو كتاب " فلان". ويشير إلى اسمه وكتوقيعه في الداخل، وتاريخ " الإهداء"، وغير ذلك من الأدلة الدامغة على أنه أهدي إليه دون رغبته، وهو لا يستطيع قراءته، جرّاء هذا التصرف. طبعاً لا يتطرق إلى الأسلوب الذي اتبعه لينزع نسخة " إهداء" ليريها حتى لمن ليس لهم صلة بالكتاب، إنما كي يبرز " مقامه"..

وإذا تحدثت عن نفسي في هذا المضمار، أقول: لعلي من بين أكثر المتشددين في هذا الجانب، سوى أن إلحاحاً من أحدهم، لكي أقدّم نسخة من كتاب لي، تحت مسمى " الإهداء "، حيث لا يكتفي بأخذه فقط، إنما يمارس إلحاحاً ربما أكبر بكثير من الإلحاح الأول، بوجوب كتابة الاسم والتوقيع والتاريخ، لتكون كل المستمسكات التي " تدين " الكاتب قطعية، لا تُرَد، ولا يُطعَن فيها هذه المرة، فيُسقَط في يدي.

احذروا الإهداءات أيها الكتاب الكتاب، إذا كنتم تحرصون على صفتكم " كتاباً، أو شددوا في عدم الإهداء، وإن كان لا بد مما ليس منه بد، فحاولوا جاهدين على أن تقدموا نسخاً من أي كتاب لكم، بعيداً عن أي إشارة، لتسْلموا من الألسنة المسمومة هذه، وتحرروا أنفسكم من علاقة أو تبعية علاقة تعرّيكم من الداخل سريعاً، وتنزع عنكم صفة " الكتاب المحترمين".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى