محمد صفوت - في مديح السرد :طارق إمام بين المدينة والعجائبي وأسئلة التجريب

ينتمي طارق إمام إلى جيل التسعينيات في مصر،رغم أن مفهوم المجايلة يبدو لي مراوغا ومُلتبسا بعض الشىء خاصة في حالة طارق إمام الذي ظهرتْ أول كتبه«طيور جديدة لم يفسدها الهواء» في عام 1995 وفي سن مبكرة للغاية،على كل حال فقد بدأ تجربته في هذا الوقت الذي استسلم فيه بعض مـجايليه لنمط الكتابة الكلاسيكية السائدة منذ الجيل المؤسس بطغيان أسمائه ومنجزه الروائي الحافل،مرورا بتجارب جيل الستينات التي ظلتْ غالبة ومؤثرة.
كان البعض يجاهد للبحث عن آفاق جديدة للكتابة واقعين تحت سطوة تيار الواقعية السحرية،مـُستلهمين تجارب أدباء أمريكا الاتينية.
هنا يبدأ طارق إمام ليعفر أقدامه في الساحة،واضعا اللبنة الأولى في مشروعه الذي بدا منذ الوهلة الأولى مـُغايرا،فمجموعته الأولى طيور جديدة لم يفسدها الهواء» لم تحظ بحنو النقاد الكلاسكيين،إذ كانتْ تنحو نحو التجريب والمغامرة وكسر السائد والمألوف،رغم ذلك لم يرضخ طارق إمام لسطوة النقد وقبضته المـُعتمة؛ليواصل رحلته باحثا عن مشروع مختلف وكتابة حقيقية،وإبداع مـُغاير.
لكن ما لفتْ انتباهي في مشروعه عدة محاور لا تتغافلها العين، وهي المدينة،والتجريب،والعجائبية,
هذه هي الخلطة السرية" للكتابة،التي يعرف طارق إمام أسرارها وتفاصيلها وطرق طهيها جيدا،وهذه الخلطة ليستْ بمقادير منفصلة ومتضاربة،هي توليفة متناغمة ونسيج واحد،فلا يمكن فصل هذه العجائبية والغرائبية في عوالم طارق إمام عن طموحه ونزعته التجريبية،وعن رؤيته الخاصة للمدينة وللواقع في كل أعماله.
تبدو الغرائبية والعجائبية واضحة في مشروع طارق إمام ،وهي ليست رؤية مجانية مستوردة،تنحي الواقع جانبا،بل هي رؤية تتمثل مفهوما خاصا للفن تنحرف عن رؤية الوجود في مألوفيته أو رصده من سطحه الذي يبدو اعتيادياً، لتختبر الغريب أو العجيب أو المفارق ،هي إذا نظرة خاصة للواقع تـُعيد طرح همومه ومأزقه ،لتكتشف فييما هو مألوف واعتيادي غرائبيته ودهشته،مشفوعا بخيال جامح يتمثل طارق إمام الواقع ليخلق واقعا جديدًا،أو بديلا،عالما من صنعه ، عالم لا تملك الا أن تصدقه رغم لا معقوليته،لأن صانعه لا يفتعل،و يـُجيد أدوات التشكيل والصهر،ويمتلك موهبة أصيلة،يبدو ذلك جليا في نصه الهام والشهير حد الشعبية"هدوء القتلة"
والتي يخلق فيها عوالم تتداخل فيها الأسطورة، والتخييل،والواقعية السحرية.فالبطل سالم في هذه الرواية يحمل تيمتيين تبدوان متناقضتين في الظاهر(القتل والشعر) فهو يقتل بيد،ويكتب باليد الأخري الجمع بين الكتابة والقتل، بين فعل الخلق والإبادة والقتل ، فسالم يمارس القتل ليكتب قصيدة تطرح عالما جديدا،لتصير المدينة أجمل،ليبحث عن واقع يمنحه الألفة ويخلصه من مأزقه ووحدته واغترابه،هذا أيضا ما طرحته روايته الأرملة تكتب الخطابات سرا، عن تلك الأرملة مدرسة اللغة العربية التي فقدت حياتها القديمة وتعوضها بكتابة خطابات غرامية للمراهقات لتستعيد ماضيها إنها سيدة تصنع واقعا بديلا لتحيا وكأنها تعيش من خلاله أو فيه
وفي روايته ضريح أبي يصنع طارق إمام عالماً عجائبياً،بطله وليٌ غامض يحيا داخل ضريحه، على خلفية مدينةٍ مصرية متخيلة، غريبة وموحشة. بعد موته بمئات السنين، ينجب الولي طفلاً من إحدى فقيرات المدينة.. يكبر الطفل ليجد نفسه ممزقاً بين قداسة أبيه وسطوته الروحية على الناس، وبين دنس أمه التي قُتلت في ظروف غامضة فور ولادته. يجد نفسه متهماً من أعداء أبيه بأنه ابن زنا، لا حق له حتى في الحصول على اسم، مثلما يجد نفسه متوجاً من قبل رجال "الطريقة" ومريدي أبيه كابن ووريث للرجل المقدس، إلى أن يأتي اليوم الذي يقرر له فيه أبوه أن يموت،وهنا يطرح النص هذا الصراع الأزلي بين الإنسان وقتل الأب ، الأب بدلالاته الكثيرة وفي القلب منها السلطوية ،وهنا تأتي المفارقة، فحين يكتب البطل ذاته وأحلامه تنمحي وتبيض صفحات المخطوط القديم، هذه العوالم العجائبية التي يطرحها النص لا يمكن أن تدفع إلا للخروج من أسر التقنيات التقليدية ،لتفتح الطريق إلى سرد مغاير بحثا عن نوع آخر من الجماليات المجاوزة، التي تدفع بتجدد عوالم الإبداع، وتنفي عنها نمطيتها.
وفي مدينة الحوائط الا نهائية تبدو واضحة محاور مشروع طارق إمام،إذ أنك أمام نص عصي على التوصيف فلا يندرج الكتاب ضمن نوع أدبى بعينه، أكان مجموعة قصصية، أو رواية،فأنت أمام موزاييك مبهر من الحكايات،تستلهم عوالم ألف ليلة وليلة الغرائبية دون استعارتها أو محاكتها ،وإن تمثلت قالبها البنائي ،عبر حكاية إطارية تتوالد منها الحكايات لتحظى كل منها باستقلالية حكائية يربطها خيط واهي،ويبدو فيها طارق إمام وفيا لرغبته فى التحرّر من النمط التقليدى فى الكتابة،فالنص مفتوح على التجريب والمدهش،
وفي نصه الهام الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس،تبدو المدينة وأسئلتها،وهي هنا الأسكندرية،والمدينة عنصر فاعل بل مفتاح أساس في تجربة طارق إمام ، سواء كانت مدينة محددة كما في إسكندرية كفافيس، أو مدينة صغيرة تراوح بين الريف والحضر كما في (الأرملة تكتب الخطابات سرا)، أو مدينة كبيرة مزدحمة بعوالم شتى قاسية وموحشة كما في (هدوء القتلة)،وأعتقد في هذه الرواية التأريخية،لا يعني طارق إمام البحث في شخصية كفافيس بقدر طرحه لأسئلة المدينة،بمعنى كيف تؤثر المدينة في الشخص وكيف يؤثر فيه،فطارق إمام مشغول بعلاقة الفرد بالمدينة؛ المدينة ذلك الكيان الضخم المحمل بكل ما هو عقائدي وجمعي وطاغ ، بينما يبدو الفرد أمامها ذات مهمشة ضائعة ،هذه الذات الفرد التي هي "سالم" في رواية هدوء القتلة و"الأرملة" في المدينة الصغيرة التي تعيش فيها، و"كفافيس" في الإسكندرية، وفي روايته الأخيرة طعم النوم كانت الأسكندرية أيضا هي المكان،المشغول بسؤال هويته،إذ تتجلى،. بين ما كان وما هو كائن ،فالرواية هنا تطرح الأسكندرية خلال ما يزيد على نصف قرن بين ستينيات القرن العشرين وعام 2014، وهي فترة حدث فيها ما حدث من تغييرات دالة وقاطعة، وهنا تأتي الأسئلة الشائكة إذ كيف تحولت المدينة من مدينة كوزموبوليتانية كونية منفتحة إلى مدينة مـُغلقة غارقة في سلفيتها وتشددها. وحتى هذا العمل الأخير في مسيرة الكاتب يظل طارق إمام وفيا لمغامراته وتجريبه،حيث تتقاطع "طعم النوم" مع "الجميلات النائمات" لكاواباتا و"ذاكرة عاهراتي الحزينات" لماركيز،في محاولة لاستلهام ما هو مسكوت عنه في الروايتين،وعبر لغة ككل روايات طارق إمام قلقة،كقلق سؤالها،تتضافر فيها الشعرية والموسيقى الناعمة،وليست لغة مطمئنة وجاهزة ومعلبة.
ويبقى السؤال،هل سـُيلجم طارق إمام نسق مشروعه المندفع نحو التجريب الا نهائي والذي يبدو دون حوائط و الذي يبدو للبعض إنه ينجرف بالنص إلى أدغال الضبابية والغموض المـُغلق المستعصي،حد أن البعض يتهم طارق ويعض مجايليه بالانسلاخ عن ما هو مجتمعي وما هو مؤرق من قضايا الواقع المعاش،الذي يحتاج إلى أدب يتفاعل معه ويوجهه،لا أن يتعالى عليه ويتجاوزه،أعتقد أن طارق إمام مشغول بهذا حاليا ،لمست ذلك من خلال تعليقات متبادلة بينه وبيني خلال الأيام السابقة عبر أحد مواقع التواصل،على أن هذا السؤال الخطير يطرح قضايا عميقة عن واقعنا النقدي المتأزم،وعن واقعنا المجتمعي الذي يتمحك في الحداثة وما بعدها وهو لم يفارق قرونه الوسطى بعد ، وعن سؤال الأدب كله في الأساس.،واعتقد أن طارق وغير طارق قادرين على تخطي هذا المرحلة الحرجة بأسئلتها،وهو ما ينذر تقريبا بأن طارق إمام موعود ومنذور بالتنظير النقدي في قادم الأيام,

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى