مولود بن زادي - هل أحب جبران خليل جبران مي زيادة مثلما اعتقد الشرق؟!

أدب الرسائل جنس أدبي نثري قائم بين الأجناس الأدبية، له جمالياته وتقنياته الفنية. ومنه أدب الحب الحافل بخطابات تفيض بعبارات الحب، ولوعات الشوق، وحرقات الألم، وذكريات الماضي، وما يراود النفس من رغبات وتطلعات وأحلام، فضلاً عن تبادل الأفكار وتقاسم التجارب والنصح والإرشاد والنقد، تبادلتها أسماء أدبية مرموقة عبر التاريخ في شتى أرجاء الدنيا، مسجلة ومضات نادرة ولحظات ممتعة في حياتها.

من الأقلام الشهيرة التي كانت لها صفحات مضيئة في سجل هذا الأدب جبران خليل جبران ومي زيادة اللذان عاشا علاقة طويلة دونما لقاء، عُرِفت باسم «الحب العذري» أو «الحب الصوفي». وما زالت هذه العلاقة تثير الأنظار والتساؤلات وتبقى موضوع بحث.

الشعلة الزرقاء تلهب المشاعر

ليس من شك في أنّ الرسائل التي بعث بها جبران من المهجر إلى سيدة الأدب في المشرق العربي مي زيادة، من أجمل ما خطته أنامل الأدباء في سجل أدب الرسائل. كان جبران آنذاك يحيا في الولايات المتحدة، ومي زيادة في مصر. وكان يفصل بينهما السهول والجبال والصحارى والبحار، وما لا يقل عن 7 آلاف ميل. فاختصرت الرسائل المسافات بينهما، وألَّفت بين قلبيهما. وقد بلغ ما تم جمعه في كتاب «الشعلة الزرقاء» 37 رسالة، ارتقت من الإعجاب والتحفظ في البداية إلى التحرر والتودد في ما بعد. وقد بالغ الشرق في نظرته إلى طبيعة هذه العلاقة إلى حد نعتها بـ«الحب العذري» و«الحب الصوفي السامي» و«الحب السماوي».

لكن هذا الحكم يبدو خاضعاً لنظرة عاطفية من زاوية واحدة، اعتمادا على جملة من الرسائل بعث بها الشاعر المهجري إلى مواطنته. بيد أننا إذا ما تحررنا قليلاً من أغلال العاطفة وحاولنا مشاهدة هذه العلاقة من زوايا متفرقة وقرأنا بين الأسطر وتبصرنا سيرة جبران ونظام حياته وعلاقاته في البيئة الجديدة، تبينا أن هذه العلاقة ـ التي نقرأ فيها الإعجاب والتودد والانجذاب ـ في الواقع لا تتجاوز حدود الصداقة الحميمة.

جبران شغوف بأدب الرسائل

أول ما يلفت انتباهنا ونحن نحاول أن نفهم علاقة جبران بمي زيادة هو ولع جبران بكتابة الرسائل. فما بعث به إلى مي جزء من سلسلة رسائل تفنن في كتابتها ولم يخص بها أحداً. فإن كان «كتاب الشعلة الزرقاء» يحصي 37 رسالة إلى مي زيادة، فإن كتاب «الحبيب» 2004 يحصي 325 رسالة منه إلى ماري هاسكل وحدها بين 1908 و1931 فضلا عن رسائل أخرى إلى ميخائيل نعيمة.

مي زيادة لم تكن المرأة المفضَّلة

من الخطأ الاعتقاد أنَّ مي زيادة نزلت أعلى منزلة في نفس جبران. فالمرأة التي شغلت قلبه وفكره كانت ماري هاسكل، وهذا ما اعترف به جبران في رسالة بعث بها إليها سنة 1926 قال لها فيها: «أنت أعزُّ شخص على قلبي في هذا العالم»! ولهذه المكانة أكثر من مبرر في الواقع. فهذه المرأة كانت قريبة منه تحيا بجواره عكس مي زيادة البعيدة عنه. وماري هاسكل عاشرته لمدة أطول من مي زيادة، إذ أنها عرفته سنة 1904 وكان آنذاك في الحادية والعشرين من عمره وبقيت بجواره حتى وفاته عام 1931 عن عمر يناهز 48 أي (27 سنة) مقارنة بمي زيادة (20 سنة). وبينما لم تعرف مي زيادة جبران إلاَّ من خلال المراسلة، فإنّ ماري هاسكل عرفته في الواقع، فكانت له معينا ماليا، ومستشارا ماليا حينما أراد شراء أسهم في شركات مالية، وسندا معنويا في مسيرته الفنية، فاعترف بفضلها: «لقد أصبحت فناناً بفضل ماري هاسكل».

جبران لم يعترف بحبه لمي زيادة

ولا نلتمس أي اعتراف مباشر بحبه لمي زيادة طيلة هذه السنوات، ما يشكك في مصداقية هذا الحب. وأي حب هذا الذي يدوم عشرين سنة بدون أن يعبّر فيه الحبيب عن عميق الحب ومرارة البعاد! وها هو جبران من جهة أخرى وعكس ذلك تماما، وبعيدا عن أي خجل أو زهد، يعترف بحبه السرمدي للمرأة التي أحبها حقا، ماري هاسكل: «سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقي كبشريَيْن من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان ذلك هو القَدَر. أنتِ وأنا قريبان؛ ففي الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا دائمًا».

جبران لم يسع للقاء مي زيادة

ورغم توفر وسائل النقل الحديثة وكثرة أسفار جبران إلا أننا لا نلتمس أي محاولة لزيارة مي زيادة في المشرق أو حتى مجرد دعوتها إلى لقائه في فرنسا التي زارها مثلاً، ما يوحي بعدم رغبته في الارتباط أو اللقاء عدا في عالم ضبابي دونما مسؤولية أو التزام.

جبران ذلك الرجل المولع بالنساء

جبران لم يحب امرأة واحدة، فقد تقاسم حياته عددٌ من النساء من أمثال سلطانة تابت وجوزيفين بيبوديه وميشلين وشارلوت تيلر وماري قهوجي وماري خوري وكورين روزفلت ومسز ماسون وبربارة يونغ. وكثير من المراجع يحصي حوالي 12 امرأة. وليس من شك في أن ماري هاسكل انفردت بين كل النساء لتكون الحبيبة رقم واحد حتى أنه لم يتردد في كشف حبه لها وطلب يدها. والغريب في الأمر أنه كان يحيا تجارب غرامية مع بعض النساء في الوقت الذي كان يبعث فيه بأجمل رسائل «حب» إلى مي زيادة توهم أي قارئ أنه لم يحب سواها!

فترات من سوء التفاهم والقطيعة

ولعلّ ما تغاضى عنه المحللون في تقييم هذه العلاقة هو ما شهدته من سوء فهم وخلاف وقطيعة. فهي لم تدم عشرين سنة بدون انقطاع.

لعلّ نظرية «البعيد عن العين بعيد عن القلب» تنطبق على هذه العلاقة، ليس من حيث البعد الجغرافي المعتبر وحسب، وإنما أيضاً من حيث البعد الثقافي والفكري بين مي التي كانت تحيا في مجتمع شرقي محافظ، مقيدة نساؤه، وجبران في مجتمع غربي متفتّح، متحررة نساؤه. فاختلاف نهج الحياة والثقافة والتفكير جلي لا ينكر، ما خلق حاجزا منيعا يضاف إلى حاجز المسافة.

ليس من شك في أن خطابات جبران خليل جبران ومي زيادة ستبقى من أبرز كلاسيكيّات فنّ المراسلة في الوطن العربي والعالم. لكن، إن كانت لهذه العلاقة قيمة أدبية وفكرية وفنية لا تنكر، فإنها لا ترقى إلى مستوى حبّ صادق حقيقي. ثمة علامات استفهام كبيرة فيما يخص وصفها بـ«الحب الصوفي» أو «العذري». فقد كشفت شهادات أقرب الناس إلى جبران، من أمثال ميخائيل نعيمة، وجها آخر له. قال ميخائيل نعيمة إنه لم يكن «نبيا» لمجرد أنه ألف كتاباً سماه «النبي» وإنه في واقع الأمر كان متورطا في ملذات جسدية وعلاقات عاطفية مع عدد من النساء في أمريكا. حدث ذلك في الوقت الذي كان يبعث فيه بأرق الرسائل إلى المرأة البريئة مي زيادة. فإننا نستخلص من هذه التجربة أن العلاقات العاطفية لا تقاس بالمسافات، ولا بالمدة الزمنية، ولا بحجم الرسائل، ولا بما تحمله من كلام جميل معبر ومؤثر، وإنما بالنوايا الحسنة والأعمال الطيبة والتضحية والاجتهاد للفوز بالحبيب. وجبران لم يجتهد أساساً للقاء مي زيادة إنقاذا لحريته، وحفظا لنهج حياته، وتجنبا لعلاقة مع امرأة شرقية تكلفه تضحيات وتنازلات هو في غنى عنها. لكنه كان في حاجة إلى الاحتفاظ بهذه المراسلة لأنه وجد في مي زيادة ما لم يجده في بقية النساء من حوله وهو رائحة الشرق. فمي زيادة امرأة تجسد هذا الشرق، والمراسلة جسر عابر للقارات يربطه بالأوطان التي رحل عنها وما برح يحن إليها. ووجد فيها المفكرة الملهمة، ووجد في هذه العلاقة مفرّا وسلواناً عن صخب المدينة وأعبائها، فصنع له عالما ضبابيا يلتقيها فيه بعيدا عن الواقع الذي كان يعيش فيه علاقات عاطفية وجنسية مع حسناوات أمريكا، وهو ما لم ينتبه إليه الشرق (الباحثون والجماهير).



مولود بن زادي طيور مهاجرة حرة بريطانيا



1594333765259.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى