المصطفى الصغوسي - الاتجاه الوصفي في القصة القصيرة جدا، قراءة في نص "شيء ما" للمبدع الأردني محمد عارف مشة.

* شكرا للقاص والناقد المغربي ( المصطفى الصغوسي ) ، لهذه القراءة الرائقة


* على سبيل التقديم:
ما فتئت القصة القصيرة جدا تبهر قراءها بقدرتها المتلونة على خرق أفق انتظارهم إن على مستوى مضامينها المتجددة، وإن على مستوى فنيتها الحربائية. تجدد نتفق جميعا على شغبه الجميل في إرباك مشهد هذا القص، بحيث يصعب تحديد مدارسه واتجاهاته، بل وحتى الحسم في معماره الفني. فبالرغم من كل المحاولات النقدية التي انكبت على نصوص القصة القصيرة جدا، وحاولت مقاربتها، وغالبا ما كان يتم ذلك بمعاير الكتابة الروائية، أو محددات القصة القصيرة، وبالرغم من التراكم المعبر والدال الذي امدتنا به اقلام مبدعة، لا نستطيع القول مطمئنين: إن هذا نص قصصي قصير جدا وإن غيره ليس كذلك، بالارتكان لاعتبارات محددة ناتجة عن تقعيد ينضبط لشروط جنس مكتمل. هذا الارتباك والإرباك اللذان تولدا عن هذا الجنس هما، في نظري، علامة عافية وحياة، ماداما مرآة على ما يعتمل داخل جنس القصة القصيرة جدا وحولها من نقاشات مجتمعية وحوارات نقدية وأدبية عميقة هادفة.
* فنية القصة القصيرة جدا:
اطمأنت العديد من الكتابات النقدية ودوائر تلقي القصة القصيرة جدا على كونها بناء فنيا يتميز بتكثيفه واختزاله العاليين، وبسرديته القائمة على نوويات سردية فعلية تمنح الإحساس بالإيقاع الزمني وتسجل مسار الحدث المتنامي نحو نهايته غير المتوقعة، والتي كلما كان زوغانها عنها اكبر، كلما كانت المفارقة فيها أشد إدهاشا وتخييبا لأفق انتظار المتلقي.
لكن تأتي قصة المبدع الأردني محمد عارف مشة " شيء ما"، لتدفعنا نحو قناعة أن وراء تلك الدوائر التي حددت بصفتها مميزات فنية للقصة القصيرة جدا عموما، تقع تخوم أخرى غير مكتشفة تتبلور فيها هذه القصة بشكل متفرد وتنال بجدارة حق مواطنتها وتوطنها داخل جنسها الأدبي. تخوم يحضر فيها الوصف متسيدا باقي المكونات السردية وناظما لها.
متن القصة: شيء ما
ــــــــــــــــــــ
المنفضة ممتلئة بأعقاب السجائر . الستائر منسدلة . الباب مغلق. الإضاءة خافتة. السيدة تضع يدها على خدها. السرير عتيق. علبة التبغ فارغة. فنجان القهوة فارغ. القلب فارغ. سلة المهملات ممتلئة.
_________
من اللافت في هذا النص، كونه يذكرنا بأن سردية النص يمكن ايضا ان تتأتى من وصفيته، إلى درجة الاستغناء عن محورية الفعل وتعويضها بمركزية الصفة، في إطار ما يمكن أن نعتبره تطورا مذهلا نحو مدرسة في القصة القصيرة جدا تتكئ في آن على فن الهايكو وتوالي اللقطة السينمائية، ليصبح المتن السردي عبارة عن مجموعة لقطات، صور منفصلة لكنها فسيفسائية البناء، عنقودية التنضيد، مشدودة إلى فعل واحد (او فعلين)، يذكرنا بهشاشة المشهد وواهنية ما يحيل عليه.
فقصة "شيئ ما" تضمنت فعلا واحدا فقط هو: (تضع) لتجمع به شتات لقطات مشهدية متعددة متزامنة:
- المنفضة الممتلئة بأعقاب السجائر( للدلالة على طول الوقت، وعلى الانتظار، والأرق...).
- الستائر المسدولة( تعبيرا عن الوحدة والانعزالية، وعن جو الحزن والكآبة...).
- الباب مغلق ( يحيل على عدم الإحساس بالأمان، على الضيق وعلى الحدود...).
الإضاءة خافتة ( لتضفي بعدا آخر من الحزن والكآبة والضيق وضبابية الرؤية وغشاوتها...).
السيدة تضع يدها على خدها( وكأنها جزء، ليس إلا، من هذا المشهد الكئيب، الغارق في تأمل الذات وانكسارها، وكأنها لوحة الجوكندا او الموناليزا الحزينة المحاطة بالوان الكآبة...، وقد استعملها القاص محمد عارف مشة، وبذكاء كبير، بصيغة المعرفة ليشير إلى أنها ليس لوحدها في هذا المشهد العام، وإنما هناك من يقاسمها فضاءه المكاني رمزيا ( ضمن دلالة الغائب الحاضر، الحاضر الغائب المغيب وسط احتشام الإضاءة وغيمة الدخان والاحتراق، دون تقاسم الفضاء النفسي( دلالة وضع اليد على الخد في جلسة انتظار وقلة حيلة) ).
- السرير عتيق ( وفي عتاقته تاريخه، وفي تاريخية ذكريات وشجن، وفي عتاقته أيضا وحشة وبرودة وغياب أنس، طلل على زمن مضى وانصرم دون أن يصرم امتداد ظله المنيخ على الحاضر ( فعل وضع جاء بصيغة المضارع المعتل).
- علبة التبغ فارغة وفنجان القهوة فارغ( وهما بالإضافة إلى كونهما يضيفان تغميقا وكآبة إلى مشهدهما العام، ففي فراغهما انتهاء وموت، إحساس بالتلاشي وبالفقد، فإنهما بانتمائهما الجنسي( مؤنث / مذكر) يحيلان على قطبي ثنائية "هي" و "هو"، الحاضر الغائب.
- القلب فارغ ( وفي فراغه حزن بعد هجر ( كما قلب أم موسى بعد البعاد) وفي فراغه غياب ما كان يأويه من حب .
- سلة المهملات ممتلئة ( ويمكننا ان نعترف بوقوع صفة( ممتلئة) في مكانها المناسب وتوظيفها الحسن الذي جعلها تؤدي دور المفارقة ( من خلال القطيعة مع ما رسمته اللقطات/ الصفات السابقة في ذهن المتلقي، حين جاءت صفة ضدية لصفة الفراغ الذي تسيد المشهد، وفي الوقت نفسه تذكيرا بلقطة البداية "المنفضة ممتلئة" ( امتلاء~ فراغ~ امتلاء) لتوحي لنا بدائرية المعنى، وبالعود على بدء في مشهد حزن ممتد بين ضفاف الماضي والحاضر والمستقبل، سمته الهجر والبعاد والوحدة والكآبة في انتظار ان يحدث ( شيء ما) يحلحل المشهد ويعيد سهما انطلق عكس ما تشتهي رياح الوصل واللقاء.
يظهر من خلال هذه الإضاءة المشهدية لقصة المبدع محمد عارف مشة، أن القصة القصيرة جدا لم تبح بعد، بكل أسرارها وألاعيبها في بناء سرديتها، وأنها مطواعة جدا في يد المبدعين المتمرسين، على غرار محمد عارف مشة الذي استطاع بخلفيته الروائية، أن يوظف الوصف عنصرا مهما في بناء سرد القصة القصيرة جداً، بشكل ضمن لها حركيتها السردية ومفارقتها وإدهاشها. مساهما بذلك، وبهذه الإضافة الفنية الوازنة ( قصة (شيء ما)) في ترصيع مدرسة قصصية تنضج بمهل في ساحة الإبداع القصصي العربي على غرار ما نجده في نصوص مبدعين (في هذا الاتجاه)، نقدم ثلاثة نماذج لها من خلال:
كاريكاتير
قيء، قمل، مجاعة، صديد وألم، جثت متفحمة فاغرة الأفواه، خوف منيخ، آثار قصف عنيف، أنين وعيون متوسلة تطل من وراء الخراب، طابور من بقايا بشر بعاهات مختلفة، يتدربون على شارة النصر والهتاف للزعيم الجديد.
منشور بصفحة الفيس 2015، ثم ضمن مجموعة ترانيم القصص، دار ببلومانيا للنشر والتوزيع، مصر. 2017.
- نص (إجهاز) القاص المصطفى الصغوسي من المغرب:
إجهاز
واحد، اثنان، القلب هواء، الهواء ضاغط حظ الاختناق... عيون ماكرة مترصدة، أرواح هائمة بين الأنقاض...،ثلاثة؛ قُفِل المزاد، أُجبِر الوطن على التبرج للقادمين.
منشور على صفحة الفيس2016، ثم ضمن الجزء الثاني من ترانيم القصص، دار ببلومانيا للنشر والتوزيع.2018.
- نص القاص العراقي فاضل حمود الحمراني:
( انتباه)
بملابسه الرثة وأحذيته الممزقة، مازالت صور ذلك الطفل تحظى بكثرة المشاهدة وتأنيب الضمير. فقط على واجهات الصحف اليومية.
*****
قراءة أ المصطفى الصغوسي قاص وناقد من المغرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى